الجمعة، 25 يونيو 2010

فلسطين بين جهود الإغاثة و جهاد التحرير

فلسطين بين جهود الإغاثة و جهاد التحرير[1]

توالت قوافل إغاثة الفلسطينيين المحاصرين في غزة. و شهدنا و شهد العالم بطولة من يخترقون الحصار الإسرائيلي، و شهدنا و شهد العالم مدي وحشية جنود إسرائيل و هم يطلقون النار و يقتلون أولئك المدنيين العزل الذين لا ينقلون سلاحا و لا ذخيرة بل طعاما و أدوية و مواد بناء و تجهيزات طبية. لقد احتشد علي ظهر تلك السفن أقوام من جنسيات شتي لا يجمع بينهم سوي إحساسهم الرفيع بالإنسانية و التزامهم بنجدة المظلوم. منهم المسلم و المسيحي و اليهودي و من لا دين له بل و الملحد أيضا. و ليس من شك في أنه من الطبيعي أن ننبهر بتلك المشاهد الإنسانية، و أن نشيد بأصحابها.
و لكن ذلك كله لا ينبغي أن يصرفنا عن حقيقة أن جوهر ما يعاني منه الشعب الفلسطيني هو الاحتلال الإسرائيلي. يستوي في ذلك أبناء غزة و أبناء القطاع و عرب 48 و اللاجئون الفلسطينيون، و فلسطينيو الشتات. و من ثم فينبغي أن نميز تمييزا قاطعا بين إنهاء الحصار و إنهاء الاحتلال؛ فليس كل محاصر محتل، و ليس كل محتل محاصر. لقد ظلت مصر و الجزائر مثلا تحت الاحتلال العسكري لسنوات طويلة مع بقاء موانيها و مطاراتها و حدودها مفتوحة. كذلك فقد حوصرت ليبيا و نري القرارات تتوالي بحصار إيران و أي من الدولتين لا يعاني احتلالا.
و لو تصورنا أن الضغوط الدولية و الجماهيرية المتصاعدة أجبرت إسرائيل يوما علي فتح كافة المعابر مع فلسطين المحتلة بما فيها مطار غزة و ميناءها، فإن ذلك كله رغم قيمته بالنسبة لحياة الفلسطينيين اليومية، لا علاقة له بتحرير فلسطين و عودة اللاجئين.
إن إغاثة الفلسطينيين مسئولية العالم كله أو ينبغي أن تكون كذلك، أما تحرير فلسطين فهي مسئولية الشعب الفلسطيني أولا، فهكذا كانت حركات التحرر عبر العالم و علي امتداد التاريخ، و لا يعني ذلك بحال أي إقلال من أهمية مساندة حركات التحرر. و لكن لا يتصور بحال أن المساند يمكن أن يحل محل ذلك الشعب.
إن تأكيد تلك الحقيقة بات ضروريا مع تصاعد نغمة تتساءل "هل باع العرب قضية فلسطين". و هنا ينبغي أن نؤكد أن فلسطين ليست قطعة أرض معروضة للبيع، بل إنها شعب له تاريخ نضالي طويل، و أنه لم يكف لحظة منذ قامت دولة إسرائيل عن ممارسة كافة أشكال النضال للتحرر من الاحتلال و إقامة دولته المستقلة. و ليس من إهانة للشعب الفلسطيني –فيما أري- أشد و لا أقسي من تصور أن شعوبا أو نظما أخري تتحمل المسئولية الأولي عن تحريره.
ليس مفهوما مثلا مطالبة تركيا أو غيرها بأكثر مما تراه هي مناسبا، فإسرائيل لا تحتل أرضا تركية و لا إيرانية و لا حتى مصرية؛ و الحديث هنا عن الاحتلال العسكري و ليس عن النفوذ أو الاتفاقات العسكرية و المعاهدات الدبلوماسية؛ و لذلك فالجهد التركي و الإيراني و المصري و العربي و الإسلامي لا تعدو أن تكون جهودا مساندة للشعب الفلسطيني صاحب القضية. صحيح أنه علي جميع القوي الوطنية في العالم أن تتضامن لمساعدة الشعب المحتل علي تحقيق ما يريد، و أن تضغط الشعوب علي حكوماتها لمزيد من تلك المساندة، و لكن ليس مقبولا من أحد إهانة الفلسطينيين بزعم أن تحرير بلدهم مسئولية أحد غيرهم.
و ما دام تحرير فلسطين مسئولية الفلسطينيين في المقام الأول، فإن لهم وحدهم اختيار أسلوب المقاومة و نوعها و توقيتاتها، و علينا مساعدتهم قدر ما نستطيع دون أن نفرض عليهم اختياراتنا نحن حتى لو بدت لنا تلك الاختيارات صحيحة. ليس لأحد منا كائنا من كان أن يفرض علي الفلسطينيين التفاوض، أو يفرض عليهم القتال، و ليس لأحد غير فلسطيني أن يخون المتفاوض أو يتهم المقاتل بالتهور.
و يواجهنا هنا زعم ظاهره الرحمة و باطنه العذاب، فالبعض يردد أن الفلسطينيين لا يقدرون علي مواجهة إسرائيل بآلتها العسكرية الجبارة بمفردهم، و أن مصر هي القوة العسكرية الوحيد القادرة علي تلك المواجهة، و طالما أنها قيدت نفسها باتفاقية السلام؛ فعلي فلسطين السلام.
و رغم أن تضخيم أهمية مصر أمر قد يداعب غروري كمصري، و لكنه يجافي الحقيقة: لمصر في الجامعة العربية صوت واحد من 22 صوت، و صحيح إن مصر أكثر الدول العربية سكانا و لكننا لا نمثل سوى ربع تعداد العرب أو أقل قليلا، و ثروة مصر لا تمثل سوى جانب محدود من الثروة العربية، و ينعكس ذلك بطبيعة الحال علي قدرتها علي شراء و تصنيع الأسلحة، و من ثم فليس مؤكدا أن لديها من السلاح أكثر مما لدي بقية العرب الذين لا ينبغي التهوين من مجمل قدراتهم.
و فضلا عن ذلك، فإن التاريخ يعلمنا أن القوي الإستراتيجية للشعب المحتل تفوق تلك القوي الإستراتيجية لدي المحتلين، و من هنا كان صدق مقولة أن النصر للشعوب دائما، و تزيد تلك المقولة صدقا في حالة الاحتلال الاستيطاني حيث لا إمكانية لتلافي الاشتباك اليومي اقتصاديا و سكانيا، و ليست فلسطين باستثناء في هذا الصدد: الفلسطينيين يزيدون عن عشرة ملايين تقريبا، منهم مليون أو أكثر قليلا في قلب أحشاء إسرائيل فعلا، و حوالي ثلاثة ملايين في الضفة و القطاع مشتبكون اقتصاديا و سكانيا بإسرائيل، و ثمة احتياطي استراتيجي فلسطيني يتمثل في حوالي ستة ملايين فلسطيني بين لاجئ و مغترب.
خلاصة القول إن الفلسطينيين هم الأقدر عمليا علي تحرير فلسطين، و القول بغير ذلك لا يعني سوي إهانة الشعب الفلسطيني و إهدار تاريخه النضالي، و تذويب حلمه بدولته المستقلة، حتى لو تخفي ذلك الهدف "الصهيوني" برداء الانتماء العربي أو الإسلامي للشعب الفلسطيني.

[1] الأهرام الخميس 17 يونيو 2010
من شهدي عطية الشافعي إلي خالد محمد سعيد
في الثالث عشر من يونيو 1960 و من وراء أبواب الزنازين المغلقة في معسكر التعذيب الشهير أوردي أبو زعبل سمعنا –نحن المعتقلون- صرخات الضباط الجلادين يصدرون أوامرهم لتنهال العصي علي جسد شهدي عطية الشافعي حتى أسلم الروح، و ورد في التحقيقات التي أجرتها النيابة العامة وسلطات السجن أن وفاته قد حدثت من جراء سقوطه من أعلي سلم السجن حال دخوله، و لكن حين تم فتح التحقيق من جديد بعد أن تسرب خبر القتل كشف التحقيق الجديد عن حقيقة مختلفة تماما: أن شهدي قد توفي بليمان أوردي أبو زعبل نتيجة اعتداء رجال الشرطة عليه بالضرب.
جرت تلك الوقائع في 15 يونيو 1960 أي منذ نصف قرن بالتمام و الكمال و بينما يستعد رفاق شهدي عطية الشافعي لإحياء ذكراه، يشاء القدر أن تحدث واقعة قتل المواطن الشاب خالد سعيد الذي لم يتجاوز الثامنة و العشرين في 7 يونيو 2010 ربما ليجسد الفارق بين الواقعتين مسيرة ثقافة التعذيب في بلادنا.
كان شهدي مناضلا سياسيا معارضا للدولة و كان اعتقاله و تعذيبه بأوامر من السلطة المركزية التي استطاعت –حين أرادت- أن تصدر قرارا بإيقاف نوع محدد من أنواع التعذيب الذي اختارت له تعبيرا رقيقا هو "الإكراه البدني، بينما كان خالد سعيد شابا مصريا "عاديا" لم يعرف عنه انتماء سياسي يثير حقد النظام و غله؛ و بالتالي فمن المستبعد أن يكون قرارا قد صدر بتعذيبه من السلطة المركزية، و ذلك هو الأخطر فيما نري.
و بينما انتشر نبأ مقتل شهدي من خلال نعي سربته أسرته في صفحة الوفيات بجريدة الأهرام، فإن مقتل خالد سعيد انتشر فورا بالصوت و الصورة عبر أركان المعمورة. لقد تغير العالم من حولنا عبر ثورة الاتصالات و شاهد الجميع تفاصيل ما حدث، غير أن الشيء الذي لم يتغير هو أسلوب تعامل السلطة المحلية و المركزية علي السواء: الضحية هو المسئول عما حاق به: "خالد محمد سعيد توفي نتيجة ابتلاعه كمية من المخدرات عندما اقتربت منه الشرطة".
و بينما وقعت جريمة قتل شهدي عطية في معسكر للتعذيب بعيدا عن الجماهير؛ فقد جرت واقعة قتل خالد سعيد أمام أعين العديد من المواطنين، و دفع صاحب مقهى الإنترنت بالمخبرين و بضحيتهم خارج مقهاه حرصا علي استمرار العمل بينما المخبرون يسحبون ضحيتهم للخارج باعتبار أن ما جري أصبح من الأمور المعتادة، كذلك فقد أورد شهود العيان أنهم استرحموا الجلادين ليكفوا عن عملية القتل فزجروهم فابتعدوا. لقد تعمقت ثقافة التعذيب إذن لتصبح ثقافة جماهيرية بحيث أصبح موقفنا من التعذيب موقفا سلبيا و ردود فعلنا المباشرة ردودا خافتة، فضلا عن أن ممارسة التعذيب لم تعد تحتاج إلي أوامر محددة من السلطة المركزية.
تري هل وقعنا جميعا في غواية العنف بوجهيها: ممارسة العنف و الاستسلام له