ناصر


ناصر و الآخر[1]
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
تتفق أدبيات علم النفس الاجتماعي السياسي علي أن الآخر شرط لوجود الأنا، و أن "الآخرين" شرط لوجود النحن، كما تتفق تلك الأدبيات أيضا علي أن ملامح الآخر وأساليب التعامل معه إنما يكتسبها الفرد من خلال تراكم خبراته ومعارفه و علي أي حال فلن نخوض كثيرا في تفاصيل الموضوع مكتفين بلمحة سريعة. الصور التي يتخذها الآخر تتعدد وتتباين من حيث ما تثيره من انفعالات وما تستدعيه من استجابات سلوكية. الآخر "المجهول" ، والآخر "الصديق" ، والآخر "العدو" ولكل منهم ما يستثيره من انفعالات وما يستدعيه من سلوكيات_ وسوف نتوقف قليلا أمام صور ذلك الآخر العدو التي يجمع بينها رغم تعددها ما تثيره من إحساس بالتهديد و الخطر. ولعل أبسط تصنيفات صور الآخر "العدو" تتمثل في صورتي "العدو الخارجي"، و "العدو الداخلي" بمعني العدو الذي ينتمي لجماعة خارج إطار النحن، في مقابل العدو الذي ينتمي لنفس جماعة النحن.
لقد آثرت أن أقصر تناولي علي تلك الصورة الأخيرة من صور الآخر "العدو" تحديدا، أعني "العدو الداخلي"، وذلك لعدة اعتبارات. أولها أنها المشكلة التي بدأت تتخذ صورة حادة مع تولي ناصر للسلطة، ومازالت محاولات معالجتها جارية حتي اليوم. ومن ناحية أخري فإن انصراف الجانب الأكبر من الجهد الوطني للتصدي لمواجهة "العدو الداخلي" قد لعب دورا كبيرا في العثرات والهزائم التي منيت بها مواجهاتنا مع "العدو الخارجي".
لم يكن عبد الناصر مجرد ضابط صدمه ما جري في حرب فلسطين فقرر حينذاك أن يكون تنظيما يصحح به ما رآه مختلا. و لم تبدأ علاقة عبد الناصر بالسياسة عندما شكل تنظيم الضباط الأحرار. لقد بدأ اهتمام عبد الناصر بالشأن العام منذ كان طالبًا، حيث يشير المؤرخون إلي اشتراكه في مظاهرات الطلبة آنذاك. ويشيرون أيضًا إلي حقيقة أنه لم يكن بعيدًا عن التيارات السياسية الحزبية القائمة آنذاك، بل انه اقترب من أنشطة أهم تيارين سياسيين راديكاليين قبل يوليو 52، جماعة الإخوان المسلمين، ومنظمة حدتو الشيوعية، إلي حد أن حسبه كل من التيارين عضوا عاملا ملتزما من أعضائه. و كانت نقطة الحسم في فكر و ممارسة عبد الناصر تتمثل في قراره باستقلالية تنظيم الضباط الأحرار عن أي تيار سياسي خارج الجيش.
تري لماذا اتخذ عبد الناصر هذا القرار؟ هل هو قراره منذ البداية؟ هل اتخذه بعد الاستيلاء علي السلطة؟ أم انه كان يضمره دون إعلان وآثر إرجاء إعلانه إلي حين؟ و الأهم من كل ذلك كيف استطاع عبد الناصر أن يستوعب الجمع بين اقترابه من منظمتي الإخوان المسلمين و حدتو المتناقضين؟ تري ما حقيقة انتمائه الفكري؟ هل كان أميل فكريا إلي أي منهما؟
اختبار الإمكانات
ليس أمامنا سوي أن نفترض مؤقتا -رغم تأكيد كلا الجانبين علي العكس- أن علاقات عبد الناصر بتنظيمي الإخوان المسلمين و حدتو كانت نوعا من اختبار إمكانيات كل منهما في الوصول إلي السلطة، وأن عملية الاختبار هذه قد وصلت بناصر إلي قناعة مؤداها أن إمكانيات أي منهما في هذا الصدد تكاد تكون معدومة، أو علي الأقل تحتاج لوقت طويل يصعب التكهن بحسابه أو حساب متغيراته.
و نجح عبد الناصر في عملية الاستيلاء علي السلطة والإطاحة بالنظام الملكي من خلال تشكيله وقيادته لجماعة سرية منظمة تعارض النظام القائم وتسعي لتغييره بالقوة. و كان ذلك النجاح هو أول الدروس التي استوعبها عبد الناصر في مجال السياسة العملية، و تتمثل أهم مفردات ذلك الدرس العملي فيما يلي:
أولا: لم يكن تنظيم الضباط الأحرار يضم كل أو حتي غالبية ضباط الجيش المصري، ولا يعني ذلك أن تلك الغالبية كانت تؤيد الحفاظ علي النظام الملكي القائم، فثمة الكثير من رجال الجيش المصري لم تكن توجهاتهم السياسية تختلف كثيرًا عن توجهات مجموعة ناصر. و كان لعبد الناصر أن يخلص من ذلك بالضرورة إلي أن عملية التغيير لا تتطلب بالضرورة استطلاع رأي الجماعة أولا، و استفتائها، بل يكفي للقائد استنتاج ميل الأغلبية والتحرك وفقًا لذلك.
ثانيا: كان الفارق الجوهري المميز لمجموعة ناصر عن بقية الضباط الرافضين للأوضاع القائمة أنها كانت مجموعة منظمة، أي تنظيم، في حين ظل الآخرون أفرادا. و كان حتما أن يخلص عبد الناصر من ذلك إلي أنه يستحيل الإطاحة بالنظام دون قيام تنظيم قادر علي التنفيذ.
ثالثًا: كان الفارق الجوهري بين تنظيم الضباط الأحرار وبقية التنظيمات السرية الفاعلة في المجتمع المصري، أن تلك التنظيمات تفتقد القوة العسكرية الضرورية للإطاحة بالنظام القائم. و كان طبيعيا أن يخلص عبد الناصر من ذلك إلي أن التنظيمات المدنية السرية قد تنجح في إثارة القلاقل ولكنها لن تتمكن من الإطاحة بالنظام إلا بتوافر قوة مسلحة تعادل القوة المسلحة المتوافرة لدي النظام القائم.
و فيما أتصور فقد ظل ذلك الدرس بمفرداته الثلاث ماثلا في وعي ناصر طيلة حياته، بل استمر ضاربا بجذوره العميقة في نظام يوليو، مشكلا ملامح ذلك الآخر العدو الداخلي المهدد للنظام. إنه -أي ذلك العدو- يتمثل في قيام جماعة منظمة مستقلة عن النظام القائم بدرجة أو بأخري، بصرف النظر عن طبيعة أفكارها، ويتزايد ذلك الخطر باقتراب تلك الجماعة من القوات المسلحة.
لا تنظيم آخر
لقد كانت بداية تعامل عبد الناصر مع ذلك الآخر العدو بداية قد لا تكون مألوفة في تاريخ الثورات. كانت البداية هي حل تنظيم الضباط الأحرار ذاته، تنظيم ناصر الذي نجح في الإطاحة بالنظام القديم. صحيح أنه نجح تحت قيادة عبد الناصر، وصحيح كذلك أنه يدين لعبد الناصر بالولاء، ولكنه في النهاية تنظيم. و لم يعد مقبولا من وجهة نظر عبد الناصر أن يظل تنظيم الضباط الأحرار هو القائد للنظام، حتي وإن كان علي رأسه عبد الناصر شخصيا. لقد تجاوز عبد الناصر دوره في تولي السلطة كزعيم يمثل تنظيم الضباط الأحرار، ليصبح ممارسًا للسلطة كمجسد للشعب المصري مباشرة.
و يؤكد ذلك ما ورد في شهادات عدد من الضباط الأحرار و المنشورة علي موقع قناة الجزيرة إذ يقول خالد محيي الدين إن ضباط المدفعية كانوا أول تمردعلي قيادة الثورة وفي يوم 15 يناير عام 1953 تم اعتقال رشاد مهنا و 35 ضابطا وحكم علي بعضهم بالإعدام وخفف بعد ذلك بالأشغال الشاقة المؤبدة ويقول أحمد حمروش "الصورة وصلت إلي مجلس القيادة علي إن فيه محاولة إنقلاب ودي عملية سهلة يعني إذا كانت الثورة قامت كلها وغيرت النظام في مصر خلال ساعات ممكن برضه مجموعة ضباط يجتمعوا ويعملوا حاجة تعطل مسار الثورة فحصلت عمليات اعتقالات ضباط المدفعية وأنا اعتقلت لإن كان فيه بلاغ خاطئ من أحد الضباط اللي بيراقبوا وقعدت يعني 50 يوم من غير أي تحقيق ثم أفرج عني في تحقيق ما استمرش ربع ساعة قام به البكباشي زكريا محيي الدين في الوقت ده" و يقول توفيق عبده إسماعيل "اتقبض عليهم يوم 14 يناير سنة 53 و اتهم حسني الدمنهوري إنه بيعمل انقلاب ومجلس قيادة الثورة عين نفسه محكمة وحكموا عليه بالإعدام ولولا إن محمد نجيب كان يعرفه شخصيا قال له لا يمكن إن ده يعمل إنقلاب وللا يفكر في انقلاب فيعني نحول الحكم لمؤبد حوله لمؤبد وقضي منهم 7 سنين وخرج ، ضباط المدفعية خدوا 15 سنة و 10 سنين و 7 سنين كانوا 35 ضابط أظن 21 منهم خدوا أحكام والباقيين خدوا براءة"
اجتثاث الأحزاب
لم يكن غريبًا والأمر كذلك أن يكون أحد أهم الأهداف الرئيسية للنظام الجديد تأمين القوات المسلحة لضمان ألا يؤدي نجاح تنظيم الضباط الأحرار في الإطاحة بالنظام البائد إلي إغراء آخرين بتكرار نفس التجربة، وكانت تلك هي المهمة الأساسية بل وتكاد أن تكون الوحيدة التي أوكلها عبد الناصر للمشير عبد الحكيم عامر عندما قلده منصب القائد العام للقوات المسلحة، و هي المهمة التي أداها عامر باقتدار شديد وبنجاح مذهل حتي هزيمة 1967.
ولم يكن غريبًا أيضًا والأمر كذلك أن تتخذ الثورة قرارًا حاسمًا باجتثاث النظام الحزبي من جذوره، وليس مجرد حل وإلغاء الأحزاب القائمة. النظام الحزبي يقوم بداية علي مشروعية قيام جماعات منظمة مستقلة عن النظام، فضلا عن أنه يقوم كذلك علي التسليم نظريا علي الأقل بمبدأ تداول السلطة، وهو ما لا يمكن إلا أن يكون دعوة صريحة لإمكانية تغيير القيادة الثورية القائمة الأمر الذي لا يمكن القبول به.
وإذا كان اجتثاث النظام الحزبي العلني أمرا ميسورًا نسبيا، فإن سحق التنظيمات الحزبية السرية كان أمرًا يتطلب آلية أشد قسوة وحسمًا. إنها جماعات منظمة متمرسة علي السرية، خبيرة بفنيات تحريك الجماهير، وآليات التعامل مع أساليب القهر السلطوي الذي تعرضت له طويلا في ظل النظام الملكي البائد، وهي إلي جانب ذلك تسعي للامتداد داخل تشكيلات الجيش. وعبد الناصر خير من يعرف كل ذلك بحكم اقترابه الوثيق من جناح الضباط في تنظيم حدتو الشيوعي، و كذلك في تنظيم الإخوان المسلمين. ولم يكن بد إذن من استحداث أساليب تفوق تلك التي مارسها النظام الملكي البائد.
مباشرة مع الجماهير
لسنا بصدد الإغراق في تفاصيل ما مارسته السلطة حيال المنتمين لتلك التنظيمات الشيوعية و الإخوانية من آليات متطورة في التعذيب البدني والنفسي. ولعلنا نختلف بدرجة أو بأخري حول مدي مبالغة تلك الأساليب في قسوتها. وقد تتباين آراؤنا حول تقدير مدي نجاحها في تحقيق هدفها. بل اننا قد نختلف حول مدي ضرورتها وإمكانية تحاشي حدوثها أصلا في ظل الظروف التي كانت قائمة آنذاك. ولكن يبقي سؤالان في حاجة إلي إجابة:
السؤال الأول هو أن ناصر قد اتبع ما اتبع من أساليب بالغة الضراوة للقضاء علي ذلك الآخر الذي اعتبره عدوا، فأطاح بجميع الجماعات المنظمة المستقلة عن النظام، ولم يلبث أن أصبح الزعيم المباشر للجماهير دون حاجة إلي تنظيم سياسي حقيقي. والسؤال هو: لماذا لم تنتفض الجماهير في وجه النظام الجديد مدافعة عن أحزابها وتنظيماتها؟
لقد تعددت الإجابات في هذا الصدد وتناقضت. رأي البعض أن الجماهير إنما انصرفت عن تلك التنظيمات نظرا لما تبينته من فسادها، فضلا عما قدمه ناصر من مكاسب حقيقية مباشرة لتلك الجماهير. ومن ناحية مقابلة فقد حاول البعض إرجاع الأمر إلي عصا النظام الغليظة وما أثارته من رعب في قلوب الناس فأولوا ظهورهم لكل شيء حرصًا علي حياتهم، فضلا عن نجاح إعلام عبد الناصر في تضليل الجماهير وتشويه صورة التنظيمات الحزبية المستقلة.
وفيما نري فإن لكل تلك التفسيرات جانب من الحقيقة ولكنها تظل قاصرة عن تفسير ما جري تفسيرا شاملا. لقد كانت عصا النظام غليظة بالفعل، وصحيح أن الجماهير وقد افتقدت تنظيماتها، قد تنكمش خوفا من غلظة العصا مفضلة أن تحتفظ بأفكارها داخلها في سبيل الحفاظ علي حياتها. غير أن المتأمل لجماهيرية ناصر الكاسحة التي صاحبته حتي يوم تشييع جنازته، يصعب عليه التسليم ببساطة بهذا التفسير. الجماهير الخائفة قد تؤثر السلامة فتصمت، أو حتي تجاري السلطان الجائر تحاشيا لنقمته، ولكن الأمر لا يصل بتلك الجماهير إلي ذلك الحد الذي وصلته في الالتفاف حول ناصر حتي في تشييع جنازته.
أما فيما يتعلق بإرجاع الأمر إلي الإعلام ودوره في تضليل الجماهير، فإن الأمر يحتاج كذلك إلي وقفة متأنية. صحيح أن للإعلام دورا لا يمكن نكرانه في تشكيل وعي الجماهير، خاصة في عصر ناصر حيث كان حجب العديد من الحقائق عن الجماهير ميسورا. ولكن ماذا عن جماهيرية عبد الناصر المستمرة حتي اليوم رغم انكشاف العديد من الحقائق التي كانت بعيدة عن معرفة الجماهير.
أما بالنسبة لوجهة النظر التفسيرية المقابلة فإنها فيما نري تحتاج أيضًا إلي وقفة متأنية. فليس من السهل أن نقدم ببساطة علي وضع جميع التنظيمات السياسية المصرية التي كانت قائمة قبيل الثورة في سلة واحدة واصمين إياها بالفساد والانحلال. لقد كانت تلك التنظيمات هي التي مهدت المناخ الجماهيري للقبول بالإطاحة بالنظام الملكي. و في ظل تلك التنظيمات وبدعمها استطاعت الجماهير تنظيم مظاهرات غاضبة مناهضة للملك والاحتلال البريطاني شارك فيها عبد الناصر، بل واستطاعت تلك الجماهير تحدي السلطة وانتخاب برلمان وفدي بأغلبية تعد ساحقة بمعدلات مجتمعات التعددية الحزبية. في ظل تلك التنظيمات استطاعت الجماهير تنظيم حركة فدائية لمقاومة الاحتلال البريطاني شارك في تدريب أفرادها ومدهم بالسلاح عبد الناصر شخصيا وتنظيم الضباط الأحرار. في ظل تلك التنظيمات استطاعت الصحافة الوطنية بمساعدة تنظيم الضباط الأحرار أن تفتح ملف ما عرف بقضية الأسلحة الفاسدة في فلسطين. ولا يعني كل ذلك بطبيعة الحال أن الحقبة السابقة علي يوليو كانت حقبة وردية. الظلم الاجتماعي كان فادحًا، والاستعمار البريطاني جاثم علي الصدور، ولكن الحياة السياسية كانت تشهد آنذاك مخاضا فكريا هائلا يحمل نذر تغيير قادم للأفضل.
خلاصة القول أنه يصعب تفسير مثل تلك الإشكالية تفسيرًا أحاديا، فكل التفسيرات المطروحة تتكامل ولا يستبعد بعضها بعضًا. لقد كانت وما زالت جماهيرية ناصر نتاجا لتكاتف العديد من العوامل.
صورة الأب
و لعلنا نجد في اجتهادات علم النفس الاجتماعي الإطار الذي يمكن أن يسهم في تفسير تلك الجماهيرية التي حظي بها ناصر. لقد تطابقت صورة ناصر في وعي الجماهير المصرية مع نموذج الأب الشريف الذي يسهر علي كفالة الأمن والحياة لأطفاله الصغار. كان ناصر نموذجا مصريا أصيلا للأب المحب لأطفاله، دون أن يعني ذلك بطبيعة الحال أن يطيعهم، بل العكس هو الصحيح، فهو الأدري بمصالحهم. إنه يلتزم حيالهم بتوفير الطعام والمسكن والتعليم فضلا عن حمايتهم من أعدائهم في الداخل والخارج، وليس بمستكثر علي مثل هذا الأب أن يتوقع من أطفاله الطاعة المطلقة، وأن يعاقبهم أشد ما يكون العقاب إذا ما خرجوا عن طاعته، فهي طاعة تصب في النهاية في مصلحتهم هم. و ليس غريبا أن يسعد الأطفال كل السعادة بهذه الصفقة التي تريحهم من عبء المفاضلة والاختيار والنضال المجهد في مجتمع قاس لا يرحم.
لقد تنازلت الجماهير لعبد الناصر، و بكل الرضا، عن حريتها في تكوين تنظيماتها السياسية المستقلة، مقابل ضمان الحياة والأمن. و إذا كان ذلك قد يبدو غريبا في أعين البعض. بل و قد يبدو مستهجنا في أعين الكثير من المناضلين في سبيل الحرية، فإنه يبدو مفهوما تماما، بصرف النظر عن قبوله أو عدمه، لدي علماء النفس الاجتماعي السياسي.
أهلا بالأفراد
السؤال الثاني قد يكون أكثر تركيبًا. لقد سردنا حتي الآن من الشواهد ما يشير إلي أنه كان حتما بحكم ممارساته السياسية أن يصبح عبد الناصر معاديا للجماعة المستقلة عن النظام بصرف النظر عن توجهها السياسي. ورب من يتساءل وبحق كيف يمكن أن يتسق ذلك مع شهادات العديدين ممن أتيح لهم التعامل معه عن قرب والتي تشير إلي أنه كان يجيد الإصغاء إليهم، ويقارعهم الحجة بالحجة. ولنكن أكثر تحديدًا. ألم يقرب عبد الناصر منه من يعرف يقينًا أنهم يحملون فكرًا إخوانيا أو ماركسيا؟ لماذا نتحدث عن المعتقلات والتعذيب لأصحاب الفكر المخالف، ولا نشير علي سبيل المثال إلي العديد من المثقفين أصحاب الفكر المعلن المختلف والذين لم تصبهم عصا ناصر الغليظة؟. ولماذا لا نشير أيضًا إلي من طالتهم عصا النظام الغليظة رغم أن فكرهم لا يحمل شبهة اختلاف عن فكر النظام، بل ان انتماءهم التنظيمي الوحيد كان للضباط الأحرار؟. لقد ضمت معتقلات الشيوعيين في نهاية الخمسينيات علي سبيل المثال جماعة تشيد بإنجازات الثورة، و تؤيد ناصر إلي أبعد مدي، ورغم ذلك فقد تعرضوا للتعذيب الذي وصل إلي حد سقوط الضحايا، واستمرت الجماعة بعد كل ذلك متمسكة بالتعبير عن موقفها الفكري المبدئي، واستمرت رغم ذلك عصا النظام الغليظة علي الرؤوس والأجساد، إلي أن اقتنعت التنظيمات الشيوعية بضرورة إنهاء وجودها المستقل واتخذت قرارها بذلك، وعندها فقط تغير الموقف.
وإذا كان لي أن أجتهد فأفسر فإنني لا أجد في ذلك أي نوع من التناقض. لم يكن ناصر معاديا للرأي الآخر علي إطلاقه، بل كان معاديا بالتحديد لذلك الرأي إذا ما توافر له شرط التنظيم الجماعي، أما إذا ما ظل رأيا فرديا إيا كانت درجة اختلافه مع النظام فلا بأس من سماعه بل ولا بأس في أحيان كثيرة من السماح بإعلانه. الفكر لا يمثل خطرا، ولكن مكمن الخطر في التنظيم. لو استعدنا نموذج علاقة الأب بصغاره لاتضح الموقف أكثر. إن الأب في النموذج الذي عرضناه لا يضيق بل لعله قد يسعد برأي يبديه له صغيره إذا ما التزم ذلك الصغير بحدود الأدب والاحترام الواجب، أي التزم بموقف المتعلم، وتجنب مواقف الندية، وتحاشي الاختيار المستقل لشلة الأقران، فهو في النهاية ما زال صغيرا.


[1] الأهالي، 27 أكتوبر 2010. نسخة محدثة للكلمة التي ألقيت في 20 إبريل 2002ضمن برنامج ندوة احتفالية ثورة يوليو التي أقامتها دار الكتب والوثائق بالقاهرة