الخميس، 12 يوليو 2012

هكذا كنا نتحاور منذ أعوام قليلة

مقال منشور بجريدة الأهالي في 15 إبريل 2009 

حوار قديم متجدد حول المقاومة بالسلام


د. قدري حفني

kadrymh@yahoo.com

نشهد بيننا و من حولنا ما يشبه التخوين لدعاة المقاومة بالسلام، و إن كان التجاوز إلي حد التخوين لا يوحد الصفوف، فإن التوجس من فكرة "المقاومة بالسلام" يبدو توجسا مشروعا و مفهوما خاصة بالنسبة لنا و قد عشنا طويلا في ظل ثقافة تقوم علي مبدأ أنه لا سبيل لاستعادة الحقوق التي اغتصبت بالقوة سوي باستخدام نفس السلاح الذي اغتصبت به تلك الحقوق, فما أخذ بالقوة لا يستعاد إلا بالقوة. و يستند هذا المنطق إلي عدد من الحجج الوجيهة لعل أهمها أن الطرف القوي ما دام قويا فإنه لا يأبه بالرأي العام و لا بالشرعية الدولية و لا بالقيم الإنسانية و الدينية و من ثم فلا سبيل لمقاومته سوي بكسر قوته عن طريق العنف. و أن الدعوة إلي المقاومة بالسلام قد تؤدى لتكريس نوع من الاستسلام للقوة و محاولة الرهان علي إقناع الطرف الأقوى بالحجج المنطقية أو استدرار رحمته و عطفه. و أنه إذا كان ثمة مجال للدعوة لثقافة سلام أيا كانت فينبغي أن توجه إلي الظالمين, و المحتلين, و منتهكي المقدسات الذين قابلوا حجارة الفلسطينيين بالرصاص، و شنوا مجزرة وحشية علي غزة المحاصرة.

و عادت بي الذاكرة إلي أعوام بعيدة إثر توقيع اتفاقية السلام حين تبنيت ما أطلقت عليه "إستراتيجية السلام الهجومي"، و دعوت إلي حوار جماعي علني مباشر مع الإسرائيليين الوافدين إلي مصر باعتبار ذلك الحوار من أدوات تلك الاستراتيجية و إن لم يكن أهمها، و قد لاقت تلك الدعوة آنذاك هجوما و استنكارا من جانب العديد من الأصدقاء المصريين و العرب و إن لاقت قدرا من التقبل و المساندة من جانب بعض الإخوة الفلسطينيين. كنت آنذاك متحمسا لفكرتي و لكني كنت موقنا بأنه لا قيمة لها إذا لم تجد قبولا من تيار مؤثر داخل الصف الوطني و لذلك فقد فضلت أن أظل داعيا للحوار ممتنعا عن ممارسته الفعلية.

في ظل هذا المناخ التقيت مصادفة في أحد الممرات في كلية الطب بجامعة عين شمس بالصديق العزيز الأستاذ الدكتور أحمد عكاشة الذي كان متحفظا علي ما ٍكنت أدعو إليه, و إثر تبادل بعض العبارات الودودة و المتحدية في نفس الوقت سألني الدكتور عكاشة عما إذا كنت أتحمل مواجهة مجموعة من طلاب الدراسات العليا يوشك أن يلتقي بهم في سيمينار علمي لأطرح عليهم أفكاري. كانت الدعوة مفاجئة و لذلك كان اللقاء تلقائيا. و قد عبر الطلاب عن رفضهم للمعاهدة، و كراهيتهم لإسرائيل، و رغبتهم في أن تتحرر فلسطين و الجولان من نير الاحتلال الإسرائيلي، كما عبروا عن يقينهم بأن المقاطعة هي السلاح الوطني الناجع في مواجهة إسرائيل, و استمعت بكل الاحترام لآراء الشباب التي كانت تحمل اتهاما لكل ما يتعارض مع شعار المقاطعة و كل ما به شبهة الدعوة للتطبيع، و الاحتجاج بأنه طالما أن إسرائيل ترفض السلام، فلا جدوى من حديث عن السلام. و أكدت لهم أنني بحكم تاريخي الشخصي و خبرتي الراهنة أتفق معهم في كافة المقدمات و لكني أختلف فيما يتعلق بما انتهوا إليه من أن المقاطعة هي السلاح الوطني الناجع للضغط علي إسرائيل و مقاومتها.

و لا يتسع المقام لعرض تفاصيل ما دار في الحوار، كما أنني لا أزعم أنني أقنعت هؤلاء الشباب، و إن كنت أظن أن ما طرحته أثار تفكيرهم خاصة حين دعوتهم لتشكيل مجموعات منهم تبدأ بالتدريب علي فنيات الحوار الجماهيري و التزود بما هو لازم من معلومات عن تطورات الصراع مع إسرائيل ثم الانطلاق للبحث عن الإسرائيليين في أماكن تواجدهم بالمزارات السياحية في القاهرة و غيرها و دعوتهم للحوار العلني حول الحق الفلسطيني. "اسألوهم لماذا تقتلون الفلسطينيون و تقيمون في بيوتهم؟" و استغرقنا الحوار في تفاصيل ما يمكن حدوثه: ماذا لو رفضوا الحوار؟ ماذا لو دعونا لزيارة إسرائيل؟ ماذا لو تهجموا علي ثوابتنا الوطنية؟ و انتهي اللقاء علي أمل استئنافه في مرة قادمة لم تأت أبدا, و الجدير بالتأمل أن فدعوتي – و إن أثارت التفكير- فقد لاقت تحفظا أمنيا مفهوما لما تتضمنه من مخاطر في ظل الحرص علي استمرار "السلام البارد" مع إسرائيل, بحيث يستمر التطبيع في صمت في ظل المقاطعة النخبوية، فضلا عن أنها لاقت رفضا من أنصار المقاطعة و علي رأسهم القوميون و رفاق مسيرة اليسار، و كان للأمانة رفضا راقيا لم يتضمن إهانة شخصية، بل شابه إشفاق علي تاريخي الوطني.

و لقد حدث أن شاركت في تلك الفترة في بحث بعنوان "رؤي الصراع" شارك فيه بعض العلماء الإسرائيليين إلي جانب الفلسطينيين. صحيح أنني أقدمت علي تلك المشاركة –إلي جانب اقتناعي الشخصي- تلبية لتشجيع منظمة التحرير الفلسطينية فضلا عن المسئولين المصريين عن الإدارة الوطنية للعلاقات مع إسرائيل, و رغم ذلك فقد كنت أعي و أتفهم حرص العديد من المثقفين المصريين على مقاطعة أي شكل من أشكال العلاقة بإسرائيل و الإسرائيليين, و كنت رغم التفهم لموقف المقاطعة أتحفظ عليه مبدئيا. و ما أن انتهي البحث حتى فكرت فورا في نشر قصته و نتائجه, و أذكر أن العديد من الأصدقاء همسوا آنذاك في أذني بكل المودة و الإخلاص: لماذا تجلب لنفسك المشاكل و تستثير المزيد من العداوات؟ أليس الأفضل أن تصمت فلعل أحدا لا يقع علي ذلك البحث الذي لم ينشر باللغة العربية؟ و لم أقبل نصائح الأصدقاء لأنني لم أر فيما قمت به فضيحة ينبغي مداراتها, و لا عملا استخباريا ينبغي أن يظل طي السرية. و أتاح لي الصديق الأستاذ الدكتور إبراهيم البحراوي فرصة نشر حلقات متتالية من نتائج البحث علي صفحة خصصتها له جريدة الأخبار لتناول القضايا المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي, وأثار ذلك النشر نقدا ساخنا نشرته جريدة الأخبار، و كان علي رأس المنتقدين للبحث و ما يشوبه من شبهة التطبيع الدكتور سعد الدين إبراهيم.

و إثر انتهاء تلك السلسلة من المقالات نشر الأستاذ حازم هاشم في جريدة الشعب المصرية المعارضة في 20 ديسمبر 1983مقالا يناقش فيه الموضوع بعنوان "ساسة و علماء مصريون في خدمة أبحاث إسرائيل"؛ و عنوان المقال غني عن عرض تفاصيله؛ و انزعج بعض الأصدقاء مما نشر, و نصحوني بالصمت و عدم الرد بدعوي أن الرد سوف يثير الأستاذ حازم هاشم و قد يزوده بمادة تحفزه علي مزيد من الهجوم خاصة و أن الموقف ملتهب سياسيا, و كان لي رأي آخر: حصلت علي رقم تليفون الأستاذ حازم هاشم و اتصلت به و اقترحت عليه إذا لم يكن لديه مانع أن نلتقي لنتناقش في الموضوع, و بالفعل فقد شرفت باستقباله في منزلي حيث دار بيننا حوار طويل استغرق ثلاث ساعات. لم يغير الأستاذ حازم هاشم موقفه من "التطبيع" و لم أعدل من تحفظاتي علي ذلك الموقف, و عرضت عليه أن أكتب تعقيبا علي ما نشره, و بالفعل كتبت مقالا بعنوان "حوار معاتب و ليس تكذيبا" و بالفعل وجد المقال طريقه للنشر علي صفحات جريدة الشعب في 27 ديسمبر 1983 و كتب الأستاذ حازم هاشم بعد ذلك مشيرا إلي زيارته لي قائلا "غادرت منزله و نحن علي خلاف في وجهات النظر و لكننا أصدقاء" ،

و في نفس الفترة اقترحت علي الصديقين محمد سيد احمد و فيليب جلاب أن نلتقي لأطرح لهم أفكاري، و قبل أن نلتقي نشر الأستاذ محمد سيد أحمد علي صفحات هذه الجريدة "الأهالي" في 22 فبراير 1984 مقالا بعنوان " حوار مع قدري حفني ومحمد شعلان" جريدة الأهالي ، العدد 124 ، 22/2/1984 جاء فيه " والجدير بالملاحظة أن بعض المشاركين من الجانب المصري في هذه البحوث أساتذة انتسبوا تاريخيًا إلي اليسار• أذكر علي سبيل المثال لا الحصر، الدكتور قدري حفني، أستاذ علم النفس المساعد بآداب عين شمس، وكان زميلنا في معتقل ابوزعبل وسجن الواحات في بداية الستينات• وقد فاتحني أصدقاء في أن مقاطعتنا تنسحب علي الإسرائيليين، ولا يجب أن تمتد إلي المصريين الذين لا يقاطعونهم، وإلا تمادوا في موقفهم• وكان هناك ما يبرر إجراء حوار معهم، لمقارعة الحجة بالحجة، ولامتحان الحجج في مواجهة مباشرة، خاصة مع هؤلاء الذين جمعتنا معهم مواقف وتضحيات في الماضي دفاعًا عن القضية الوطنية ... قبلت من حيث المبدأ، وبصفتي الشخصية إجراء حوار مع الدكتور قدري حفني والدكتور محمد شعلان. ولكني رأيت أن أشير إلي هذا الحوار قبل بدئه علي صفحات (الأهالي)، ذلك لأنه موضوع ساخن من حق الجمهور متابعته، ولأنه - أيضًا - موضوع لا أستطيع أن أغفل بشأنه صفتي والتزاماتي الحزبية والوطنية. فإن القبول بمبدأ فتح حوار حول أية قضية، مهما كانت شائكة، وإيا كانت المحاذير التي تحيط بها شيء، وتوقع أن مثل هذا الحوار (الحر) يمكن أن يترتب عليه خروج علي ضوابط والتزامات حزبية ووطنية شيء آخر غير وارد تصوره قط"

و التقينا بالفعل في منزل الصديق محمد سيد احمد و دار حوار استغرق عدة ساعات، و لم يجد سبيله للنشر، و تلته و ما زالت حوارات عديدة، و ما زلت علي يقيني بأنه ما زالت هناك إمكانية لممارسة المقاومة بالسلام، و أن استنفاذ تلك الإمكانية أولا يكاد يكون فرض عين، و أن "الواقعية" لا تعني بالضرورة القبول بالاستسلام، كما أن "المقاومة بالسلاح" لا تعني الثورية دائما، و بعد هذا كله بل قبله جميعا يبقي يقيني بأننا جميعا في زورق واحد و أنه ليس من ذنب أخطر من مفارقة الجماعة. و صدق شاعرنا العربي القديم حين قال:

نصحتكمو أمري بمنعرج اللوا فلم تستبينوا النصح إلا ضحي الغد

و ما أنا إلا من غزية إن غوت غويت و إن ترشد غزية أرشد



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق