الأحد، 2 سبتمبر 2012

الرئيس و الحزب و الجماعة



الرئيس و الحزب و الجماعة[1]
قدري حفني
Kadrymh@yahoo.com
في ديمقراطيات العالم جميعا، يتصرف الحزب الفائز في الانتخابات بثقة المطمئن إلي فوزه الحريص علي ضرب المثل في سعة الصدر و الشفافية و العدل سعيا إلي تأكيد جدارته في الانتخابات القادمة، و تتصرف الأقلية -بصرف النظر عن حجمها- باعتبارها أقلية تسعي سعيا دؤوبا لإقناع الشعب بتعديل اختياراته في الانتخابات القادمة.
و قد اختارت غالبية الشعب المصري الرئيس محمد مرسي ليس باعتباره شخصية مستقلة، بل باعتباره مرشحا لحزب الحرية و العدالة الذي أنشأته جماعة الإخوان المسلمين. و لم يكن في ذلك الاختيار مجال لأي غموض؛ فالشعب المصري يعرف جماعة الإخوان المسلمين منذ عام 1928، و قد قرأ و استمع و شاهد ما بثه الإعلام المصري الرسمي عبر سنوات طوال عن سلبيات الجماعة.
إن نجاح رئيس حزبي ليس بدعة في الدول الديمقراطية، و لكنها تجربة جديدة علي تاريخنا؛ فلقد ظل الإعلام الرسمي طيلة عقود يؤكد أن وحدتنا الوطنية تتناقض مع الحزبية التي تفتتنا و تضعفنا؛ و أن الأحزاب و الحزبية دنس لا يليق بوطني مخلص أن ينغمس فيه، و أن "الاستقلال" لا يعني استقلال الوطن فحسب بل  استقلال المواطن الفرد عن أي انتماء حزبي بعيد عن السلطة، و اكتسبت تعبيرات المرشح المستقل و النائب المستقل و الرئيس المستقل بريقا زائفا، و رأت أجيال متتابعة من المصريين كيف كان بساق إلي السجون و معسكرات التعذيب من تحوم حولهم شبهة ارتكاب جريمة الانتماء الحزبي سواء كانوا من اليسار أو من الجماعات الإسلامية. 
لقد كان سعد زغلول ثم مصطفي النحاس آخر الوجوه الحزبية التي اختارها المصريون؛ إلي أن اختاروا بعد ستة عقود الرئيس محمد مرسي رئيس حزب الحرية و العدالة في مواجهة مرشح يعتبر مستقلا بمعايير النظام القديم.
و بدا الأمر في عيوننا ملتبسا خاصة حين حرص الرئيس بعد انتخابه علي تقديم نفسه ليس باعتباره مستقلا عن حزب الحرية و العدالة فحسب بل عن جماعة الإخوان المسلمين أيضا. و بطبيعة الحال بدا الأمر عصيا علي التصديق بل حتي علي التصور، ليس لأنه من الناحية العلمية لا يمكن فصم الانتماء الفكري لجماعة سياسية هكذا فجأة، و لكن أيضا من حيث أن صورة البيعة تبدو في عيون الناس باعتبارها ميثاقا لا ينفصم إلا بحدث جلل يهز معتقدات المرء و صورة الجماعة لديه مما يدفعه للتبرؤ منها، أو أن يصدر من الفرد تصرفا تأباه الجماعة فتفصله من عضويتها، أما أن تسعي الجماعة جاهدة لمساندة ابنها و مرشحها في الانتخابات حتى الفوز ، ثم إذا به يدير ظهره لها و تدير ظهرها له؛ فهو ما يبدو عصيا علي الفهم.
و لذلك فقد اندفعت المعارضة في سعي محموم علي مدار الساعة للتثبت من أن الرئيس الذي انتخبه الشعب كمرشح لحزب الحرية و العدالة لم يعد منتميا للحزب و لا لجماعة الإخوان المسلمين. و أصبح الحزب و الجماعة مطالبون بإثبات أنه لم تعد لهم علاقة بالرئيس. باعتبار أن الرئيس لكي يكون عادلا ينبغي أن يكون مستقلا عن حزبه متحللا من أي انتماء سياسي مسبق.
و أصبحنا حيال مشهد بالغ الغرابة : الحزب الفائز بأصوات الغالبية يسعي لإثبات أنه أقلية و أن أبناءه لا يشغلون سوي أقلية من المناصب المؤثرة في الدولة. و انعكس ذلك الموقف علي بعض التيارات  التي لم تحرز الفوز في الانتخابات فإذا بها تتصرف كما لو كانت هي صاحبة الحق الشرعي في الحكم بصرف النظر عن نتيجة الانتخابات، مؤكدة أن من يختارهم الرئيس لشغل الوظائف الحاكمة ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين حتي لو أعلنوا و أعلنت الجماعة أن هذا غير صحيح.
و يبلغ التناقض غايته بالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين التي ما زالت تتصرف في كثير من المواقف كما لو انها "الجماعة المحظورة" التي ينبغي أن تأخذ حذرها من السلطة و أن تحافظ علي أمانها شأن التنظيمات السرية فلا تفصح عن كشوف عضويتها و لا عن مصادر تمويلها. و في الحقيقة فقد كان لذلك الحذر ما يبرره تماما منذ قرر النقراشي  في 8 ديسمبر 1948 حل الجماعة ومصادرة أموالها وأملاكها ومؤسساتها و فصل أعضائها من الوظائف الحكومية و الزج بهم في السجون و المعتقلات، أما بعد أن أصبح علي رأس البلاد رئيس الحزب المنبثق من رحم الجماعة؛ فقد أصبح الموقف مثيرا للتسؤلات. تري ألم تطمئن الجماعة بعد إلي أن حزبها قد فاز بالفعل باختيار الشعب المصري؟ هل ما زالت في شك من تمكن حزبها من السلطة حتي بعد اتخاذ الرئيس لقرارات 12 أغسطس التاريخية التي استخلصت السلطات كاملة من أيدي المجلس العسكري؟
خلاصة القول إن الأمر لن يستقر إلا حين يوقن الجميع أنه لم يعد مجال للانقلاب علي الآليات الديمقراطية التي يعرفها العالم جميعا، و أن علي حزب الأغلبية أن يتصرف بثقة الحائز علي الأغلبية الذي لا يملك تجاهل الأقلية أو التعالي عليها إذا شاء تجديد الثقة به في الانتخابات القادمة، و أن تلتزم الأقلية مهما كان حجمها بممارسة النقد المستمر لسلبيات الحكم سعيا لكسب ثقة الناخبين في الانتخابات القادمة، و أن تطمئن جماعة الإخوان المسلمين لاستقرار السلطة في مصر فتقوم من جانبها و دون انتظار لأحكام القضاء بكشف أوراقها للشعب الذي أولي ثقته لحزبها


[1] الأهرام، 2 سبتمبر 2012
الرئيس و الحزب و الجماعة[1]
قدري حفني
Kadrymh@yahoo.com
في ديمقراطيات العالم جميعا، يتصرف الحزب الفائز في الانتخابات بثقة المطمئن إلي فوزه الحريص علي ضرب المثل في سعة الصدر و الشفافية و العدل سعيا إلي تأكيد جدارته في الانتخابات القادمة، و تتصرف الأقلية -بصرف النظر عن حجمها- باعتبارها أقلية تسعي سعيا دؤوبا لإقناع الشعب بتعديل اختياراته في الانتخابات القادمة.
و قد اختارت غالبية الشعب المصري الرئيس محمد مرسي ليس باعتباره شخصية مستقلة، بل باعتباره مرشحا لحزب الحرية و العدالة الذي أنشأته جماعة الإخوان المسلمين. و لم يكن في ذلك الاختيار مجال لأي غموض؛ فالشعب المصري يعرف جماعة الإخوان المسلمين منذ عام 1928، و قد قرأ و استمع و شاهد ما بثه الإعلام المصري الرسمي عبر سنوات طوال عن سلبيات الجماعة.
إن نجاح رئيس حزبي ليس بدعة في الدول الديمقراطية، و لكنها تجربة جديدة علي تاريخنا؛ فلقد ظل الإعلام الرسمي طيلة عقود يؤكد أن وحدتنا الوطنية تتناقض مع الحزبية التي تفتتنا و تضعفنا؛ و أن الأحزاب و الحزبية دنس لا يليق بوطني مخلص أن ينغمس فيه، و أن "الاستقلال" لا يعني استقلال الوطن فحسب بل  استقلال المواطن الفرد عن أي انتماء حزبي بعيد عن السلطة، و اكتسبت تعبيرات المرشح المستقل و النائب المستقل و الرئيس المستقل بريقا زائفا، و رأت أجيال متتابعة من المصريين كيف كان بساق إلي السجون و معسكرات التعذيب من تحوم حولهم شبهة ارتكاب جريمة الانتماء الحزبي سواء كانوا من اليسار أو من الجماعات الإسلامية. 
لقد كان سعد زغلول ثم مصطفي النحاس آخر الوجوه الحزبية التي اختارها المصريون؛ إلي أن اختاروا بعد ستة عقود الرئيس محمد مرسي رئيس حزب الحرية و العدالة في مواجهة مرشح يعتبر مستقلا بمعايير النظام القديم.
و بدا الأمر في عيوننا ملتبسا خاصة حين حرص الرئيس بعد انتخابه علي تقديم نفسه ليس باعتباره مستقلا عن حزب الحرية و العدالة فحسب بل عن جماعة الإخوان المسلمين أيضا. و بطبيعة الحال بدا الأمر عصيا علي التصديق بل حتي علي التصور، ليس لأنه من الناحية العلمية لا يمكن فصم الانتماء الفكري لجماعة سياسية هكذا فجأة، و لكن أيضا من حيث أن صورة البيعة تبدو في عيون الناس باعتبارها ميثاقا لا ينفصم إلا بحدث جلل يهز معتقدات المرء و صورة الجماعة لديه مما يدفعه للتبرؤ منها، أو أن يصدر من الفرد تصرفا تأباه الجماعة فتفصله من عضويتها، أما أن تسعي الجماعة جاهدة لمساندة ابنها و مرشحها في الانتخابات حتى الفوز ، ثم إذا به يدير ظهره لها و تدير ظهرها له؛ فهو ما يبدو عصيا علي الفهم.
و لذلك فقد اندفعت المعارضة في سعي محموم علي مدار الساعة للتثبت من أن الرئيس الذي انتخبه الشعب كمرشح لحزب الحرية و العدالة لم يعد منتميا للحزب و لا لجماعة الإخوان المسلمين. و أصبح الحزب و الجماعة مطالبون بإثبات أنه لم تعد لهم علاقة بالرئيس. باعتبار أن الرئيس لكي يكون عادلا ينبغي أن يكون مستقلا عن حزبه متحللا من أي انتماء سياسي مسبق.
و أصبحنا حيال مشهد بالغ الغرابة : الحزب الفائز بأصوات الغالبية يسعي لإثبات أنه أقلية و أن أبناءه لا يشغلون سوي أقلية من المناصب المؤثرة في الدولة. و انعكس ذلك الموقف علي بعض التيارات  التي لم تحرز الفوز في الانتخابات فإذا بها تتصرف كما لو كانت هي صاحبة الحق الشرعي في الحكم بصرف النظر عن نتيجة الانتخابات، مؤكدة أن من يختارهم الرئيس لشغل الوظائف الحاكمة ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين حتي لو أعلنوا و أعلنت الجماعة أن هذا غير صحيح.
و يبلغ التناقض غايته بالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين التي ما زالت تتصرف في كثير من المواقف كما لو انها "الجماعة المحظورة" التي ينبغي أن تأخذ حذرها من السلطة و أن تحافظ علي أمانها شأن التنظيمات السرية فلا تفصح عن كشوف عضويتها و لا عن مصادر تمويلها. و في الحقيقة فقد كان لذلك الحذر ما يبرره تماما منذ قرر النقراشي  في 8 ديسمبر 1948 حل الجماعة ومصادرة أموالها وأملاكها ومؤسساتها و فصل أعضائها من الوظائف الحكومية و الزج بهم في السجون و المعتقلات، أما بعد أن أصبح علي رأس البلاد رئيس الحزب المنبثق من رحم الجماعة؛ فقد أصبح الموقف مثيرا للتسؤلات. تري ألم تطمئن الجماعة بعد إلي أن حزبها قد فاز بالفعل باختيار الشعب المصري؟ هل ما زالت في شك من تمكن حزبها من السلطة حتي بعد اتخاذ الرئيس لقرارات 12 أغسطس التاريخية التي استخلصت السلطات كاملة من أيدي المجلس العسكري؟
خلاصة القول إن الأمر لن يستقر إلا حين يوقن الجميع أنه لم يعد مجال للانقلاب علي الآليات الديمقراطية التي يعرفها العالم جميعا، و أن علي حزب الأغلبية أن يتصرف بثقة الحائز علي الأغلبية الذي لا يملك تجاهل الأقلية أو التعالي عليها إذا شاء تجديد الثقة به في الانتخابات القادمة، و أن تلتزم الأقلية مهما كان حجمها بممارسة النقد المستمر لسلبيات الحكم سعيا لكسب ثقة الناخبين في الانتخابات القادمة، و أن تطمئن جماعة الإخوان المسلمين لاستقرار السلطة في مصر فتقوم من جانبها و دون انتظار لأحكام القضاء بكشف أوراقها للشعب الذي أولي ثقته لحزبها


[1] الأهرام، 2 سبتمبر 2012