في مهب رياح الثورة و الهزيمة والبترول
قدري محمود حفني
سيكولوجية الانتماء
أود
بداية أن أشير إلي أنه لا ينبغي لتخصصنا في علم النفس أن يخفي عنا حقيقة أن عملية
الانتماء للأمة ليست بالعملية النفسية الخالصة، وإن كان البعد النفسي بعدًا أساسيّا
من أبعادها · فتكوين الأمة - أيا كانت - لا بد وأن تتوافر له شروط تتعلق بالمكان، وبالاقتصاد،
وباللغة، ثم تكتمل هذه الشروط بالتكوين النفسي المشترك الذي يعد ركنًا أساسيّا،
وإن لم يكن الركن الأوحد، لتكوين الأمة. ومن هنا كانت ضرورة تناولنا للبعد النفسي لعملية الانتماء
لعل
أول الحقائق التي ينبغي الإشارة إليها في هذا الصدد، حقيقة ذات طابع فيزيقي
اجتماعي · فالوليد الإنساني، وبحكم تكوينه الفيزيقي، لا بد وأن يعتمد في
بقائه حيّا علي الآخرين.
ولابد أيضًا وأن يكون هؤلاء الآخرون - وبحكم عملية الإنجاب - من أبناء الجيل
الأكبر · وما أن يشب ذلك الوليد عن الطوق، حتى تتحول تلك الضرورة الفيزيقية إلي
ضرورة اجتماعية لا تقل عنها خطرًا؛
فحتمية الاعتماد علي "الكبار" تستمر حتى الرشد. أي حتى الاستقلال عن الأسرة متمثلًا في
الحصول علي رخصتي الزواج والعمل.
وطوال هذه الفترة التي تطول كلما تقدم المجتمع حضاريّا، لا يقتصر تمثيل الكبار علي
الأب والأم فحسب، بل يتسع النطاق ليشمل كافة نماذج السلطة في المجتمع: المدرس، رجل
الدين، رجل الشرطة، الإعلاميون ··· إلي آخره. ومن خلال هؤلاء جميعًا، وعبر مسيرة طويلة،
يحصل الفرد في النهاية علي الاعتراف بحقه في الوجود المستقل اجتماعيا واقتصاديا. أي يصبح من هؤلاء الكبار بشكل أو بآخر ·
وخلال ذلك يكون قد تم تدريبه الأساسي علي عملية الانتماء كما صاغها الكبار
والحقيقة
الثانية في هذا الصدد، حقيقة ذات طابع نفسي خالص. فعملية التدريب علي الانتماء، ليست ككثير
من عمليات التدريب والتعلم التي تعتمد علي أساليب نقل المعلومات المباشرة بطريقة
أو بأخرى · إنها عملية اكتساب تلقائي، يتحدد تأثر الفرد بها وفقًا لثلاثة عوامل رئيسية:
عامل تمثل القدوة، وعامل الخبرات الشخصية المعاشة، وعامل الخصائص الشخصية
من "نحن"
و من "هم" ؟
إن
السؤالين الأساسيين اللذين يلحان علي عقول الصغار في هذا الصدد وحتى يصبحوا كبارًا
هما "من نحن" و "من هم". وهم لا يطرحون عادة مثل تلك التساؤلات مباشرة،
ومن ثم فإنهم لا يلتمسون إجابتها من خلال أقوال الكبار. ثمة مصادر ثلاثة
يحصل من خلالها الصغار علي الإجابة المطلوبة.
1 - القدوة
يتمثل المصدر الأول في رصد الصغار و معايشتهم لممارسات هؤلاء الكبار لانتماءاتهم للجماعة،
وتعاملهم مع جماعات "أخرى". فالكبار هم في الأغلب الأعم بمثابة القدوة
التي يتمثلها الصغار، بحكم الحقائق الفيزيقية والاجتماعية. و تمثل القدوة لا يكون تمثلًا للأقوال بل
للممارسة.
فقد نتحدث أمام صغارنا عن أبناء جماعة أخرى - أقلية كانت أو أغلبية - حديثًا نتعمد
أن يكون ودودًا ناعمًا، ولكن مشاعرنا حيال أبناء تلك الجماعة كما تتضح في سلوكنا
الفعلي تكشف عن نفورنا منهم، وعدائنا لهم، وتحاشينا إياهم. وفي هذه الحالة سوف يتمثل صغارنا سلوكنا
الفعلي باعتباره السلوك المثالي: أننا نكره هؤلاء فعلًا، وأننا نحبهم قولًا. أو بعبارة أخرى: أن الأقوال المعلنة بشأن
هذه الجماعة ينبغي أن تكون طيبة في كل الأحوال، أما المشاعر الحقيقية والأفعال فإن
أمرها يختلف.
بل قد يحدث أحيانًا أن نلتقي في موقفٍ اجتماعي معين ببعض أفراد تلك الجماعة الأخرى،
فنتبادل كلمات المودة والحب.
فإذا ما انفض الجمع، وخلا كل فريق إلي خلصائه انتقلت الكلمات والمشاعر المعلنة من
النقيض إلي النقيض.
كل ذلك وصغارنا يرقبون ما يجري ويتمثلونه ويختزنونه في أعماقهم
2 –
الخبرات
الشخصية المعاشة
العامل
الثاني الذي يلعب دورًا أساسيا في هذا المجال، هو الخبرات الشخصية المعاشة, وهي تلك الخبرات - المقصودة أو غير المقصودة
- التي يسهم تراكمها في اختبار مصداقية القدوة التي سبق للفرد أن تمثلها. ويتم ذلك من خلال التفاعل المستمر بين الفرد،
وبين أفراد ينتمون لجماعته.
ويؤدي مجمل تلك الخبرات إلي تثبيت أو اهتزاز ما سبق أن تمثله الفرد من خلال القدوة:
هل ذلك الذي تمثله يعبر حقا عن موقف أبناء جماعته ؟ وهل أبناء الجماعات الفرعية
الأخرى يدخلون في إطار جماعة الانتماء حقا؟ هل صحيح أنهم يشبهوننا بأكثر مما يختلفون
عنا؟ وهل يتخذون نفس مواقفنا حيال "الآخر" ؟ ثم هل الآخرون يتخذون منا حقا ذلك
الموقف الذي نتوقعه منهم؟ وهل هم يختلفون عنا حقا بأكثر من تشابههم معنا؟ وغني عن
البيان أن عملية التفاعل هذه تحدها حدود اجتماعية ونفسية عديدة, فالجماعة الأصلية كثيرا ما تفرض من القيود
الاجتماعية ما يحول دون انطلاق عملية التفاعل هذه أو حتى مجرد الشروع فيها. فضلًا عن أن القدوة التي سبق أن تمثلها
الفرد واطمأن إليها تلعب دورا غلابا في تفسير واحتواء ما قد يبدو خارجا عن إطارها
فيما يتعلق بإدراك الفرد للآخرين
3 –
الخصائص
الشخصية
أما
العامل الثالث فإنه يتمثل في عدد من الخصائص الشخصية التي تحدد قدرة الشخص علي
توسيع أو تضييق حدود جماعة النحن.
فالحدود النظرية لجماعات الانتماء المتاحة أمام الفرد، يمكن تصورها علي هيئة خط
متصل تحتل طرفاه نقطتان متطرفتان: طرفٌ يتمثل في مقولة "ليس ثمة من يشبهني
علي الإطلاق.إنني
أختلف تمامًا عن الآخرين في كافة الوجوه". ويتمثل الطرف الآخر المقابل في مقولة
"لا فرق بيني وبين غيري مطلقًا. إنني لا أستطيع أن أميز نفسي عن الآخرين"
وغني
عن البيان ما تمثله هاتان النقطتان المتطرفتان من دلالات في مجال الأمراض النفسية
لسنا بصدد التعرض لها.
ما يعنينا هو أن جماعة الانتماء تحتل بالنسبة للفرد موقعًا ما بين هاتين النقطتين
المتطرفتين.
قد يقترب موقعها بدرجة ما من النقطة الأولي فتضيق حدودها، وقد يبتعد عن تلك النقطة
فتتسع تلك الحدود بقدر ابتعادها عنها.
ويظل الجوهر دائمًا هو مدي قدرة الفرد علي تبين وتقبل الاختلافات بين الأفكار وبعضها،
وبين مختلف أشكال السلوك والمواقف الاجتماعية. وترتكز تلك القدرة علي مجموعة من خصائص
الشخصية التي تتباين أنماط التنشئة الاجتماعية من حيث تدعيمها لها أو إحباطها
ودفعها إلي الظل. فثمة
أنماط من التنشئة الاجتماعية تربي أبناءها علي أن العالم بما فيه وبمن فيه إنما هو
صنفان: خطأ وصواب، أسود وأبيض.
ولا مجال للتدرج بين هذا وذاك.
ويمتد ذلك التصنيف القاطع ليشمل كل شئ. ابتداء من
نوعيات الطعام والملابس، إلي النجاح في الدراسة والعمل، إلي المفاضلة بين الذكر و
الأنثى، وبين النظم الاجتماعية، والأفكار السياسية إلي آخره. فلا مجال لرؤية وجهي الموضوع في آن واحد. ولا مجال لأن يضع الفرد نفسه موضع الآخر
ليتبين كيف ؟ ولماذا ؟ هو مختلف عنه. وما هي درجة ذلك الاختلاف ؟ ويؤدي إضعاف تلك القدرة علي تبين وتقبل
الاختلاف عن الغير إلي أن يعجز المرء عن القبول بمقولة "انهم يختلفون عنا حقا
في بعض الأوجه، ولكنهم يلتقون معنا فيما هو أهم، إنهم جزءٌ من جماعتنا.
الآخر
"المجهول"، والآخر “الصديق"، والآخر “العدو"
لعلنا نستطيع أن نخلص مما سبق إلي أن عملية
الانتماء إنما تستهدف في النهاية انتماء الفرد إلي جماعة النحن بما قد تضمه تلك
الجماعة من جماعات فرعية. وذلك إنما يعني ضمنًا تمايز جماعة "النحن" عن
جماعة " الآخرين".
وإذا كانت الحاجة للانتماء تضرب بجذورها كما بينا في طبيعة التكوين الفيزيقي
للوليد الإنساني، وتستند في إشباعها وتنميتها إلي طبيعة التكوين الاجتماعي للأسرة
وللمجتمع البشري، فإن للحاجة إلي التمايز جذورًا لا تقل عن ذلك أهمية ولا خطرًا. فالفرد يعي ذاته منذ البداية من خلال وعيه
بتمايزه عن الطبيعة، وعن الآخرين أيضًا. ومن ثم فإن عملية التنشئة الاجتماعية - مهما كان نمطها - تتضمن
حتمًا نوعًا من التدعيم لتمايز " النحن" عن "الآخرين".
ولكن
الآخرين هؤلاء ليسوا سواء بالنسبة للنحن، بل تتعدد صورهم، وتتباين الأساليب التي
تدربنا عملية التنشئة الاجتماعية علي اتباعها معهم. ولعلنا نستطيع أن نجتهد فنصنف صور “الآخرين"، ومن ثم أساليب التعامل معهم إلي ثلاث صور رئيسية:
الآخر "المجهول"،
والآخر “الصديق"، والآخر “العدو", وتتباين أساليب التعامل مع الآخر، وفقًا
لذلك التصنيف.
فثمة مجموعة من الأساليب نتدرب علي اتباعها حيال الآخر "المجهول" تتسم
غالبًا بطابع الاستكشاف الحذر، ومحاولة التعرف. وتهدف تلك الأساليب في النهاية إلي تصنيف
ذلك المجهول ضمن واحدة من الفئتين الباقيتين: صديق أو عدو. وثمة مجموعة أخرى من الأساليب تزودنا بها
عملية التنشئة الاجتماعية للتعامل مع الآخر “الصديق"، وهي تتسم غالبًا بطابع
التعاون المتبادل، والتنافس السلمي، في إطار من الحرص علي التمايز. أما بالنسبة للآخر “العدو"، فأساليب
التعامل معه شديدة التباين، إذ يتدخل في تشكيلها طبيعة توازن القوي بين "
النحن" وذلك الآخر "العدو". وقد تجمع تلك الأساليب بين التجاهل، والمقاطعة،
والملاينة، والعنف ··· إلي آخره
وغني
عن البيان أن اصطناعنا لمثل ذلك التصنيف لا يعني بحال أنه تصنيف جامد. فصور الآخرين التي أشرنا إليها دائمة
التغير والحركة علي مستوي الواقع المعاش. قد يتحول "الصديق" إلي “عدو"، وقد يتحول أيهما إلي
"مجهول" بل وقد ينتقل "الصديق" عبر مرحلة تاريخية ليصبح جزءًا
من مكونات النحن.
خلاصة القول أن التنشئة الاجتماعية تزودنا منذ البداية بأساليب التعامل مع مختلف
الصور التي يتخذها "الآخر" , أما عملية تصنيف الآخرين وفقًا لصورهم - أو لتصوراتنا عنهم - فهي
عملية يستمر تفاعلها وتغيرها ما بقي المجتمع وما استمرت عملية التنشئة الاجتماعية.·
ومن
خلال تفاعل تلك الصور الثلاث للآخر، يتشكل ما يمكن أن نطلق عليه "عالم الآخرين"،
أي الطابع العام لمجمل صور الآخرين بالنسبة للنحن. قد يكون ذلك العالم "معاديًا"
يكاد أن يخلو من الآخر "الصديق". وقد يكون عالمًا "صديقًا" يقل
فيه تواجد الآخر "العدو".
كما قد تغلب عليه في بعض فترات النمو النفسي أو التغير الاجتماعي كونه عالمًا
"مجهولًا" علينا استكشافه وتصنيفه.
ولا
ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن عالم الآخرين الذي نحن بصدده، لا يتطابق بالضرورة مع
الخصائص الموضوعية لأولئك الآخرين، ولا حتى مع التحليل الموضوعي لطبيعة مواقفهم من
"النحن" سواء في الماضي أو في الحاضر. إنه عالم من الصور والتصورات تشيده عملية
التنشئة الاجتماعية بهدف حماية النحن وضمان تماسكها، وليس من بأس في سبيل بلوغ هذا
الهدف من ابتعاد يزيد أو يقل عن الملامح الموضوعية.
وتتخذ
هذه الفجوة بين الخصائص الموضوعية للآخرين، وبين صورتهم كما تصيغها عملية التنشئة
الاجتماعية أبعادًا خطيرة في عالم اليوم علي وجه الخصوص. في عالم لم تعد فيه التنشئة الاجتماعية
حكرًا علي الأسرة وحدها ولا حتى علي المدرسة أيضًا. في عالم تعقدت فيه العلاقات بين أقطار
الأمة الواحدة، وازدادت فيه قيود الانتقال وتكاليفه رغم تطور وسائله. في مثل هذا العالم تلعب أجهزة الإعلام
دورًا بارزًا في صناعة - أو بالأحرى اصطناع - صور الآخرين، وتشكيلها وفقًا لما
يراه أولي الأمر محققًا لمصلحة الجماعة
الآخر المصري
المختلف فكريا
سوف
يقتصر حديثنا
علي جدل الأنا المصري مع الآخر المصري, فقد بدا لي أن هذا الآخر المصري هو الأولي بالاهتمام في
ظل مناخ يسعى فيه الآخر الأجنبي العدو لتحويل ذلك الجدل الداخلي إلي عداء مدمر. ومن ناحية أخري فسوف يقتصر حديثنا كذلك علي
الآخر المختلف فكرا وليس المختلف عرقا أو جنسا أو دينا أو عمرا باعتبار أن الفكر –فيما
نري- يحكم التعامل مع بقية صور الآخر.
ولنبدأ
باستعادة عدد من المشاهد التي شهدتهما مصر في حقبتين يفصل بينهما
ما يقرب من نصف القرن: تلك
الحقبة التي امتدت من الثلاثينيات إلي الأربعينيات من القرن المنصرم, ثم حقبة
التسعينيات من ذلك القرن
مشاهد قديمة
المشهد الأول: أبو شادي, و أدهم, و وجدي
1937
في
النصف الثاني من الثلاثينيات، و في وقت شهد تعدد التيارات السياسية المختلفة, بل
شهد كذلك بزوغ حركة الإخوان المسلمين. في ذلك الوقت نشر المفكر الإسلامي أحمد زكي أبو شادي مقالًا في مجلة
"الإمام" بعنوان “عقيدة الألوهية"، يطرح فيه جذور عقيدة الألوهية في
الإسلام.
وأثار هذا المقال كاتبًا مصريًا شابا هو الدكتور إسماعيل أدهم فنشر مقالًا مطولًا لم
يلبث أن حوله إلي كتيبٍ عنوانه "لماذا أنا ملحد؟ "يروي فيه المؤلف ذكرياته الشخصية عن
معاناته الأهوال بين الشك والإيمان، ثم يختتمه مقررًا في وضوح كامل أنه بات
مطمئنًا إلي ضميره واستقرت نفسه بعيدًا عن شاطئ الإيمان.
تري
ماذا كان رد فعل المثقفين المصريين آنذاك ؟
حين
اطلع الدكتور أبو شادي علي مقال الدكتور إسماعيل أدهم كتب يرد عليه في رسالة مستقلة بعنوان "لماذا
أنا مؤمن ؟".
وقد نشرت مجلة "الإمام" في سبتمبر 1937رد الدكتور أبو شادي مع
تعليق من المحرر جاء فيه " ·· وإلي هذه الرسالة نوجه أنظار قرائنا حتى يلموا
بطرفي الموضوع، وإن كنا شخصيًا لا نعتقد أن هناك جدوي عملية من مثل هذه البحوث،
وأن الأولي منها بعنايتنا هو الشئون الاجتماعية والاقتصادية في المملكة التي يعيش
سوادها الأعظم في حكم الهمل بسبب سوء أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية "
وكان
ثمة رد فعل من مجلة الأزهر التي كان يرأس تحريرها في ذلك الوقت المفكر الإسلامي
المعروف محمد فريد وجدي الذي كتب في العدد السابع من المجلة يقول:
"نحن الآن في مصر، وفي بحبوحة الحكم
الدستوري، نسلك من الكتابة والتفكير هذا المنهاج نفسه فلا نضيق به ذرعًا ما دمنا
نعتقد أننا علي الحق المبين، وأن الدليل معنا في كل مجال نجول فيه، وأن التسامح
الذي يدعي أنه من ثمرات العصر الحاضر هو في الحقيقة من نفحات الإسلام نفسه، ظهر به
آباؤنا الأولون أيام كان لهم السلطان علي العالم كله، فقد كان يجتمع المتباحثون في
مجلس واحد بين سني ومعتزلي ومشبه ودهري ··· الخ فيتجاذبون المسائل المعضلة، فلم
يزدد الدين حيال هذه الحرية العقلية إلا هيبة في النفوس وعظمة في القلوب وكرامة في
التاريخ.
هذه مقدمة نسوقها بين يدي نقد نشرع فيه لرسالة ترامت إلينا بعنوان "لماذا أنا
ملحد ؟" نشرها حضرة الدكتور إسماعيل احمد أدهم في مجلة الإمام الصادرة في
أغسطس 1937ثم أفردها في كراسة تعميمًا للدعوة ··· " ويمضي محمد فريد وجدي
مفندا ما قال به إسماعيل أدهم حريصا علي أن تسبق إشارته إليه بلقب "حضرة
الدكتور إسماعيل أحمد فهمي"
المشهد الثاني: أبوالعيون و
حورية محمد 1945
جرت
وقائع هذا المشهد في أواخر أربعينيات القرن العشرين، حين أثار الشيخ السكندري
المعروف آنذاك فضيلة الشيخ محمود أبو العيون حملة ضارية حول ملابس البحر للسيدات،
وإذا بمجلة مسامرات الجيب تنشر في عددها الصادر بتاريخ 14 أكتوبر 1945 خطابًا
موجهًا إلي فضيلة الشيخ محمود أبو العيون من راقصة تدعي حورية محمد تأخذ فيه علي
الشيخ أن دعوته قد اتجهت إلي "···المستهترات العابثات اللواتي يبعن الفتنة
والإغراء والدلال في سوق الشواطئ الذي ينعقد في صيف كل عام ···" وتمضي
الراقصة متسائلة "···ألم يبق من الموبقات سوي السفر إلي البلاجات؟! ··· إنك
يا صاحب الفضيلة سيد العارفين بأن عيوبنا الاجتماعية كثيرة ومتعددة، وأنها جميعًا
أهم من مشكلة البلاجات ···" وتنشر المجلة في نفس العدد ردًا منسوبا لفضيلة
الشيخ يبين فيه كيف إنه لم يكن غافلًا عن بقية الموبقات في المجتمع، وأنه هو الذي
وقف وحيدًا يطالب بإلغاء البغاء منذ خمسة وعشرين عامًا " ···· حتى تحققت آمالي، وألغي البغاء ···"
وبصرف النظر عن صحة صدور الخطابات من المنسوبة إليهم، فإنه من الملاحظ أن لفظة "التكفير"
لم ترد في ذلك الحوار مطلقًا·
ها
نحن إزاء من يعلن عن إلحاده في مقال منشور يحمل اسمه دون مواربة, بل ويحاول تعميم
دعوته بأن يحول مقاله إلي كتيب منشور. فإذا بمجلة الأزهر ترد عليه مفندة آراءه
مخاطبة إياه بلقبه العلمي مسبوقًا بكلمة "حضرة الدكتور". ويبدو أنه لم يرد في ذهن أحد من مثقفي
الأمس فكرة اللجوء إلي السلطة والمطالبة علي الأقل بحرمان إسماعيل أدهم من الكتابة،
أو إغلاق الجريدة التي نشرت له بل لقد ظل إسماعيل أدهم حيًا إلي أن انتحر في الإسكندرية
في يونيو 1940. ولكي
لا ننسي نكرر أن تلك الفترة قد شهدت ذروة ازدهار جماعة الإخوان المسلمين. ثم ها نحن حيال حوار عاصف بين داعية ديني
محافظ ومجموعة من المشتغلات بالفن يبدأ وينتهي دون مطالبة بالإعدام , بل حتى دون
رفع دعوى قضائية.
مشاهد حديثة
تنتمي
مشاهدنا المعاصرة هذه إلي
التسعينيات من القرن المنصرم, وأزعم أننا مازلنا نحملها ونعيشها في قرننا الحالي,
بل لعلي لا أخفيكم أنني أحس أن مشهد الذروة لم يكتمل بعد.
المشهد الأول: الدكتور نصر حامد أبو زيد 1992
بطل
مشهدنا الأول الدكتور نصر حامد أبو زيد الأستاذ المساعد بكلية الآداب بجامعة
القاهرة. نشر أبو زيد عام 1992 كتابا يحمل عنوانا أكاديميا متخصصا "الإمام
الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية", وتقدم بهذا الكتاب ضمن إنتاجه العلمي
للحصول علي درجة الأستاذية, وتضمن تقرير اللجنة العلمية اتهاما للكاتب بالعداوة
الشديدة لنصوص القرآن والسنة, والهجوم علي الصحابة, بل وعلي القرآن الكريم. وسرعان
ما خرجت القضية من النطاق الأكاديمي إلي النطاق الجماهيري الإعلامي الذي شمل منابر
المساجد و اندفع كثير من كتاب الصحف يحذرون من ذلك الذي يعلم أولاد المسلمين
الكفر, ويحذرون من انتشار الإلحاد في الجامعة, ومن أولئك الذين يشوهون وجه مصر
بدفاعهم عن حرية البحث العلمي في الجامعة. و لن نمضي في سرد تتالي الأحداث, مكتفين
بالتذكير بأن بطل مشهدنا الأول لم يكف لحظة عن إعلان إيمانه وإسلامه.
المشهد الثاني: الدكتورالسيد أحمد فرج
وبطل
مشهدنا الثاني هو الأستاذ الدكتور/السيد أحمد فرج, وهو أستاذ جامعي يقف علي الضفة
الأخرى من النهر, الضفة المقابلة لموقع نصر أبو زبد · ففي أواخر عام 1998 شهدنا
ضجة تتلخص في أن لسيادته مؤلف بعنوان "أدب نجيب محفوظ وإشكالية الصراع بين
الإسلام والتغريب" تبني فيه وجهة نظر تري أن نجيب محفوظ قد انحاز في كتاباته
إلي اعتناق قيم الغرب وحضارته، والتخلي عن الإسلام في عقيدته ونظامه وقيمه. وقد واكبت هذه الضجة محاولة اغتيال نجيب
محفوظ وفي إطار الدفاع عنه. ولكن ما يستوقف النظر هنا هو أن المهاجمين توجهوا
بخطابهم إلي السلطة مطالبين بتدخلها. كما أن الأستاذ الدكتور السيد فرج وهو بصدد الدفاع عن نفسه مضي إلي تأكيد أنه
لم يقم "بتدريس هذا الكتاب، ولا أي كتاب غيره من كتبي ولا من كتب غيري يحتوي علي قضايا فكرية منذ أن وطئت
قدماي الحرم الجامعي الأغر "· كما أن أمين مكتبة الكلية قد بادر بتبرئة ساحة
المكتبة محيطًا السيد الأستاذ الدكتور عميد الكلية علمًا "بأن مكتبة الكلية
لا تضم بين مقتنياتها"الكتاب المذكور ويمضي ممعنًا في تأكيد طهارة مكتبة
الكلية مضيفًا " ··· ولم تطالب مكتبة الكلية باقتناء نسخ من هذا
الكتاب"·
المشهد
الثالث: الدكتورة آمال كمال 1999
أما بطلة مشهدنا الثالث فهي الدكتورة آمال كمال التي كانت تشغل منصب
مدرس مساعد والتي حصلت علي درجة الدكتوراه في التحليل النفسي، و في منتصف 1999 حين
تقدمت الدكتورة آمال برسالتها للحصول علي درجة مدرس في قسم علم النفس, توقفت
الإجراءات بحجة أن الرسالة تضمنت في أحد ملاحقها ما "يعتبر مساسًا بالمقدسات الدينية"
وثارت ضجة شديدة حول هذا الموضوع لم تقف عند حدود النشر في الصحف بل كادت تصل إلي
مجالس التأديب وساحات القضاء.
المشهد الرابع:
حيدر حيدر و الطبيب محمد عباس
قبيل
منتصف 2000 كان مشهدنا الثالث حيث جرت وقائع قصة "وليمة لأعشاب البحر"
للكاتب السوري حيدر حيدر. لقد بدأت الأحداث بمقال في جريدة الأسبوع المستقلة يأخذ
صاحبه علي الرواية ما اعتبره تهجمًا علي المقدسات الإسلامية، وردٌ عل ذلك من كاتب
آخر في نفس الجريدة يختلف معه فيما ذهب إليه. ثم انتقل الأمر إلي جريدة الشعب الحزبية
لينشر أحد كتابها – السيد الطبيب محمد عباس- مقالًا اختار له عنوانا بالغ الدلالة "من
يبايعني علي الموت؟"، وتداعت الأحداث لتنطلق مظاهرة طالبات ثم طلاب جامعة
الأزهر رافعة صورًا من المقال.
لقد
كان العنوان " من يبايعني علي الموت ؟ "، ولا يصعب علي قارئ للتاريخ
الإسلامي حتى لو لم يكن متخصصًا في هذا المجال أن تقفز إلي ذاكرته فورًا مصاحبات
الانطلاقة الأولي لهذه الصيحة في موقعة اليرموك الشهيرة حين رأي عكرمة أن جيوش
الروم الكثيفة تكاد تخترق صفوف المسلمين، فأطلق صيحته هذه فتوافد إليه المتطوعون
من فرسان المسلمين ليشكلوا هجمة فدائية تقلب ميزان المعركة وتستشهد فيها المجموعة الفدائية
جميعًا، ويذكر التاريخ أيضًا أن أم حكيم زوجة عكرمة كانت مع زوجها في المعركة بل أنها
شاركت بالقتال الفعلي· نحن إذن حيال رسالة تستدعي واقعة تاريخية تعني باختصار أن الإسلام
في خطر ، وأن إنقاذه يتطلب عملًا فدائيًا استشهاديًا، وأن هذا العمل لا تستثني منه
النساء·
لعلكم قد لاحظتم معي أن تلك المشاهد الحديثة تجمعهما ملامح مشتركة :
يتمثل
الملمح الأول في إن الأمر ليس مجرد اختلاف في الرأي أو
الرؤية. إن تشخيص ما قام به الدكتور نصر أبو زيد لم يكن أنه قد تبني وجهة نظر
مخالفة, حتى وإن كانت خاطئة بل كانت التهمة هي أن "أفكاره تخرج علي صحيح
الدين" وهي تهمة غليظة أصبحت مثيرة للرأي العام وللسلطات علي حد سواء · كذلك
الحال بالنسبة للسيد احمد فرج فقد تم تشخيص الواقعة ليس باعتبارها مجرد تبني وجهة
نظر مخالفة خاطئة بل في أنه "محاولة اغتيال نجيب محفوظ" وهي أيضًا تهمة
غليظة مثيرة للرأي العام و للسلطات·
وكذلك الحال أيضًا بالنسبة للدكتورة آمال كمال التي نسب إليها علي صفحات الصحف
أنها "تشكك في معجزات الأنبياء"، وأن ما جاء في رسالتها لا يدخل بحال
ضمن مجرد تبني وجهة نظر مخالفة خاطئة · وكذلك الحال بالنسبة لما أثاره نشر قصة
"وليمة لأعشاب البحر"·
ويتمثل
الملمح الثاني في الدعوة لمنع ترويج مثل هذه الأفكار. لقد كان العامل
المشدد لجرم الدكتور نصر أبو زيد هو أنه قد روج لتلك الأفكار بين طلاب الجامعات
مما يمثل تهديدًا لعقيدة أبناءنا الدينية · كذلك فقد كان العامل المشدد للجرم بالنسبة
للدكتور السيد احمد فرج هو أيضًا الترويج لتلك الأفكار بين طلاب الجامعات مما يمثل
دعمًا لممارسات العنف والإرهاب.
أما بالنسبة للدكتورة آمال كمال، فقد كانت الخشية كل الخشية من أن تسرب أفكارها
تلك خلال محاضراتها للطلاب أما بالنسبة لقصة "وليمة لأعشاب البحر" فقد
استندت الإدانة علي أن نشرها للاطلاع العام بمثابة شن حرب علي الإسلام.
ويتمثل
الملمح الثالث في أن من يتصدون للجدل العام في مشاهدنا سالفة الذكر
لا يجدون حرجًا البتة في مناشدتهم السلطة بضرورة التدخل لنصرة وجهة نظرهم بقرارات
تنفيذية، باعتبارهم الممثلون الحقيقيون لتوجهات تلك السلطة · لقد لجأ المختلفون مع
الدكتور نصر أبو زيد إلي استعداء السلطة متمثلة في الجامعة، بل ولجأ فريق من هؤلاء
المختلفين إلي القضاء سعيًا لإدانته، وتداعت الأحداث بالصورة التي نعرفها· أما في
حالة الدكتور السيد احمد فرج، فإن خطاب المختلفين مع رأيه قد توجه إلي الأستاذ
الدكتور وزير التعليم العالي طلبًا للرأي، وغني عن البيان أن طلب رأي المسئول
الأول عن مجال التعليم العالي في مصر إنما هو في جوهره مطالبة باتخاذ قرار تنفيذي.
أما في حالة الدكتورة آمال كمال فقد كانت المطالبة صريحة من كل الأطراف بضرورة
تدخل الأستاذ الدكتور وزير التعليم العالي لفصلها من الجامعة, بل ومحاسبة الأساتذة
الذين أشرفوا علي إنجازها لرسالتها ومنحوها درجة الدكتوراه
أما
الملمح الرابع فيتمثل في ممارسة العنف الفعلي حيال المخالفين فكريا.
و هو عنف له
طابع جديد. إنه لم يعد ذلك العنف المعروف الذي تمارسه السلطة مع من يخالفونها,
ويمارسه المخالفون مع السلطة أحيانا. لقد أصبح عنفا شائعا تمارسه الجماعات حيال من
تراه مخالفا لها. ويكفي أن نشير في عجالة إلي اختطاف ثم اغتيال الشيخ الذهبي في
منتصف 1977, وكذلك اغتيال فرج فودة في 1992, ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ, ومذبحة
السياح في الأقصر في أواخر 1997الي آخره, فإذا ما عزت ممارسة العنف البدني
لاعتبارات عملية بقيت الدعوة الملحة لإعدام الآخر فكريا.
ما الذي حدث؟
محاولة للتفسير
تري كيف
حدثت تلك النقلة الفكرية عبر نصف قرن ؟ فلننظر معا في أبرز أحداث تلك الفترة فلعل
فيها ما يفسر ما حدث. لقد شهدنا خلال هذه
الفترة –فيما يتعلق بموضوعنا- قيام ثورة
يوليو 1952, ثم هزيمة يونيو 1967, ثم انتصار أكتوبر
1973, و أخيرا ما شهدته الولايات المتحدة الأمريكية في 11 سبتمبر 2000.
لقد كان لنظام يوليو مآثره و سلبياته, و
كان علي رأس تلك السلبيات تضييق مساحة ممارسة الحق في التعبير المنظم و من ثم ذبول
دور مؤسسات المجتمع المدني بحيث
أصبحت القاعدة المستقرة هي "الإجماع"، ومن ثم أصبح الرأي الآخر يمثل
خروجًا علي إجماع الأمة ينبغي إدانته. و مع وقوع كارثة الهزيمة في يونيو 67 و ارتفاع
شعار لا صوت بعلو فوق صوت المعركة تحولت سلبيات يوليو إلي ضرورات
"ثورية".
و في ظل هذا المناخ انطلقت مع السبعينيات
موجات كثيفة من المهنيين والعمال المصريين للعمل في الخارج, حيث اجتذبت دول الخليج وفي مقدمتها المملكة العربية
السعودية ذات المذهب الوهابي غالبية الأيدي العاملة المسلمة, في
حين اجتذبت الولايات المتحدة و كندا غالبية الأيدي العاملة المسيحية حيث كونوا ما
يعرف بجماعة أقباط الولايات المتحدة, و كان طبيعيا و مفهوما أن تتأثر كل جماعة
بالمناخ الثقافي السائد في الموطن الجديد, دون أن تفقد انتماءها للوطن الأم. و مع تغير
الأحوال في دول الخليج عاد الكثير من المصريين المسلمين إلي الوطن يحملون بدرجة أو
بأخرى بصمات المناخ
الفكري السائد في هذه الدول:
1 - الإيمان بأن تدهور واقع المسلمين يرجع أساسا إلي
ابتعادهم عن صحيح الدين واقترابهم من العلمانية.و غني عن البيان أن هذا الملمح
يضرب بجذوره عميقا وبعيدا في نمط تنشئتنا العربية السائد رسميا منذ يونيو 1967 علي
الأقل وحتى الوقت الراهن. إنه التيار الفكري الذي أرجع هزيمة 1967 إلي علمانية
النظام آنذاك كما أرجع "معجزة" أكتوبر 1973 إلي صيحة "الله
أكبر". إن الأمر لا يتطلب إجراء بحوث علمية ميدانية دقيقة, بل يكفي نظرة إلي
مجمل المحتوي الإعلامي لأجهزة الإعلام العربية المقروءة والمسموعة والمرئية رسمية
كانت أو غير رسمية, ليتضح لنا أن التعبير عن هذا التيار الفكري بالتحديد هو الأعلى
صوتا والأكثر انتشارا و نفوذا وجماهيرية. صحيح أننا قد نجد صورة هنا أو كلمة هناك
تتسلل خارج حدود هذا التيار ولكنها لكي تستمر فلا بد لها من أن تبرز أنها لا تمثل
نقيضا له بل مجرد "إضافة" أو "تطوير" للتيار الرئيسي ليس إلا.
2 - أن
العنف هو السبيل الأوحد لاسترداد الحقوق وردع المعتدي, وترجع سيادة هذه البصمة
تحديدا في بنائنا الفكري إلي عوامل ثلاثة متكاملة. أولها خارجي دولي يتمثل فيما
تعرضت وتتعرض له أوطاننا من قهر تمثلت قمته في المساندة الأمريكية لإسرائيل
وممارساتها الوحشية حيال الشعب الفلسطيني.
والعامل الثاني محلي داخلي يتمثل انتهاء تلك المرحلة الاستثنائية من
الليبرالية الهشة التي شهدتها مصر والتي آذنت بالمغيب مع إقامة سلطة يوليو, وما
ترتب علي ذلك من القضاء علي مؤسسات المجتمع المدني والقضاء بالتالي علي اكتساب
أبنائنا مهارات النضال المدني السلمي. وتمثل العامل الثالث في سيادة فهم أصولي
محدد للدين له ملامحه المعروفة التي أشرنا إليها في عجالة.
و جاءت أحداث الحادي
عشر من سبتمبر لتجسد البصمتين السابقتين و تضيف بعدا جديدا إلي أبعاد ذلك النسيج
الفكري المعقد, أنه ثمة مؤامرة كبري تستهدف القضاء علي ثوابت الأمة و عقيدتها
الإسلامية, و في ظل اختلال موازين القوي يتصاعد لدي جمهور المسلمين الإحساس
بالتهديد و الخطر الغربي "الصليبي".
لم يختلف الأمر كثيرا
علي الجانب المسيحي المصري. تزايد لدي جمهور الأقباط الإحساس بالتهديد و الخطر
"الإرهابي الإسلامي" الذي يستهدف الصليب و المسيحية, و ارتفع صوت جماعة
أقباط الولايات المتحدة دفاعا عما تعانيه الجماعة القبطية المسيحية المصرية إحساس
بالتهديد. و لم يكن من الصعب علي أي من الجماعتين المهددتين- المسلمة و المسيحية-
أن تلتقط من "الوقائع الصحيحة" ما يدعم ذلك الإحساس بالتهديد.
و كان طبيعيا أيضا أن
تجد كلا من الجماعتين نفسها بين شقي الرحي: الحرص علي الانتماء الوطني من ناحية و
الحرص من ناحية أخري علي الدفاع الشرس عن الجماعة الفرعية المهددة التي تعيش ثقافة
الهزيمة. الجماعة القبطية المسيحية المصرية يدفعها الحرص علي وحدة النسيج الوطني
إلي إبراز التمايز عن "الخارج" بكل ما يمثله, و مقاومة إغراء ما يمكن أن
يقدمه لها من دعم دعائي و مادي, و هي من ناحية أخري حريصة في ظل مناخ ثقافة
الهزيمة الذي يسود الجميع علي ممارسة أشد الآليات سلبية في الدفاع عن الجماعة
الفرعية, رغم ما قد يحمله ذلك من مخاطر. و كذلك الحال بالنسبة للجماعة المسلمة
المصرية التي يدفعها الحرص علي وحدة النسيج الوطني في ظل ثقافة الهزيمة إلي مقاومة
إغراء الإحساس باستعلاء الأغلبية و التراجع أمام ما تصوره العين المرعوبة
"تهديدا صليبيا".
و ما زال الخطر قائما
أظن أن الخطر ما زال قائما. أظن و أتمني أن أكون مخطئا,
أننا لم ننجح بعد في إطفاء النار بشكل تام في حرائق الفتنة الطائفية المتكررة.
عمليات إطفاء سريعة تقضي علي اللهب و تظل الجمرات تحت الرماد جاهزة لحريق جديد
يجري التخطيط له بعناية وراء أسوار معسكر قادة التطرف. و لا ينبغي لنا بحال أن
نقلل من براعة و حرفية و تمكن بل و تناغم قادة التطرف. ما أن تنطلق إشارة البدء و
تندلع شرارة الفتنة حتى تجد الكل جاهز و مستعد.
إن صناعة الفتنة الطائفية صناعة قديمة في مصر, و رغم
أنها صناعة فاشلة بمقياس الرواج أو عدم تحقيقها للهدف المرجو منها –حتى الآن علي
الأقل- فإنها لم تغلق أبواب مصانعها, و لم يتسرب اليأس لنفوس صناعها و القائمين
عليها, بل إنهم في الفترة الأخيرة ظلوا يكررون نفس السيناريو الممل دون أدني تغيير
و لو طفيف المرة تلو المرة دون أن ينتابهم الملل. ألا يعني ذلك أن أهمية الهدف
تغري صاحب رأس المال بإعادة تكرار المحاولة فلعلها تفلح و لو لمرة واحدة فينفجر
الوطن و ينتهي كل شيء؟