الجمعة، 19 أغسطس 2011

محاكمة مبارك و علامة النصر

لقد سبقت وقائع المحاكمة أجواء مفعمة بالتوقعات المتضاربة و الانفعالات الملتهبة. إنها المرة الأولي منذ 11 فبراير 2011 يظهر الرئيس السابق ليس أمامنا فحسب و لكن علي مرأى و مسمع العالم كله. تري هل سيمثل أمام المحكمة بالفعل؟ أم تراه سيعتذر بالمرض؟ لو حضر فسوف تكون فرصة لا تتكرر ليقول شيئا لنا و للعالم. تري هل سيقول ما قاله ناصر يوم الهزيمة معلنا إنه يتحمل المسئولية الكاملة عن كل ما جري طيلة سنوات حكمه من أخطاء و أنه قد تنحي اعتذارا للشعب؟ سيكون موقفا شجاعا علي أي حال و قد يجلب له قدرا من الاحترام إن لم يكن التعاطف. و لكني لم ألبث أن استبعدت ذلك الاحتمال حين تذكرت خطابه المسجل المهرب و هو يعلن براءة ذمته المالية هو و أسرته بل و يهدد بمقاضاة من حاولوا تلويث سمعته. لعله إذن سيكرر ذلك الموقف بل لعله يمضي خطوة أبعد منتهزا فرصة الحضور العالمي و يقتدي بصدام حسين الذي ظل حتى اللحظة الأخيرة و حبل المشنقة يلتف حول عنقه متمسكا بأنه الرئيس الشرعي للعراق و أنه لم يستهدف طوال سنوات حكمه سوي خير البلاد و العباد و أنه ليس لديه ما يعتذر عنه. تري هل سيظهر مبارك في صورة العجوز الأشيب المنهك المريض؟ أم في صورة المتماسك الصامد بشعره المصبوغ فاحم السواد و ابتسامته الساخرة؟ قد تكون المفاضلة بين الصورتين مما دار في عقل من أعد لنا المشهد و هو الأرجح، و قد يكون الأمر قد جري تلقائيا دون ترتيب. لا فرق في النتيجة.
ظلت تلك الهواجس تراودني خلال متابعتي لما تنقله الكاميرات من مشاهد تسبق بدء المحاكمة. و كما يحدث في عرض مثل تلك الوقائع الكبرى تكون المشاهد الممهدة لبداية الحدث بالغة الأهمية من حيث تهيئتها لذهن المشاهد لما سيشاهده. و كان المشهد التمهيدي بالغ الغرابة:
تجمعين جماهيريين تفصل بينهما قوات الشرطة العسكرية كما لو كنا حيال استعدادات لمباراة كرة قدم ساخنة: فريق من مشجعي الرئيس السابق –أعني المتهم الأول- يرفعون صورته و يحملون الشعارات و يرددون الهتافات للشد من أزره؛ و فريق من أهالي الشهداء يحملون صور أبنائهم و أقاربهم مطالبين بالقصاص من رموز النظام السابق "قتلة الشهداء"، و تتعالي الهتافات و تلتهب الأعصاب. و بين الفريقين يقف جنود الشرطة العسكرية في حياد تام بين فريق مشجعي الرئيس السابق الذي تولي المجلس العسكري عمليا مهمة تنفيذ الخطوة الأخيرة لخلعه عن السلطة، و فريق المطالبين بدم الشهداء الذين أدي ممثل ذلك المجلس العسكري لأرواحهم الطاهرة التحية العسكرية منذ شهور. موقف يستوقف النظر و لعل قراءته المتأنية تتطلب مراجعة الكثير مما جري خلال الشهور الأخيرة.
و تنتقل الكاميرات إلي داخل قاعة المحكمة. المحامون المطالبون بالحق المدني –أي حق الشهداء- يتزاحمون و يتدافعون لاحتلال المقاعد الأمامية و تعلو أصواتهم رغم جهود القاضي الوقور مناشدا الجميع الحرص على انضباط الجلسة، و رغم انتقاله من الرجاء إلي التذكير بسلطاته كقاضي و التهديد باستخدامها إذا لم ينضبط الجميع، بل و اضطراره لرفع الجلسة أكثر من مرة. لعل الأمر يرجع إلي كثرة عدد الشهداء و المصابين و من ثم تضخم عدد ممثليهم. و لعلها جاذبية الكاميرات و حرص المحامي علي أن يراه العالم في هذا الموقف التاريخي، و ربما استطاع أن يحصل علي صورة له تحت الأضواء مرتديا روب المحاماة يضعها في مكتبه للذكري و للصيت أيضا. و علي الجانب المقابل كان المدافعون عن المتهمين أكثر حنكة و هدوءا و أقل تدافعا للظهور علي الشاشات؛ ربما لأنهم اعتادوا بحكم الشهرة أن تبحث عنهم الكاميرات و لا يسعون إليها، فضلا عن أنهم بحكم الخبرة يعرفون أن قرار المحكمة لا علاقة له بالتصايح أو الهتافات، و أن الأهم هو تسجيل الأهداف القانونية.
و جاء فريق المتهمين ليحتلوا أماكنهم داخل القفص. رأيت المتهم الأول مسجي علي سريره الطبي، بشعره المصبوغ فاحم السواد و ابتسامته الساخرة. و حبست أنفاسي و أنا أسمع صوت رئيس المحكمة الوقور ينادي علي "المتهم الأول محمد حسني السيد مبارك". ها قد حانت اللحظة التاريخية الأولي ليقول شيئا. صحيح أنه مستلق علي سرير طبي و لكن الميكروفون أمام فمه و يستطيع من خلاله محاولة مخاطبة العالم، فمجرد المحاولة لها دلالة كبري. حتى لو طلب منه رئيس المحكمة أن يؤجل حديثه إلي أن يحين الوقت المناسب فاستمر في الحديث رغم التنبيه. و لم أسمع سوى جملة "أفندم أنا موجود". تعللت بأنه ربما أخذته المفاجأة، و لم تلبث أن أتيحت الفرصة التاريخية النادرة الثانية بعد ثوان و عندها انهارت كافة توقعاتي و توجساتي فحين سئل المتهم "سمعت الاتهامات التي نسبتها النيابة العامة إليك فما قولك؟" كانت إجابته "هذه الاتهامات أنا أنكرها كاملة" و لم تخرج إجابات بقية أعضاء فريق المتهمين عن هذا المعني. ذكرتني تلك العبارة المختصرة بما يحدث كثيرا في قاعات المحاكم حين يقول المتهم "ما حصلشي" ثم يصمت تاركا المهمة للمحامي الذي يكون قد حذر موكله مسبقا من النطق بأي شيء قد يثبت عليه الجريمة و يلقنه ما ينبغي عليه قوله. قد يكون ذلك هو الصواب من الناحية القانونية، و قد يكون اندفاع المتهم في الحديث إعلانا لمواقفه أمر مخالف للقواعد القانونية في الجلسة الإجرائية الأولي. و لكن الالتزام الصارم بتلك القواعد جعلنا كما لو كنا حيال مجرد متهم في جريمة قتل تتوقف تبرئته علي مهارة محاميه، و لسنا حيال رئيس سابق متهم بقتله لمواطنيه فضلا عن فساد ذمته المالية. و هو الأمر الذي لم تعرفه المحاكمات السياسية الأقل شأنا من "محاكمة القرن" هذه حيث كنا نشهد المتهمين يتسابقون لإعلان مواقفهم السياسية رغم تحذير القضاة لهم أحيانا بضرورة الانتظار.
و جاءت الجلسة الثانية لنشهد تعديلا هاما عند إثبات حضور المتهمين حيث اختفي تعبير "أفندم" الذي لا يستخدم كما عرفت فيما بعد إلا حين تخاطب رتبة أصغر رتبة أعلي منها. و هو يعادل بالتعبيرات المدنية عبارة "سيدي الرئيس" و هي العبارة التي نسمعها كثيرا في قاعات المحاكم عند توجيه الخطاب للقاضي باعتبار أنه صاحب المقام الأرفع داخل المحكمة.
جري كذلك في الجلسة الثانية تعديل آخر للصورة التي بدا عليها المتهم الأول حيث بدا مرتديا لثياب زرقاء بالمخالفة للقوانين المعتادة التي تحدد تلزم المسجون الاحتياطي بارتداء الملابس البيضاء. قد يكون لذلك تفسير أو تيسير قانوني لا نعرفه، و لكن هذين التغييرين يرجحان احتمال أن ثمة علاقة بينهما و ما جري في التغطية الإعلامية للجلسة الأولي من تركيز علي دلالة ملابس الرئيس البيضاء الخاصة بالمحبوسين احتياطيا، و كذلك دلالة استخدامه لتعبير "أفندم" تعبيرا عن التزامه بالسلوك كمتهم؛ و من ثم فقد جري استدراك الأمرين.
و ثمة مشهد آخر بالغ الدلالة جري داخل القفص خلال الجلستين: الأبناء يحاولون حجب والدهم المتهم الأول عن الكاميرات، و هو سلوك ألفناه مؤخرا بالنسبة للمتهمين من رموز النظام السابق عند مثولهم للتحقيق أو المحاكمة، و هو سلوك كان قاصرا فيما قبل علي المتهمين في قضايا الدعارة و السرقة و الجاسوسية و ما إلي ذلك؛ أما المتهمون في قضايا سياسية حتى لو تضمنت سفكا للدماء فقد كنا نشهدهم يتدافعون للظهور و هم خلف القضبان باعتبار محاكمتهم الظالمة شرف لهم و إدانة للنظام الذي يحاكمهم. و يكفي أن نتذكر الصورة التاريخية للرئيس الراحل أنور السادات خلف القضبان، فضلا عن مشاهد محاكمة المتهمين باغتياله، و كذلك مشاهد كافة من اتهموا بمحاولة قلب نظام الحكم من الإخوان و الجماعات الإسلامية و الشيوعيين و غيرهم حيث كانت تشرئب أعناقهم و يتزاحمون التماسا للحظوة بالظهور إعلاميا.
ثم تأتي المشاهد الختامية التي ينظر إليها أهل الاختصاص النفسي و السياسي بل و الفني باعتبارها الرسالة المركزة الأكثر التصاقا في وعي المشاهدين و علي رأس تلك المشاهد مشهدين:
الأول: أحد ضباط الشرطة العسكرية -و لعله كان ضمن من ساهموا عمليا في الإطاحة برأس النظام السابق- يصافح و يحيي بمودة ظاهرة أبناء المتهم الأول و كذلك وزير الداخلية السابق و هم أبرز رموز ذلك النظام الذي سبق أن ساهم في الإطاحة به.
الثاني: أبناء المتهم الأول يرفعون أصابعهم بعلامات النصر و قد خلت أيديهم من القيود المعتادة، و السؤال الذي يفرض نفسه هو: إذا كانوا و قد أطاح بهم المجلس الأعلى للقوات المسلحة استجابة لمطالب الثوار،هل يرون أنفسهم قد انتصروا علي ذلك المجلس؟ أم أنهم قد انتصروا علي "الشهداء" الذين أدي لهم المجلس تحيته العسكرية الشهيرة؟
لا أحد ينكر أن جوهر المشهد هو رسالته المستقبلية: أن رئاسة البلاد لا تعني أن الرئيس فوق القانون، إنها رسالة تتجه أساسا إلي من سيتولون رئاسة مصر القادمة كما أنها توجه إلي الرؤساء و الملوك و الأمراء التي تهتز الأرض تحت مقاعدهم و عروشهم.
و من هنا كانت خطورة و أهمية التفاصيل السلبية التي أشرنا إليها. الخشية كل الخشية أن تحمل تلك التفاصيل رسالة مستقبلية مضادة لكل رئيس قادم أو قائم: فلتطمئنوا. حتى لو أجرمتم، و حتى لو لم يمكنكم الإفلات من الاتهام و المحاكمة؛ فلن تكونوا متهمين كغيركم من المتهمين. ستظل المقامات محفوظة. و لترتفع أيديكم الطليقة بعلامات النصر، فسوف يظل الأمل في الإفلات قائما.
علي أي حال فالمشهد الأخير لم يرفع الستار عنه بعد، و ما شاهدناه هو الفصل الأول من دراما محاكمة القرن، و لعل المشهد الأخير من الفصل الأخير و قبل إسدال الستار سوف يقلب كافة التوقعات، فصياغة الوقائع و خاصة المشهد الأخير في هذه الأحوال لا ينفرد بها طرف واحد مهما كانت حرفيته بل تكون نتاجا لتفاعل بين كافة الأطراف الفاعلة داخليا و محليا و إقليميا و عالميا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق