التفاؤل و التشاؤم و الثورية
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
كنا في معسكر التعذيب في أوري ليمان أبو زعبل نساق صباحا إلي "العمل" و هو تعبير يشير في السجون إلي ممارسة تكسير الأحجار في الجبل و تبدآ الطوابير في التأهب للتحرك نحو الجبل بعد سماع صيحة "صابك عمل"
أذكر واحدا من الزملاء الذين كانوا يعملون قبل الاعتقال بمهنة التعليم. كان فنانا مرهفا، أميل للتفاؤل؛ لكنه كان يبحث عمن يؤكد له صحة تفاؤله و توقعه بأن الغمة لا بد منتهية، وكنت أراه أياما يستلقي إلي جواري بعد إغلاق أبواب العنبر مرتاحا هادئا أقرب للسكينة و التفاؤل، و في ليال أخري أراه حزينا مكتئبا متشائما؛ و اتضح لي أنه في ليالي تفاؤله و سكينته يكون قد التقي أثناء "العمل" بزميل متفائل نقل إليه أن ما نمر به هو ما يطلق عليه بلغة السجون "تكديرة"؛ و أن التكديرة لا تستمر إلا لفترة محدودة محددة سلفا، و أن تلك الفترة توشك أن تنتهي؛ فيعود صاحبنا ليقضي ليلته متفائلا بقرب انقشاع الغمة؛ أما في ليالي الحزن و الاكتئاب فقد كان صاحبنا يلتقي أثناء "العمل" بزميل شديد التشاؤم يؤكد له مستندا إلي وقائع يحفل بها تاريخ النازية و الفاشية أنه لا نهاية للتعذيب إلا حين يقرر النظام الفاشي الحاكم التخلص منا بالقتل، و أن ذلك القتل الجماعي ليس بالمهمة الصعبة، فما أيسر إطلاق الرصاص السجناء بزعم أنهم حاول التمرد أو الهرب، فيعود صاحينا و قد ملأه الغم موقنا أن نهايته وشيكة.
كانت تلك الأحاديث الليلية الهامسة المتشائمة ترهقني كثيرا، فالتشاؤم يشبه الأمراض المعدية. و فكرت في انتهاز فرصة خلال "العمل" لحل هذا الإشكال المرهق، و تصادف جلوسي يوما في دائرة تكسير الأحجار بين الزميلين "المتشائم" و "المتفائل" لأدير حوارا هامسا بينهما. و نجح "المتشائم" في إفحام "المتفائل" و تفنيد حججه، مما دفع بالأخير إلي القول بأنه حتى إذا كانت النهاية مأساوية بالفعل – و هو مجرد احتمال- و أنه لا سبيل البتة لتلافيها، فما الذي يمنع من إتاحة الفرصة لزميل بائس أن يتعلق بأذيال الأمل ليقضي ليلة هادئة، و ساق عدة أبيات من الشعر لشاعر قديم ما زالت عالقة بذاكرتي:
مني إن تكن حقا تكن أحسن المني * * * و إلا فقد عشنا بها زمانا رغدا
و ظل المتشائمون علي تشاؤمهم و كذلك المتفائلون، و إن كان ثمة ملاحظة ينبغي الالتفات إليها و هي أن تشاؤم المتشائمين لم يكن يتجاوز مستقبلهم الشخصي بمعني أنهم يتوقعون أن يقدم "الفاشيست" علي قتلهم، أو أن يظلوا قيد السجن إلي نهاية حياتهم، و لكن ذلك التشاؤم لم يمتد أبدا إلي جوهر القضية؛ فالاشتراكية منتصرة حتما في النهاية طال الزمن أو قصر. سواء كانوا أحياء أو قضوا تحت سياط التعذيب. و كانت تلك الظاهرة تكاد تشمل كافة الساعين للتغيير الاجتماعي السياسي إيا كانت توجهاتهم.
و قد شغلني طويلا و ما زال موضوع العلاقة بين التشاؤم و الثورية. تري هل صحيح أن المتفائل يعجز عن رؤية السلبيات، و بالتالي ينصرف عن محاولة التغيير؟ هل صحيح أن التغيير الثوري الحقيقي لا يمكن أن يصدر إلا عن جماعة مغرقة التشاؤم لا تري إلا ما هو سلبي؟
كتبت يوما عن هذا المعني مشيرا إلي أن حوارنا اليومي مكتوبا أو منطوقا يفيض بنغمة متشائمة لا تخطئها عين و لا أذن، بحيث أصبحت تلك النغمة المتشائمة تكاد تكون بمثابة جواز المرور لبداية أية مناقشة بيننا و بين بعضنا بل حتى بيننا و بين أنفسنا، و كثيرا ما أري التشكك في عيون العديد من الأصدقاء و الأبناء حين يشمون رائحة التفاؤل فيما أكتب أو أقول، فإذا ما صرحت لهم بما يؤكد شكوكهم تحولوا إلي التعجب و التساؤل و الاندهاش بل و الاستنكار: ألا يقلقك ما يجري؟ هل أنت راض عن واقعنا إذن؟
و أجد نفسي أؤكد أنني قلق بل و غاضب كأشد ما يكون القلق و الغضب، و لكن ما أعنيه بالتفاؤل شيء آخر بعيد تماما عن الرضا بالواقع. القلق الصحي كما تعلمنا في علم النفس شرط أساسي من شروط استمرار الحياة، و الوعي بسلبيات الواقع هو الشرط الأساسي لبزوغ و نمو الرغبة في التغيير، و بدون توافر هذين الشرطين تنعدم الحياة حقيقة لا مجازا. أما التفاؤل فإنه يعني اليقين بأن التغيير للأفضل ممكن و سيظل ممكنا، و أن الواقع الراهن مهما بدا مظلما فثمة نقاط مضيئة علينا أن نبحث عنها و ننميها، و أن الثمن المطلوب للتغيير مهما بدا مؤلما فإنه يهون بقدر إيجابية المستقبل المستهدف. يصدق ذلك علي المستوي الفردي كما يصدق علي المستوي السياسي. إن أخطر ما يمكن أن يهدد العمل السياسي هو تسلل عبارة "مفيش فايدة". و لنأخذ نموذجا من بعض ما يجري حولنا و في بلادنا.
ليس من شك في أننا عانينا طويلا و ما زلنا نعاني معاناة حقيقية من القيود المفروضة علي حرية تكوين الأحزاب، و حريات التعبير عن الرأي، و حريات الاحتجاج العلني علي العديد من الممارسات السلبية و علي رأسها التعذيب. ليست تلك القيود بالأمور المستجدة بالنسبة لنا أو لغيرنا، و لم يتوقف نضال الشعوب عبر التاريخ من أجل الحرية. و لننظر إلي النتائج: أين ذهب جلادو الأمس؟ و ما ذا كان مصير نخاسة العبيد و محاكم التفتيش و المكارثية و النازية. لقد طواهم التاريخ جميعا و دفعت الشعوب ثمنا باهظا في سبيل ذلك، و ليس من المتصور أن يختلف مسار اليوم عن مسار الأمس. إن انتهاكات الحرية لم تتلاشى، و لكن نضال الشعوب لم يذهب هباء.
و مظاهر المعاناة حولنا لا حصر لها، من الفساد، إلي الاستبداد، إلي مجازر العراق، و مآسي فلسطين، كل ذلك يدعو للألم و للغضب و للرفض، و لكنه لا يمكن أن يكون مبررا للتشاؤم، فالتشاؤم بوابة الاستسلام لكل شرور الظلم و الفساد، في حين أن التفاؤل هو المدخل الأساسي للتغلب علي كل الشرور، و لننظر إلي التاريخ.
لقد ساد التشاؤم و الظلام بلادنا بعد نكبة 1948، و رأي الفلسطينيون بعيونهم العدوان الصهيوني يلتهم أرضهم الفلسطينية، و لكن لم تلبث أن ظهرت مجموعة متفائلة من الشبان الفلسطينيين علي رأسهم أبو عمار لم يتملكهم اليأس و التشاؤم و أيقنوا أن القضاء علي الظلم ممكن، فكانت البداية المتواضعة لعمليات فتح الفدائية مع نهاية آخر ليالي ديسمبر عام 1964 وبزوغ فجر الأول من يناير 1965. و جاءت هزيمة يونيو 1967. و مع الهزيمة امتد العدوان الصهيوني ليلتهم ضمن ما التهم ما تبقي من فلسطين، و انتشرت النكات و الشعارات تروج لفكرة ألا فائدة ترجي من أي شيء، و لكن لم يهتز تفاؤل المقاومين الفلسطينيين بل ازداد تفاؤلهم و ازداد يقينهم بحقيقة أن للظلم نهاية لا بد و أن يصنعها المظلومون، فكانت معركة الكرامة مارس 1968 و توالت الأحداث و ما زالت. صراع مستمر بين ثقافة المقاومة و ثقافة الاستسلام. و هكذا كان شأننا في مصر أيضا لم نستسلم للتشاؤم إلي أن صنعنا النصر عام 1973. و هكذا كان و سيظل شأن الشعوب المقهورة عبر التاريخ.
التفاؤل إذن سمة المقاومين. هكذا يعلمنا التاريخ، و علم النفس أيضا. أما اليأس و التشاؤم فلا يفرز سوي الاستسلام إما بالصمت و الهروب خوفا، أو بالإرهاب و الانتحار يأسا. و لعل ذلك هو الخيط النفسي الرفيع بين العمل الفدائي و العمل الإرهابي.
جريدة الأهالي 26 أغسطس 2009
الجمعة، 9 ديسمبر 2011
الدعوة للتشاؤم لا تعني سوي الاستسلام
الدعوة للتشاؤم لا تعني سوي الاستسلام
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
انتهي عام 2007، و هل علينا عام 2008، و توالت الكتابات و تسابق الإعلاميون المصريون في قنوات التلفزيون العربية و المصرية و صحف "القطاع الخاص" و العديد من كتاب صحف "القطاع العام" فيما يكاد يكون مباراة في الندب القومي يزايد فيها كل علي الآخر في إبراز المصائب و الكوارث التي حلت بمصر تحديدا خلال العام المنصرم و كيف أن العام القادم سوف يكون أشد قتامة و سوادا، و أنه لا توجد بارقة أمل في نهاية النفق.
و قد عدت بذاكرتي إلي ما سمعنا و رأينا في بدايات الأعوام السابقة فوجدت أنه لم يختلف كثيرا و لا حتي قليلا: انتقاء الأحداث الأكثر مأساوية، و التوقعات الأشد تشاؤما، و الميل إلي إغفال أية نقاط ضوء أو إنجازات، و إذا لم يكن بد من إشارة تفرض نفسها هنا أو هناك لإنجاز ما فلا بد من إلحاقها بتأكيد أن ذلك الذي قد يبدو لبعض السذج إنجازا ليس في حقيقته سوي شرك شرير، أو تمويه محكم، أو تراجع مؤقت، و الجميع يؤكد بيقين لا يتزعزع أن الانهيار قادم لا محالة، و أن الفوضي علي الأبواب، و ليس من فائدة ترجي من أي شيء: لا أمل في إصلاح ما هو قائم، و لا إمكانية لتغييره، و لا أمل يرجى في للتجمعات السياسية القائمة سواء كانت محظورة أو قانونية أو تحت التأسيس أو حتى تحت الأرض، و لا أمل في أية قوي خارجية سواء كان مصدرها بن لادن أو جورج بوش الصغير أو الكبير. الطريق مغلق أمام الجميع دون استثناء. لا مستقبل للنضال المسلح و لا للإرهاب و لا للحلول السلمية أو التفاوض، و لا سبيل لمقاومة الفساد المستشري، و يصبح مضمون الرسالة الإعلامية في النهاية: لا أمل و لا مهرب.
و إذا ما تساءلت: تري و ماذا بعد؟ لم تخرج سوي يزفرة حارة أو تنهيدة عميقة، فإذا ما تجرأت فألمحت و لو من بعيد إلي أنه قد يحتمل –مجرد احتمال- أن يكون هناك أمل و لو بعيد حتى و إن لم يطل بنا العمر لنشهد تحقيقه، تحولت الزفرات و التنهدات إلي نظرات تتراوح بين الشك في قوي المتحدث العقلية و التشكيك في نواياه و انتماءاته السياسية؛ فإذا ما تجاوزت عن ذلك و ألححت في السؤال كانت الإجابة في النهاية قائمة من الينبغيات الموجهة للحكومة و ليس للجماهير، مع تذكيرك بأن السلطة لن تنفذ تلك الروشتة.
ليس من سبيل لدي هؤلاء لتجاوز السلبيات اعتمادا علي إنجازات حققها النضال السياسي الجماهيري تمثلت في تمكن الجماهير المصرية بالفعل من انتزاع المزيد من حقوقها في التظاهر و الاحتجاج العلني، و إقدام بعض الفئات العمالية بل و الموظفين علي ممارسة حق الإضراب بعد أن كفله قانون العمل، و استجابة السلطة - رغم عنادها التقليدي- للضغوط المدنية في مجالات كان مجرد الاقتراب منها يبدو في حكم المستحيل مثل التفاوض علنا مع المضربين و المعتصمين، و حق الأم المصرية المتزوجة من أجنبي في نقل جنسيتها المصرية لأبنائها، و إدخال تعديلات بشأن ضوابط بناء الكنائس، و احتفال الدولة علنا بعيد الميلاد المجيد، و اعتبار أن جرائم التعذيب لا تسقط بالتقادم.
خلاصة القول
لقد أصبح الأمل مجرد الأمل في نظر الكثيرين يبدو معادلا للتسليم بكل ما يحمله الواقع من سلبيات، و أصبح الإمعان في التشاؤم دليلا علي الثورية و رفض السلبيات، و نسي هؤلاء أو لعلهم تناسوا حقيقة أن ما يجمع بين عبدالناصر و لينين و حسن البنا و سعد زغلول و كمال أتاتورك و ياسر عرفات و غاندي و السادات وجيفارا و أمثالهم، أنهم أدركوا سلبيات الواقع من وجهة نظرهم، و كانوا في نفس الوقت علي يقين من إمكانية تغييره. لقد كانوا متفائلين، و لذلك فقد تمكنوا من الإسهام في تغيير دفة التاريخ بصرف النظر عن رؤيتنا لمدي صواب حركتهم.
التفاؤل كما تؤكده دراسات علم النفس السياسي، بعيد تماما عن مجرد القناعة والرضا بالواقع، إنه نظرة للمستقبل تقوم علي اليقين بأن التغيير للأفضل ممكن و سيظل ممكنا، و أن الواقع الراهن مهما بدا مظلما فثمة نقاط مضيئة علينا أن نبحث عنها و ننميها، و أن الثمن المطلوب للتغيير مهما بدا مؤلما فإنه يهون بقدر إيجابية المستقبل المستهدف.
انتشار مرض الإيدز كارثة و لكن تطور أساليب مقاومته و الوقاية منه حقيقة, زلزال آسيا كارثة إنسانية مروعة و لكن تكاتف دول العالم في جهود الإنقاذ الإنسانية حقيقة كذلك, الاحتلال الإسرائيلي و ممارساته البشعة حيال الشعب الفلسطيني مأساة و لكن استمرار الصمود و انفتاح خيارات أساليب المقاومة أمام القوي الوطنية الفلسطينية حقيقة, وجود قاعدة العيديد في قطر كمركز قيادة لقوات الاحتلال الأمريكي في العراق مصيبة ولكن استمرار المقاومة بكافة أشكالها في العراق حقيقة. القيود المفروضة علي الحرية و الليبرالية في عالمنا العربي خطر حقيقي و لكن ما نشهده في مصر تحديدا من اتساع مساحة الاحتجاج المدني و تنوع أساليبه يمثل حقيقة مصرية و أملا عربيا, و المقام لا يتسع للمزيد.
إن دعوة الجمهور للتشاؤم لا تعني سوي دعوته للاستسلام. للهرب. للانتحار. للإرهاب.
جريدة البديل 8 يناير 2008
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
انتهي عام 2007، و هل علينا عام 2008، و توالت الكتابات و تسابق الإعلاميون المصريون في قنوات التلفزيون العربية و المصرية و صحف "القطاع الخاص" و العديد من كتاب صحف "القطاع العام" فيما يكاد يكون مباراة في الندب القومي يزايد فيها كل علي الآخر في إبراز المصائب و الكوارث التي حلت بمصر تحديدا خلال العام المنصرم و كيف أن العام القادم سوف يكون أشد قتامة و سوادا، و أنه لا توجد بارقة أمل في نهاية النفق.
و قد عدت بذاكرتي إلي ما سمعنا و رأينا في بدايات الأعوام السابقة فوجدت أنه لم يختلف كثيرا و لا حتي قليلا: انتقاء الأحداث الأكثر مأساوية، و التوقعات الأشد تشاؤما، و الميل إلي إغفال أية نقاط ضوء أو إنجازات، و إذا لم يكن بد من إشارة تفرض نفسها هنا أو هناك لإنجاز ما فلا بد من إلحاقها بتأكيد أن ذلك الذي قد يبدو لبعض السذج إنجازا ليس في حقيقته سوي شرك شرير، أو تمويه محكم، أو تراجع مؤقت، و الجميع يؤكد بيقين لا يتزعزع أن الانهيار قادم لا محالة، و أن الفوضي علي الأبواب، و ليس من فائدة ترجي من أي شيء: لا أمل في إصلاح ما هو قائم، و لا إمكانية لتغييره، و لا أمل يرجى في للتجمعات السياسية القائمة سواء كانت محظورة أو قانونية أو تحت التأسيس أو حتى تحت الأرض، و لا أمل في أية قوي خارجية سواء كان مصدرها بن لادن أو جورج بوش الصغير أو الكبير. الطريق مغلق أمام الجميع دون استثناء. لا مستقبل للنضال المسلح و لا للإرهاب و لا للحلول السلمية أو التفاوض، و لا سبيل لمقاومة الفساد المستشري، و يصبح مضمون الرسالة الإعلامية في النهاية: لا أمل و لا مهرب.
و إذا ما تساءلت: تري و ماذا بعد؟ لم تخرج سوي يزفرة حارة أو تنهيدة عميقة، فإذا ما تجرأت فألمحت و لو من بعيد إلي أنه قد يحتمل –مجرد احتمال- أن يكون هناك أمل و لو بعيد حتى و إن لم يطل بنا العمر لنشهد تحقيقه، تحولت الزفرات و التنهدات إلي نظرات تتراوح بين الشك في قوي المتحدث العقلية و التشكيك في نواياه و انتماءاته السياسية؛ فإذا ما تجاوزت عن ذلك و ألححت في السؤال كانت الإجابة في النهاية قائمة من الينبغيات الموجهة للحكومة و ليس للجماهير، مع تذكيرك بأن السلطة لن تنفذ تلك الروشتة.
ليس من سبيل لدي هؤلاء لتجاوز السلبيات اعتمادا علي إنجازات حققها النضال السياسي الجماهيري تمثلت في تمكن الجماهير المصرية بالفعل من انتزاع المزيد من حقوقها في التظاهر و الاحتجاج العلني، و إقدام بعض الفئات العمالية بل و الموظفين علي ممارسة حق الإضراب بعد أن كفله قانون العمل، و استجابة السلطة - رغم عنادها التقليدي- للضغوط المدنية في مجالات كان مجرد الاقتراب منها يبدو في حكم المستحيل مثل التفاوض علنا مع المضربين و المعتصمين، و حق الأم المصرية المتزوجة من أجنبي في نقل جنسيتها المصرية لأبنائها، و إدخال تعديلات بشأن ضوابط بناء الكنائس، و احتفال الدولة علنا بعيد الميلاد المجيد، و اعتبار أن جرائم التعذيب لا تسقط بالتقادم.
خلاصة القول
لقد أصبح الأمل مجرد الأمل في نظر الكثيرين يبدو معادلا للتسليم بكل ما يحمله الواقع من سلبيات، و أصبح الإمعان في التشاؤم دليلا علي الثورية و رفض السلبيات، و نسي هؤلاء أو لعلهم تناسوا حقيقة أن ما يجمع بين عبدالناصر و لينين و حسن البنا و سعد زغلول و كمال أتاتورك و ياسر عرفات و غاندي و السادات وجيفارا و أمثالهم، أنهم أدركوا سلبيات الواقع من وجهة نظرهم، و كانوا في نفس الوقت علي يقين من إمكانية تغييره. لقد كانوا متفائلين، و لذلك فقد تمكنوا من الإسهام في تغيير دفة التاريخ بصرف النظر عن رؤيتنا لمدي صواب حركتهم.
التفاؤل كما تؤكده دراسات علم النفس السياسي، بعيد تماما عن مجرد القناعة والرضا بالواقع، إنه نظرة للمستقبل تقوم علي اليقين بأن التغيير للأفضل ممكن و سيظل ممكنا، و أن الواقع الراهن مهما بدا مظلما فثمة نقاط مضيئة علينا أن نبحث عنها و ننميها، و أن الثمن المطلوب للتغيير مهما بدا مؤلما فإنه يهون بقدر إيجابية المستقبل المستهدف.
انتشار مرض الإيدز كارثة و لكن تطور أساليب مقاومته و الوقاية منه حقيقة, زلزال آسيا كارثة إنسانية مروعة و لكن تكاتف دول العالم في جهود الإنقاذ الإنسانية حقيقة كذلك, الاحتلال الإسرائيلي و ممارساته البشعة حيال الشعب الفلسطيني مأساة و لكن استمرار الصمود و انفتاح خيارات أساليب المقاومة أمام القوي الوطنية الفلسطينية حقيقة, وجود قاعدة العيديد في قطر كمركز قيادة لقوات الاحتلال الأمريكي في العراق مصيبة ولكن استمرار المقاومة بكافة أشكالها في العراق حقيقة. القيود المفروضة علي الحرية و الليبرالية في عالمنا العربي خطر حقيقي و لكن ما نشهده في مصر تحديدا من اتساع مساحة الاحتجاج المدني و تنوع أساليبه يمثل حقيقة مصرية و أملا عربيا, و المقام لا يتسع للمزيد.
إن دعوة الجمهور للتشاؤم لا تعني سوي دعوته للاستسلام. للهرب. للانتحار. للإرهاب.
جريدة البديل 8 يناير 2008
صناع المستقبل لا يعرفون التشاؤم
الخوف من التفاؤل
قدري حفني
يفيض حوارنا اليومي مكتوبا أو منطوقا بنغمة متشائمة لا تخطئها عين و لا أذن, بحيث أصبحت تلك النغمة المتشائمة تكاد تكون بمثابة جواز المرور لبداية أية مناقشة بيننا و بين بعضنا بل حتى بيننا و بين أنفسنا, و كثيرا ما أري التشكك في عيون العديد من الأصدقاء و الأبناء حين "يكتشفون" أنني متفائل, فإذا ما صرحت لهم بما يؤكد شكوكهم تحولوا إلي التعجب و التساؤل و الاندهاش بل و الاستنكار: ألا يقلقك ما يجري؟ هل أنت راض عن واقعنا إذن؟
و أجد نفسي أؤكد أنني قلق بل و غاضب كأشد ما يكون القلق و الغضب, و لكن ما أعنيه بالتفاؤل شيء آخر بعيد تماما عن الرضا بالواقع. القلق الصحي كما تعلمنا في علم النفس شرط أساسي من شروط استمرار الحياة, و الوعي بسلبيات الواقع هو الشرط الأساسي لبزوغ و نمو الرغبة في التغيير, و بدون توافر هذين الشرطين تنعدم الحياة حقيقة لا مجازا. أما التفاؤل فإنه يعني اليقين بأن التغيير للأفضل ممكن و سيظل ممكنا, و أن الواقع الراهن مهما بدا مظلما فثمة نقاط مضيئة علينا أن نبحث عنها و ننميها, و أن الثمن المطلوب للتغيير مهما بدا مؤلما فإنه يهون بقدر إيجابية المستقبل المستهدف. يصدق ذلك علي المستوي الفردي كما يصدق علي المستوي السياسي. إن أخطر ما يمكن أن يهدد العمل السياسي هو تسلل عبارة "مفيش فايدة". و لنأخذ نموذجا من بعض ما يجري حولنا و في بلادنا.
ليس من شك في أننا عانينا طويلا و ما زلنا نعاني معاناة حقيقية من القيود المفروضة علي حرية تكوين الأحزاب, و حريات التعبير عن الرأي، و حريات الاحتجاج العلني علي العديد من الممارسات السلبية و علي رأسها التعذيب. ليست تلك القيود بالأمور المستجدة بالنسبة لنا أو لغيرنا, و لم يتوقف نضال الشعوب عبر التاريخ من أجل الحرية. و لننظر إلي النتائج: أين ذهب جلادو الأمس؟ و ما ذا كان مصير نخاسة العبيد و محاكم التفتيش و المكارثية و النازية. لقد طواهم التاريخ جميعا و دفعت الشعوب ثمنا باهظا في سبيل ذلك, و ليس من المتصور أن يختلف مسار اليوم عن مسار الأمس. إن انتهاكات الحرية لم تتلاشى, و لكن نضال الشعوب لم يذهب هباء.
و مظاهر المعاناة حولنا لا حصر لها, من الفساد, إلي الاستبداد, إلي مجازر الفلوجة و قبلها النجف و بعدها الموصل, إلي ما يجري في فلسطين, كل ذلك يدعو للألم و للغضب و للرفض, و لكنه لا يمكن أن يكون مبررا للتشاؤم, فالتشاؤم بوابة الاستسلام لكل شرور الظلم و الفساد, في حين أن التفاؤل هو المدخل الأساسي للتغلب علي كل الشرور, و لننظر إلي التاريخ.
لقد ساد التشاؤم و الظلام بلادنا بعد نكبة 1948, و رأي الفلسطينيون بعيونهم العدوان الصهيوني يلتهم أرضهم الفلسطينية, و لكن لم تلبث أن ظهرت مجموعة متفائلة من الشبان الفلسطينيين علي رأسهم أبو عمار لم يتملكهم اليأس و التشاؤم و أيقنوا أن القضاء علي الظلم ممكن, فكانت البداية المتواضعة لعمليات فتح الفدائية مع نهاية آخر ليالي ديسمبر عام 1964 وبزوغ فجر الأول من يناير 1965. و جاءت هزيمة يونيو 1967. و مع الهزيمة امتد العدوان الصهيوني ليلتهم ضمن ما التهم ما تبقي من فلسطين, و انتشرت النكات و الشعارات تروج لفكرة ألا فائدة ترجي من أي شيء, و لكن لم يهتز تفاؤل المقاومين الفلسطينيين بل ازداد تفاؤلهم و ازداد يقينهم بحقيقة أن للظلم نهاية لا بد و أن يصنعها المظلومون, فكانت معركة الكرامة مارس 1968 و توالت الأحداث و ما زالت. صراع مستمر بين ثقافة المقاومة و ثقافة الاستسلام. و هكذا كان شأننا في مصر أيضا لم نستسلم للتشاؤم إلي أن صنعنا النصر عام 1973. و هكذا كان و سيظل شأن الشعوب المقهورة عبر التاريخ.
التفاؤل إذن سمة المقاومين. هكذا يعلمنا التاريخ, و علم النفس أيضا. أما اليأس و التشاؤم فلا يفرز سوي الاستسلام إما بالصمت و الهروب خوفا, أو بالإرهاب و الانتحار يأسا. و لعل ذلك هو الخيط النفسي الرفيع بين العمل الفدائي و العمل الإرهابي.
إن الظلم و الفساد ظواهر قديمة قدم البشرية ومن ثم فقد شكلت إفرازها الثقافي المتمثل في "ثقافة الاستسلام " في مقابل "ثقافة المقاومة", و لا يخلو تاريخ جماعة بشرية من تصارع هاتين الثقافتين و إن كانت إحداها تشكل الطابع السائد في الفترة التاريخية المحددة.
لقد توافر لدعاة ثقافة الاستسلام ما لم يتوافر لدعاة ثقافة المقاومة من ثراء يكفل لهم تجنيد الكوادر الأكثر خبرة و تدريبا في مجال الإعلام و الحرب النفسية. و بفضل هؤلاء الخبراء المحترفين تطور شكل و مضمون ثقافة الاستسلام. لم يعد هناك مكان لتلك العبارات الساذجة القديمة التي تدعو بفجاجة إلي إيثار السلامة, و من ناحية أخري, لم يعد ممكنا إخفاء بشاعة ما يجري هنا و هناك من ظلم و فساد و استبداد. و أصبح علي خبراء ثقافة الاستسلام البحث عن حل متطور يكفل ترسيخا أعمق لثقافة الاستسلام, متحاشيا إخفاء بشاعة ما يجري, و يكفل في نفس الوقت "تسويق" تلك الثقافة لدي قطاعات أكبر من الجماهير المتعطشة للمعرفة و للعدل.
و كان الحل متمثلا في رفع أشد الشعارات ثورية, و عرض أبشع صور الظلم و الفساد و التدمير و الاستبداد, و تضخيم بشاعة تلك الصور, بل و اختلاق بعض الوقائع اختلاقا, و من ناحية أخري انتقاء أشد صور الإرهاب إثارة للنفور و الاشمئزاز و عرضها باعتبارها النماذج المثلي لمقاومة الظلم. و من خلال هذا التضخيم علي الجانبين ينغلق الطريق أمام أي بارقة للأمل, بل و يصبح أي حديث عن أمل مرتقب و ممكن, أو أي تلميح لإمكانية تخطي الواقع, غاية غير واقعية تحيطها الشبهات, بل جريمة لا تغتفر, و اتجاها معاكسا ينبغي سحقه و تدميره و السخرية منه, و جعله أضحوكة. و من ثم تعلو و تسود نغمة التشاؤم لينفتح باب الاستسلام علي مصراعيه. الاستسلام لكل الشرور من فساد و غزو و ظلم. الاستسلام بالصمت و الهروب خوفا أو الاستسلام بالإرهاب و الانتحار يأسا.
المصري اليوم, 30 نوفمبر 2004
قدري حفني
يفيض حوارنا اليومي مكتوبا أو منطوقا بنغمة متشائمة لا تخطئها عين و لا أذن, بحيث أصبحت تلك النغمة المتشائمة تكاد تكون بمثابة جواز المرور لبداية أية مناقشة بيننا و بين بعضنا بل حتى بيننا و بين أنفسنا, و كثيرا ما أري التشكك في عيون العديد من الأصدقاء و الأبناء حين "يكتشفون" أنني متفائل, فإذا ما صرحت لهم بما يؤكد شكوكهم تحولوا إلي التعجب و التساؤل و الاندهاش بل و الاستنكار: ألا يقلقك ما يجري؟ هل أنت راض عن واقعنا إذن؟
و أجد نفسي أؤكد أنني قلق بل و غاضب كأشد ما يكون القلق و الغضب, و لكن ما أعنيه بالتفاؤل شيء آخر بعيد تماما عن الرضا بالواقع. القلق الصحي كما تعلمنا في علم النفس شرط أساسي من شروط استمرار الحياة, و الوعي بسلبيات الواقع هو الشرط الأساسي لبزوغ و نمو الرغبة في التغيير, و بدون توافر هذين الشرطين تنعدم الحياة حقيقة لا مجازا. أما التفاؤل فإنه يعني اليقين بأن التغيير للأفضل ممكن و سيظل ممكنا, و أن الواقع الراهن مهما بدا مظلما فثمة نقاط مضيئة علينا أن نبحث عنها و ننميها, و أن الثمن المطلوب للتغيير مهما بدا مؤلما فإنه يهون بقدر إيجابية المستقبل المستهدف. يصدق ذلك علي المستوي الفردي كما يصدق علي المستوي السياسي. إن أخطر ما يمكن أن يهدد العمل السياسي هو تسلل عبارة "مفيش فايدة". و لنأخذ نموذجا من بعض ما يجري حولنا و في بلادنا.
ليس من شك في أننا عانينا طويلا و ما زلنا نعاني معاناة حقيقية من القيود المفروضة علي حرية تكوين الأحزاب, و حريات التعبير عن الرأي، و حريات الاحتجاج العلني علي العديد من الممارسات السلبية و علي رأسها التعذيب. ليست تلك القيود بالأمور المستجدة بالنسبة لنا أو لغيرنا, و لم يتوقف نضال الشعوب عبر التاريخ من أجل الحرية. و لننظر إلي النتائج: أين ذهب جلادو الأمس؟ و ما ذا كان مصير نخاسة العبيد و محاكم التفتيش و المكارثية و النازية. لقد طواهم التاريخ جميعا و دفعت الشعوب ثمنا باهظا في سبيل ذلك, و ليس من المتصور أن يختلف مسار اليوم عن مسار الأمس. إن انتهاكات الحرية لم تتلاشى, و لكن نضال الشعوب لم يذهب هباء.
و مظاهر المعاناة حولنا لا حصر لها, من الفساد, إلي الاستبداد, إلي مجازر الفلوجة و قبلها النجف و بعدها الموصل, إلي ما يجري في فلسطين, كل ذلك يدعو للألم و للغضب و للرفض, و لكنه لا يمكن أن يكون مبررا للتشاؤم, فالتشاؤم بوابة الاستسلام لكل شرور الظلم و الفساد, في حين أن التفاؤل هو المدخل الأساسي للتغلب علي كل الشرور, و لننظر إلي التاريخ.
لقد ساد التشاؤم و الظلام بلادنا بعد نكبة 1948, و رأي الفلسطينيون بعيونهم العدوان الصهيوني يلتهم أرضهم الفلسطينية, و لكن لم تلبث أن ظهرت مجموعة متفائلة من الشبان الفلسطينيين علي رأسهم أبو عمار لم يتملكهم اليأس و التشاؤم و أيقنوا أن القضاء علي الظلم ممكن, فكانت البداية المتواضعة لعمليات فتح الفدائية مع نهاية آخر ليالي ديسمبر عام 1964 وبزوغ فجر الأول من يناير 1965. و جاءت هزيمة يونيو 1967. و مع الهزيمة امتد العدوان الصهيوني ليلتهم ضمن ما التهم ما تبقي من فلسطين, و انتشرت النكات و الشعارات تروج لفكرة ألا فائدة ترجي من أي شيء, و لكن لم يهتز تفاؤل المقاومين الفلسطينيين بل ازداد تفاؤلهم و ازداد يقينهم بحقيقة أن للظلم نهاية لا بد و أن يصنعها المظلومون, فكانت معركة الكرامة مارس 1968 و توالت الأحداث و ما زالت. صراع مستمر بين ثقافة المقاومة و ثقافة الاستسلام. و هكذا كان شأننا في مصر أيضا لم نستسلم للتشاؤم إلي أن صنعنا النصر عام 1973. و هكذا كان و سيظل شأن الشعوب المقهورة عبر التاريخ.
التفاؤل إذن سمة المقاومين. هكذا يعلمنا التاريخ, و علم النفس أيضا. أما اليأس و التشاؤم فلا يفرز سوي الاستسلام إما بالصمت و الهروب خوفا, أو بالإرهاب و الانتحار يأسا. و لعل ذلك هو الخيط النفسي الرفيع بين العمل الفدائي و العمل الإرهابي.
إن الظلم و الفساد ظواهر قديمة قدم البشرية ومن ثم فقد شكلت إفرازها الثقافي المتمثل في "ثقافة الاستسلام " في مقابل "ثقافة المقاومة", و لا يخلو تاريخ جماعة بشرية من تصارع هاتين الثقافتين و إن كانت إحداها تشكل الطابع السائد في الفترة التاريخية المحددة.
لقد توافر لدعاة ثقافة الاستسلام ما لم يتوافر لدعاة ثقافة المقاومة من ثراء يكفل لهم تجنيد الكوادر الأكثر خبرة و تدريبا في مجال الإعلام و الحرب النفسية. و بفضل هؤلاء الخبراء المحترفين تطور شكل و مضمون ثقافة الاستسلام. لم يعد هناك مكان لتلك العبارات الساذجة القديمة التي تدعو بفجاجة إلي إيثار السلامة, و من ناحية أخري, لم يعد ممكنا إخفاء بشاعة ما يجري هنا و هناك من ظلم و فساد و استبداد. و أصبح علي خبراء ثقافة الاستسلام البحث عن حل متطور يكفل ترسيخا أعمق لثقافة الاستسلام, متحاشيا إخفاء بشاعة ما يجري, و يكفل في نفس الوقت "تسويق" تلك الثقافة لدي قطاعات أكبر من الجماهير المتعطشة للمعرفة و للعدل.
و كان الحل متمثلا في رفع أشد الشعارات ثورية, و عرض أبشع صور الظلم و الفساد و التدمير و الاستبداد, و تضخيم بشاعة تلك الصور, بل و اختلاق بعض الوقائع اختلاقا, و من ناحية أخري انتقاء أشد صور الإرهاب إثارة للنفور و الاشمئزاز و عرضها باعتبارها النماذج المثلي لمقاومة الظلم. و من خلال هذا التضخيم علي الجانبين ينغلق الطريق أمام أي بارقة للأمل, بل و يصبح أي حديث عن أمل مرتقب و ممكن, أو أي تلميح لإمكانية تخطي الواقع, غاية غير واقعية تحيطها الشبهات, بل جريمة لا تغتفر, و اتجاها معاكسا ينبغي سحقه و تدميره و السخرية منه, و جعله أضحوكة. و من ثم تعلو و تسود نغمة التشاؤم لينفتح باب الاستسلام علي مصراعيه. الاستسلام لكل الشرور من فساد و غزو و ظلم. الاستسلام بالصمت و الهروب خوفا أو الاستسلام بالإرهاب و الانتحار يأسا.
المصري اليوم, 30 نوفمبر 2004
الثلاثاء، 6 ديسمبر 2011
التعذيب و ثقافة المجتمع
التعذيب و ثقافة المجتمع
د. قدري حفني
مقدمة
قبل أن أمسك بالقلم، تساءلت: تري أنلتقي تحت مظلة الدفاع عن حقوق الإنسان لنجدد إدانتنا لجرائم التعذيب فحسب؟ و بدا لي –رغم ضرورة و أهمية بل و قدسية تلك الإدانة- أنني لا أستطيع أن أقدم جديدا، فأمامي العديد من المواثيق الدولية و الإقليمية و الوطنية و الدينية التي تجرم التعذيب، و أمامي آلاف الصفحات التي تسجل جرائم التعذيب، و شهادات الضحايا، و محاولات الجلادين التبرؤ مما اقترفوه، و محاولات من أصدروا الأوامر التنصل من مشاركتهم في تلك الجرائم. تري أي جديد أستطيع أن أقدمه بعد ذلك كله؟ و كدت أتوقف لولا أن خطر لي أمران:
الأمرالأول أنني شخصيا كنت يوما –بل أياما- واحدا من ضحايا التعذيب، و لعل "شهادة من الداخل" رغم أنها شهادة مجروحة، قد تكون ذات معني في مثل هذا اللقاء.
و الأمر الثاني أنني من واقع تخصصي في علم النفس السياسي، و استغراقي في قضايا الصراع العربي الاسرائيلي و توابعه من صراع عربي عربي و فلسطيني فلسطيني، استوقفتني ظاهرة فريدة تمثلت في انتقال التعذيب من الأقبية المظلمة، و الزنزانات الرطبة، و محاولات التخفي خلف الأسوار العالية، و السعي الحثيث إلي إنكار اقتراف تلك الجرائم بل استنكارها و التبرؤ منها، إلي تعذيب أشد بشاعة يحرص مرتكبوه علي اقتراف جرائمهم في وضح النهار، و عوضا عن تسجيلها رغما عنهم تلصصا، و تسريبها خلسة، يقوم الجلادون أنفسهم بتسجيل ما ارتكبوه و إذاعته علنا لمن لم تتح لهم مشاهدته، متفاخرين بما اقترفوه باعتباره بطولات تنم عن مدي تمسكهم بالمبادئ الأخلاقية و الوطنية بل و الدينية الرفيعة.
استوقفني كذلك نوع منتشر من التعذيب "الخاص". تعذيب يمارسه من يقدرون عليه حيال من يستطيعون تعذيبهم من خدم و أطفال و نساء و منافسين إلي آخر قائمة طويلة من المستهدفين، و لا يجد مقترفوا هذا النوع من التعذيب أية غضاضة في الاعتراف بما يقترفونه لخلصائهم باعتباره لا يعدو أن يكون تأديبا أو تقويما بل ولا يجدون غضاضة في اعتبار القوانين التي تدين هذا النوع من التعذيب تدخلا في الخصوصيات بل و قد يعتبرونها دعوة للانحلال و التسيب و خروجا علي صحيح الدين.
إنها أنواع من "التعذيب الجماهيري" إذا ما صح مثل هذا التعبير. تعذيب تم إعداد الجماهير للحفاوة به و التشجيع عليه بل و ممارسته ما استطاعوا إلي ذلك سبيلا، و أظنه الأشد خطورة و الأكثر تدميرا إذا ما قورن بذلك "التعذيب الحكومي" التقليدي الذي ألفناه رغم أن "السلطة" بمعناها الواسع تعد عاملا مشتركا في أنواع التعذيب جميعا باعتبار أن الجلاد إيا كانت صفته يعد ممثلا لسلطة ما بالنسبة للضحية.
التعذيب الحكومي: خبرة ذاتية
كانت أذهان أبناء جيلي تنصرف عادة عند الحديث عن التعذيب إلي قيام ممثلي النظام الحاكم بتعذيب المعتقلين السياسيين من الإخوان المسلمين و الشيوعيين، و كانت ردود أنصار النظام آنذاك تتراوح بين الإنكار التام لوقوع شيء من هذا القبيل، أو التقليل من حجمه و اعتباره من قبيل التجاوزات الاستثنائية، أو التماس الأعذار لمن يقدمون عليه مضطرين لحماية "أمن الوطن" أو "صحيح الدين".
و قد كان مستحيلا آنذاك اللجوء إلي القضاء للنظر في جرائم التعذيب باعتبارها –أي تلك الجرائم- من أعمال السيادة، إلي أن تضمن الدستور الحالي نصا يقضي باعتبار "كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور والقانون جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم،وتكفل الدولة تعويضا عادلا لمن وقع عليه الاعتداء. ( مادة 57 )
لقد تنقلت بين معتقلات القلعة و أوردي ليمان أبو زعبل و الفيوم و السجن الحربي، حيث تعددت ألوان التعذيب الفردي و الجماعي بين الضرب و الجلد و تكسير الحجارة إلي التجويع و العزل و التهديد فضلا عن الإهانات اللفظية، و ظل الحرمان من الزيارات مستمرا في كل الأحوال.
لقد كتب عن ذلك الكثيرون و ليس لدي مزيد من التفاصيل التي يمكن إضافتها. ما يعنيني في هذا المقام الإشارة إلي أن التعذيب في تلك المعسكرات خاصة في أوردي ليمان أبو زعبل كان أشبه بالتعذيب الذي كنت قد قرأت عنه في معسكرات هتلر النازية فيما عدا أفران الغاز الشهيرة. كان تعذيبا لا يستهدف الحصول علي اعترافات أو معلومات، بل مجرد سحق شخصية الضحية. يجري وفق خطة مبرمجة تحول بين الضحية و أية توقعات بحيث لا يعرف تحديدا متي ستكون الضربة القادمة و لا علي أي جزء من جسده ستقع و لا ما هو مبررها المباشر. انعدام التوقعات و من ثم انعدام المعني. عملية مبرمجة مخططة كما لو كنا حيال تجربة معملية لخلق حالة متطرفة من حالات "الاغتراب"، و قد انهار البعض بالفعل و سقطوا في هوة الاضطراب العقلي الصريح.
كان النظام في الأوردي شأن بقية معسكرات التعذيب يقضي بحظر تبادل الحديث بين المعتقلين و بعضهم البعض خاصة بعد إغلاق العنابر عليهم مع نهاية “العمل" وهو التعبير الرسمي عن القيام بتكسير البازلت في الجبل، و اعتاد الجميع الحديث همسا، فإذا ما ارتفع الهمس و لو قليلا، كانت صيحة الحارس "امنع الغاغة " تعد نذيرا بأن عقابا جماعيا إضافيا يتهدد نزلاء هذا العنبر في الصباح، و رغم ذلك فقد ظل التواصل الهامس مستمرا حتى خلال "العمل".
لا خصوصية في السجون و معسكرات التعذيب، و إذا كان انتهاك الخصوصية يعد جريمة يعاقب عليها القانون فإن انتفاء تلك الخصوصية بالنسبة لنزلاء السجون و المعتقلات تصبح هي القاعدة التي تعرض من يخرج عليها بعقاب إضافي. في معسكر التعذيب يكون المرء مرئيا طوال الليل و النهار، و لعلي لم أحس بصدق المقولة الوجودية الشهيرة "الجحيم في عيون الآخين" قدر ما أحسست بصدقها في تلك الأيام. ثمة عيون ترقبك دائما. لا تتلصص و لا تتخفي بل تمارس "حقها" في اقتحامك جهارا نهارا آناء الليل و أطراف النهار. حتي حين يغلق عليك باب "العنبر" فإن ثمة ثقب بالباب تغطيه من الخارج "سقاطة" معدنية متحركة تتيح للحارس الجلاد أن يرفعها وقت يشاء ليطل علي ضحاياه. إنها "العين ذات الجفن المعدنية" . و لا يعد السجن "الانفرادي" خروجا علي هذه القاعدة، فالسجين في هذه الحالة لا يكون منفردا رغم أنه يكون معزولا عن الجماعة؛ فالجلاد المراقب معه دائما و بتركيز أكبر، فليس ثمة ما يشغله سواه. الفارق هو عزلة السجين عن رفاقه. إن إطلاق تعبير "التأديب" علي زنازين السجن الانفرادي ليس مصادفة. إنه أحد الأساليب المفضلة لدي الجلادين لتأديب الضحية بحرمانه من الإئتناس بجماعة الانتماء حتي خلال خضوع تلك الجماعة للتعذيب الجماعي، و يزداد التأثير بطبيعة الحال إذا ما كان السجن الانفرادي مصحوبا بتعذيب انفرادي أيضا حيث يفتقد الضحية الاحساس بأن ثمة من يشاركونه العذاب مما قد يزيد من تحمله من خلال ثقافة جماعية يتساند من خلالها الضحايا. و لقد مررت بخبرة الحبس الانفرادي أكثر من مرة.
أما عن الجلادين، لقد شهدت معسكرات التعذيب المصرية ما عرف بين المعتقلين باسم "فرقة اللواء همت" التي كانت تضم جنودا و ضباطا و صف ضباط من العاملين في السجون يتخصصون في التعذيب الجماعي أو ما يطلق عليه تعبير "التكديرة". سمعت ممن سبقوني إلي الأوردي و بالتالي كانوا أول من استقبلتهم فرقة اللواء همت أن الجلادين قد انهالوا عليهم بالعصي و هم يصرخون طالبين منهم سب آل البيت، مكررين آخر خبرة لهم و كانت تعذيب المعتقلين من الإخوان المسلمين؛ و حين صرخ فيهم قائدهم منبها "دول شيوعيين كفرة" تحولت الصرخات فورا إلي "قولوا لا إله إلا الله يا كفرة". إنهم لم يتلقوا أي نوع من التهيئة الفكرية كما هو الحال مثلا بالنسبة للجلادين في الدول العقائدية، كل ما تلقوه تدريب متقن علي التفاني في الطاعة، و تنفيذ الأوامر فورا دون تفكير.
القبول الجماهيري للتعذيب
لعله من الملفت و إن كان مفهوما أن كافة ممارسات التعذيب مهما كانت بشاعتها تتم تحت غطاء فكري بالغ الجاذبية و الرقي بل انها تتم في كثير من الأحيان مغلفة بغلاف ديني أو وطني. و تعد عملية التغليف هذه أمرا لا غني عنه لتحقيق عدد من الأهداف علي رأسها ضمان الحد الأدني المطلوب من حماس الجلادين لممارسة فظائعهم فضلا عن محاولة كسب رأي عام مساند لتلك الجرائم، و هو ما حدث بالفعل في أحيان كثيرة حيث كان التعذيب فى نظر الجماهير في العصور الوسطي يبدو أمراً "عادياً" وكان يطلقون عليه تسمية أنيقة هي "الاستجواب القضائي". وقد أحتاج الأمر دهورا طويلة نزلت خلالها رسالات من السماء واندلعت ثورات على الأرض ونشبت حروب ضروس وأقيمت حضارات وإمبراطوريات كبري و اندثرت أخري ، احتاج الأمر كل ذلك من أجل إقرار حقوق الإنسان وحرياته ، ومن ضمنها حقه فى احترام كرامته الإنسانية وسلامة جسده وقواه العقلية والنفسية، و رغم ذلك فما زلنا نشهد –كما أشرنا- الكثير من مظاهر التعبير عن حفاوة بل و "سعادة" الجماهير بمشاهدة أو بمعرفة حجم العذاب الذي لحق بالخونة و بالمعارضين المارقين.
و لعله من الملفت للنظر أنه لا محل في القانون لتجريم ذلك الاستمتاع و تلك السعادة بمشاهدة وقائع التعذيب و القتل، رغم أنها فيما نري تعد الظاهرة الأولي بالاهتمام، بل و التجريم؛ فانتشار ممارسة التعذيب لا يمكن أن يتراجع بشكل أساسي إلا إذا أصبح سلوكا مرفوضا بحق و بعمق و بدون استثناء من القطاع الغالب من أبناء المجتمع. و لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بتجفيف منابع ذلك القبول الدفين أو المعلن لممارسة التعذيب بكشف زيف الشعارات و المبررات الدينية أو الوطنية أو الاجتماعية لتعذيب الآخرين مهما كانت جرائمهم الوطنية أو الأخلاقية أو الدينية. إن عملية إعداد و تهيئة الجماهير للقبول بممارسة التعذيب إنما تستند إلي ثقافة تقوم علي ركنين: تقديس العنف، و تقديس الطاعة، و لا سبيل لمواجهة حقيقية و فعالة لهذه الجريمة دون محاولة القضاء علي جذورها، و خلخلة أركانها، و هي ليست بالمحاولة السهلة.
صناعة تقديس العنف
يعد التعذيب نمطا خاصا من أنماط العنف، و يستعمل تعبير "التعذيب" عادة لوصف اي عملية تنزل آلاما جسدية او نفسية بإنسان ما وبصورة متعمدة و منظمة كوسيلة لإستخراج معلومات او الحصول على إعتراف او لغرض التخويف والترعيب او كشكل من اشكال العقوبة او وسيلة للسيطرة على مجموعة معينة تشكل خطرا على السلطة المركزية. ويستعمل التعذيب في كثير من الأحيان لفرض مجموعة من القيم و المعتقدات التي تعتبرها الجهة القائمة بالتعذيب قيما أخلاقية، و تشير المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب إلي أن التعذيب هو "الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أيا كان نوعه، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية".
نخلص من ذلك إلي أن غالبية أنواع العنف و منها ممارسة التعذيب تعد من أنواع السلوك المكتسب، و من ثم فإنه لا يمكن التنبؤ باستعداد الفرد لممارسة التعذيب إلا في حدود ضيقة لا تتعدي اكتشاف المصابين بمرض السادية sadism ، و علي أي حال فإن هؤلاء المرضي لا يمثلون سوي نسبة ضئيلة جدا من السكان و ممن يمارسون التعذيب أيضا.
إن اكتساب الفرد للقدرة علي ممارسة التعذيب تتم من خلال عملية تدريب اجتماعي يغرس قيمة تقديس العنف بتأكيد أن الشخص القوي مرهوب الجانب القادر علي إلحاق الأذي بالآخرين هو الشخص "المحترم" في مقابل أن الشخص الهادئ المسالم الذي يلتزم بالقانون و يلجأ إليه للشكوي و رد الاعتداء شخص ضعيف لا يستحق الاحترام. و لكن يبقي سؤال: لماذا تجد ثقافة العنف دعما و تشجيعا لا تجده ثقافة السلام و الاحتكام للقانون و إدانة التعذيب؟
تؤكد دراسات علم النفس الإعلامي أن رواج سلعة معينة لا يتوقف علي مجرد الإعلان عن وجودها و عرض مزاياها بل أن الرواج الأمثل إنما يتحقق بقيام ثقافة مساندة للسلعة تضمن لها دوام و تصاعد الطلب عليها. و يتطلب خلق مثل تلك الثقافة تشكيلا لخريطة الوعي بما تتضمنه من معايير و قيم و اتجاهات بحيث يصبح الطلب علي تلك السلعة جزءا لا يتجزأ من نسيج تلك الثقافة. يصدق ذلك علي صناعة السياحة بقدر صدقه علي صناعة السينما و السجائر و جراحات التجميل و كذلك الأسلحة.
و لعلنا لا نضيف جديدا إذا ما ذكرنا أن صناعة السلاح تعد من أضخم مجالات الصناعة و أكثرها ربحية, و لذلك فمن الطبيعي أن تسعي تلك الصناعة لدعم الثقافة التي تساندها و تساعد علي ترويجها, و أن تجند لنشر تلك الثقافة –أي ثقافة الحرب- تراثا ضخما من مختلف العلوم الإنسانية علي رأسها الإعلام و علم النفس بل و التاريخ أحيانا.
و لقد أصدر الصحفي البريطاني جدوين باروز عام 2002 كتابا هاما بعنوان "صناعة السلاح" استخدم فيه تعبير "المجموعة القذرة" مشيرا إلي قائمة الدول التي تتصدر صناعة و تصدير السلاح؛ و تتربع الولايات المتحدة على رأسها, تليها روسيا, ثم فرنسا, ثم بريطانيا, وألمانيا ، ثم هولندا, حيث تستأثر تلك الدول الست بتصدير 85% من السلاح في العالم و تحتل إسرائيل المرتبة الثانية عشرة في تلك القائمة, ومن المثير للانتباه أن الدول الأربعة التي تتصدر تلك القائمة أعضاء دائمين في مجلس الأمن المسئول عن "السلام العالمي"، و أن الدول العربية تتصدر قائمة مستوردي تلك الأسلحة.
و هكذا شهدنا و ما زلنا نشهد عبر سنوات طوال آلاف الأفلام و الكتب و دواوين الشعر, بل و الدراسات "العلمية" التي تصب جميعا في تقديس العنف و اعتباره جوهر الطبيعة الإنسانية و السبيل الأوحد للحصول علي الكرامة و الاحترام و الحفاظ علي الحقوق، و من ثم لم يعد أمام الدول و الجماعات بل و الأفراد مهرب من غواية التهيؤ لممارسة العنف، ثم ممارسته ما أمكن ذلك.
و لقد امتدت تلك الغواية لتضرب بجذورها في عمليات التنشئة الاجتماعية التى مارسناها و نمارسها كأمهات وأباء، كمربين وتربويين، كإعلاميين ومسئولين، نمارسها في بيوتنا، ومدارسنا، ومساجدنا وكنائسنا ونوادينا ومكاتبنا. تمارسها صحافتنا واذاعتنا وتليفزيوننا. نمارسها جميعاً دون استثناء. ومن لم يستطع منا ممارستها بالفعل مارسها بالقول، ومن لم يستطع القول مارسها بالصمت ولعله الأشد خطراً.
و قد أدت بنا تلك الممارسة إلى حيث لا يجد المرء أمامه لمواجهة مواقف الحياة إلا واحداً من سبيلين لا ثالث لهما: إما التصدى بالعنف لإزالة ما يحول ببينه وبين ما يريد، ذلك إذا ما استطاع؛ فإذا ما لم يستطع ممارسة دور الجلاد وكان الآخر أقوى من امكاناته، لم يعد أمامه إلا السبيل الآخر وهو الاستسلام دون شروط و تقبل دور الضحية المستضعفة. و هو في الحالتين ملتزم بالطاعة و الانصياع: الطاعة شرط لإتقان التدريب علي العنف، و هي أمر مفروغ من حتميته في حالة الاستسلام.
تقديس الطاعة
يلعب الاستعداد المفرط للطاعة – أو ما يطلق عليه تعبير "المسايرة"- حتي فيما يخالف القانون دورا هاما في إقدام الجلادين علي ممارسة التعذيب، فهم يستجيبون لأوامر رؤسائهم استجابة تتسم بقدر كبير من الخضوع، ولا يناقشون هذه الأوامر ولا حتي يفكرون فيها، بل يطيعون رؤساءهم طاعة عمياء وينفذون أوامرهم بالتعذيب دون تردد، وغالبا ما يكون هؤلاء المسايرون من الذين يسهل إقناعهم واستهواؤهم والإيحاء لهم بأن ما يفعلونه فيه مصلحة للبلد أو للبشرية أو لقضية ما.
لقد اهتم علماء النفس الاجتماعي بمحاولة التماس تفسير لسلوك أولئك الذين يقدمون علي التعذيب بالتنقيب في تاريخ حياتهم و ما مر بهم من أحداث، و لكنهم لم يعثروا علي شيئ له دلالة، فالعديد من الأفراد الذين كانوا يبدون عاديين بل و أقرب إلي الطيبة، قد تصدر عنهم أفظع أنواع السلوك الوحشي في مواقف بعينها، و خلص العلماء إلي أن الأمر إنما هو أمر مكتسب يجري الإعداد له و التدريب عليه من خلال المؤسسات الاجتماعية.
أجرى عالم النفس الاجتماعي فيليب زيمباردو Philip Zimbardo عام 1973 تجربة عرفت باسم تجربة سجن ستانفورد، نسبة إلي جامعة ستانفورد الأمريكية الشهيرة التي كان يعمل بها، و كانت التجربة ممولة من البحرية الأمريكية لمعرفة أسباب الصراع بين المسجونين و الحراس، و كان المفترض أن مهنة السجان تغري الساديون بالتقدم لها و من ثم فقد كانت المهمة الموكولة لزيمباردو التوصل إلي سبيل لاستبعاد الساديين من كشوف المقبولين لشغل تلك الوظائف؛ غير أن زيمباردو فضل القيام بدراسة تجريبية لاختبار احتمال آخر مؤداه أن تكون بيئة السجن في حد ذاتها هي منبع تلك الظاهرة، و ذلك في ضوء نظرية امن نظريات علم النفس الاجتماعي تعرف بنظرية الأدوار بمعني أن الأدوار التي يسند المجتمع للأفراد أداءها هي التي تشكل أداء أولئك الأفراد.
قام زيمباردو بالإعلان في إحدى الصحف عن حاجة جامعة ستانفورد لمتطوعين ذكور لإجراء دراسة نفسية عن "حياة السجن" مقابل 15 دولار للمتطوع يوميا، و تم اختيار 24 متطوعا من الطلاب الجامعيين تأكد أنهم وفقا لنتائج المقاييس النفسية عاديون أسوياء، ثم قام بتقسيمهم إلى مجموعتين على نحو عشوائي بحيث يلعب نصفهم دور المسجونين والنصف الثاني دور الحراس، و ذلك بعد أن تم تحويل بدروم جامعة ستانفورد إلي ما يشبه السجن الحقيقي بزنازينه و أبوابه و فنائه فضلا عن ثياب و شارات السجانين المتمايزة عن المسجونين إلي آخره. وزيادة في فعالية التجربة قام البوليس بالاتفاق مع الجامعة بإلقاء القبض علي من سيقومون بدور المسجونين من منازلهم و اصطحابهم إلي مقر الشرطة حيث عصبت عيونهم ثم نقلو إلي "سجن ستانفورد" دون أن يعرفوا العلاقة بين ما يجري و التجربة التي وافقوا علي التطوع للمشاركة فيها، و تلقاهم "السجَّانون" بملابسهم ونظاراتهم السوداء مما يوحي أنهم شرطة حقيقية معهم كل الصلاحيات وفي أيديهم الهراوات مع رزمة المفاتيح و كذلك كاميرات الفيديو و المسجلات الصوتية لرصد كل ما يجري داخل الزنازين. و حال وصولهم "المساجين" نزعت ملابسهم و سجلت أسمائهم بحيث تحول كل منهم إلى مجرد رقم. و تم تنظيفهم بحمام جماعي ولبسوا ملابس السجن المتهرئة دون أي ملابس داخلية و وضعت السلاسل في أقدامهم.
و كان المفترض أن تستمر التجربة 14 يوما، و لكن الاندماج في الأدوار أخذ في التصاعد بعد ثلاثة أيام حتى تحول إلي مناخ إرهابي حقيقي مما أدي إلي إيقاف التجربة بعد أن وصل الأمر بالسجانين إلى حرمان المعتقلين من قضاء حاجاتهم الإنسانية، فغرقوا في قذارتهم، و دفع البعض لممارسة اللواط. و تعددت حالات الانهيار البدني و العقلي بين المعتقلين.
إلي هذا الحد كان تأثير تصور الدور في خلق "الجلاد"، و عدت بذاكرتي إلي واحد من سجاني أوردي ليمان أبوزعبل الشهير. كان رجلا فقيرا بسيطا و لكنه كان جلادا مفرطا في إخلاصه في أداء دوره إلي حد أنه ذات يوم استغرق في ضرب المعتقلين داخل أحد العنابر إلي أن سقط مغشيا عليه، و أصابنا الرعب خشية أن نتهم بقتله مثلا، و هرع إليه أحد الأطباء من المعتقلين و قام بإفاقته، و همس في أذنه و هو في بداية مرحلة التنبه و قد استعاد دوره كطبيب يزجي النصح لواحد من مرضاه: "لماذا تجهد نفسك إلي هذا الحد" و كانت إجابة السجان "اللي ياخد أجر ربنا يحاسبه علي العمل" باعتبار أن ما يؤديه من تعذيب إنما هو عمل مكلف بأدائه يتقاضي عنه أجرا و عليه أن يحسن أداء هذا العمل. كان الجلاد مخلصا بالفعل فيما يقول.
من هم الجلادون؟
عالم آخر من علماء النفس الاجتماعي هو ستانلي ميللجرام Stanly Milligram الذي التقيت به شخصيا في جامعة نيويورك سيتي City University of New York (CUNY) عام 1983 قبيل وفاته في العام التالي، و تحادثنا حديثا عابرا حول تجاربه الشهيرة و كيف استوقفته بشاعة التعذيب الذي كان يمارسه الجلادون في المعسكرات النازية الشهيرة، و دفعته إلي التساؤل: تري كيف يمكن أن يطيع الإنسان أوامرا تصدر إليه متعارضة مع كافة القيم الإنسانية؟ و كم نسبة أولئك الذين يمكن أن يطيعوا مثل تلك الأوامر؟ و وجه ميللجرام هذا السؤال إلي عدة مئات من المثقفين و المهنيين و منهم العديد من المتخصصين في علم النفس و العلوم الإنسانية في الولايات المتحدة الأمريكية، و كان متوسط تقديراتهم أن نسبة لا تتجاوز 4% أو 5% من الأمريكيين يمكن أن يكون لديهم الاستعداد لتنفيذ مثل تلك الأوامر. و حاول ميللجرام اختبار الأمر تجريبيا، سلسة التجارب المعملية الشهيرة التي عرفت في تاريخ علم النفس الاجتماعي باسم تجارب الطاعة Obedience و استمرت تلك التجارب من عام 1960 حتى عام 1964 في جامعة ييل Yale University بالولايات المتحدة الأمريكية ، وكان الهدف هو دراسة عملية الطاعة فى موقف تجريبى معملي حين يؤمر الشخص بإيذاء الآخرين، و اقتضت التجربة أن يقوم ميللجرام بنشر إعلان فى صحيفة محلية، دعا فيها للمشاركة فى دراسة عن الذاكرة والتعلم. و أن المتطوع سوف يتقاضى أربعة دولارات وخمسين سنتا عن كل ساعة من ساعات المشاركة، و تم إعداد جهاز للتعذيب الكهربائي الوهمي يحتوى علي 30 مفتاحا وضعت فى خط أفقى• وكل مفتاح مرقم بعدد الصدمات الموجهة وتبدأ من 15 فولتًا إلى 45 فولتًا بزيادة 15 فولتًا بين المفتاح والآخر من اليسار إلى اليمين بالإضافة إلى كتابة مستوى الصدمات لكل مجموعة مكونة من أربعة مفاتيح وهى كالآتى : صدمة خفيفة -صدمة معتدلة - صدمة قوية - صدمة قوية جدا- صدمة حادة - صدمة حادة جدا - صدمة قاسية.
و تم الاتفاق مع أحد مدرسي البيولوجيا بالجامعة و الذي يبلغ من العمر 31 عاما علي لعب دور المشرف على التجربة، و أن يحرص خلال أدائه لدوره علي أن يبدو في معطفه الرمادي متبلدا متجهما صارما ، كما تم الاتفاق أيضا مع أحد الموظفين الإداريين بالجامعة يبلغ من العمر 47 عاما علي القيام بدور المتعلم (الضحية) بعد أن تم تدريبه علي إتقان تجسيد ملامح و صرخات من يعاني ألما، بحيث يصبح "المعلم" الذي سوف ينفذ التعليمات بإيقاع العقاب المؤلم علي يقين تام من أنه يوقع ألما حقيقيا بالضحية.
و قد شملت العينة أفرادا تباينت مستوياتهم التعليمية من الحاصلين على الثانوية إلى الحاصلين على الدكتوراه، و قد كان 40% منهم من العمال المهرة وغير المهرة، و 40% من الموظفين، و 20% من المهنيين، و تراوحت أعمارهم بين العشرينات، و الأربعينات.
و تبدأ التجربة باستدعاء شخصين من أفراد العينة، أحدهما ذلك الموظف الذي سبق تدريبه علي لعب دور الضحية، حيث يشرح لهما المجرب المزعوم أن "الهدف من التجربة معرفة أثر العقاب على التعلم مشيرا إلي أن هناك نقص شديد فى هذا النوع من الدراسات، و أننا على سبيل المثال لا نعرف إلى أى حد يفيد العقاب فى التعلم أو الفرق بين توجيهه للأعمار المختلفة، و لذا فأنني أطلب من أحدكم أن يكون "معلما" والآخر أن يكون "طالبا" و سوف يكون ذلك عن طريق القرعة، فقد كتبت على ورقة كلمة "معلم" والثانية كلمة "طالب". فليسحب كل منكم ورقة لتحدد دوره." غير أن الورقتان كانتا تحتويان علي كلمة "معلم". وبعد سحب القرعة المزيفة يتوجه الفردان إلى غرفة مجاورة حيث يجلس الطالب "المزعوم" مربوطا على كرسى. ويشرح المجرب الهدف من تقييده بأنه لمنع الحركات المتزايدة عند توجيه الصدمات، و أيضا لعدم إتاحة الفرصة أمامه للهرب و عدم استكمال التجربة، ثم يتم توصيل قطب كهربي بمعصم الطالب مع تأكيد أن هذا القطب متصل بالمولد الكهربائى الموجود فى الغرفة المجاورة. و يكون علي (المعلم) قراءة سلسلة من أزواج الكلمات يطلب من (المتعلم) تكرارها، وعقابه إذا أخطأ في ذلك بإعطائه صدمة كهربائية عن طريق جهاز مولد الصدمات، و عليه زيادة شدة الصدمة الكهربائية كلما تكرر الخطأ. و كان علي (المتعلم) أن يرتكب العديد من الأخطاء حسب الخطة الموضوعة لكي يصل المعلم إلى ذروة الصدمات المؤلمة.
و قد تعدلت أشكال إجراء التجربة لرصد تأثيرات مثل: أن يكون الطالب (الضحية) في حجرة مجاورة بحيث لا يصل للمعلم سوي صوته، أو أن يكون علي مرمي بصره بحيث يشهد أيضا تعبيراته عن الألم، أو أن تكون التجربة نسائية تلعب فيها الإناث أدوار الطالبة "الضحية" و المعلمة إلي قائمة طويلة من التعديلات و التغييرات في تفاصيل التجربة، وقد اتضح في النهاية أن شيئا من تلك التغييرات لا يكاد يؤثر على مستوى الطاعة.
لقد كانت النتيجة صادمة بكل المقاييس حتى أن عالم النفس توماس بلاس Thomas Blass نشر عن ميللجرام عام 2002 مقالا يحمل عنوان "الرجل الذي صدم العالم". لقد كشف ميللجرام النقاب عن استعداد غلاب لدي الأمريكيين للطاعة و تنفيذ الأوامر حتى لو اقتضي الأمر تعذيب الآخرين، و أن هؤلاء "المتطوعين" أفراد عاديون لا يعانون من اضطرابات نفسية كالسادية مثلا، و أنهم لا يقدمون علي ما أقدموا عليه تحت ضغط تهديد أو إغراء من سلطة قاهرة. إنهم مجرد متطوعون للمشاركة في تجربة علمية لا يتقاضون مقابل تطوعهم سوي عدة دولارات فقط.
استغرقت تجارب ميللجرام من 1960 حتى 1964 و لم تلبث أن انتشرت التجارب في استراليا و جنوب إفريقيا و العديد من دول أوروبا. و قد قمت بعد ذلك بالإشراف علي عدد من البحوث التي أجراها أبنائي المصريين للحصول علي درجاتهم العلمية متبعين نفس أسلوب تجارب ميللجرام، و لم تكن النتائج لدينا تختلف كثيرا عنها في أي مكان في العالم حيث تراوحت نسبة من يصلون إلي النهاية القصوى في إطاعة الأوامر دون الإقدام علي الانسحاب من التجربة بين 60 و 66 %.
الطاعة الخبيثة ... لماذا؟
لقد أسفرت تلك التجارب عن نتيجة صادمة بكل المقاييس: ثمة "طاعة خبيثة" تسري في أوصال المجتمعات الحديثة، و حاول ميللجرام البحث عن الظروف التي تؤدي بالفرد إلي ذلك النوع من الطاعة، فصك تعبيرا يصعب ترجمته عربيا بكلمة واحدة: AGENTIC STATE وهي مشتقة من مصطلح "العميل أو الوكيل أو الممثل أو المندوب AGENT" بمعني أن الفرد يدرك نفسه باعتباره مجرد كائن ضعيف لا يعدو أن يكون ممثلا أو تابعا لآخر أو لآخرين أو لمؤسسة حتي لقوة معنوية غير منظورة، و أنه في هذا الموقف يتنازل تماما عن حريته في اتخاذ قرارات مستقلة، و بالتالي لا يتحمل أية مسئولية عن أفعاله أو حتي أفكاره. المسئولية يتحملها من يصدر له الأوامر؛ و حتي أولئك الذين يصدرون الأوامر المباشرة ( لاعب دور المجرب في حالة تجارب ميللجرام) قد يصدرون تلك الأوامر في ظل تلك الحالة نفسها بمعني أنهم إنما يحرصون علي إرضاء من أصدر لهم الأوامر، فيحيلون المسئولية إلي المستوي الأعلي و هكذا.
لقد شغلت هذه المشكلة منذ حوالي نصف قرن عالم النفس الشهير اريك فروم الذي أصدر كتابا ذاع صيته و تجاوزت أعداد طبعاته الحد المألوف, و كان عنوانه "الهروب من الحرية". لقد استوقفت فروم ظاهرة التفاف غالبية مواطنيه من أبناء الشعب الألماني حول هتلر الدكتاتور العنصري الذي لم يخف يوما عنصريته أو دكتاتوريته. و هاجر فروم من وطنه الأصلي ميمما صوب الولايات المتحدة الأمريكية حصن الحرية و ملاذ الأحرار, و لم يمض زمن طويل و إذا به يكتشف نفس الظاهرة تفصح عن نفسها جلية في أعماق من تعامل معهم من الأمريكيين. و توصل فروم إلي أن المجتمع في مرحلة معينة من مراحل تطوره السياسي الاجتماعي الاقتصادي يشكل أبناءه و ينشئهم علي النفور من الحرية, بحيث يضيقون بحريتهم أشد الضيق, و يسعون ما وسعهم الجهد لاكتشاف "البطل" الذي يتيح لهم التخلص من أغلالها, فيسارعون إلي الالتفاف حوله و السير وراءه و الانصياع لتوجيهاته دون تفكير أو تردد.
ربما بدا الأمر للوهلة الأولي متناقضا يصعب التسليم به, فالدول و الجماعات جميعا و بلا استثناء واحد و مهما كانت بشاعة وحشيتها, تعلن أنها محبة للحرية ساعية لتحقيقها. و لو نظرنا في بلادنا لوجدنا كافة التيارات السياسية المشروعة و غير المشروعة من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار تعلن جميعا أن الحرية هي الهدف المقدس و النهائي الذي تسعي إليه.
فلنقترب قليلا من شعارات الدعوة للحرية في بلادنا و لدي غيرنا أيضا، لنكتشف أن ثمة كلمة ثابتة تلتصق بغالبية تلك الشعارات. إنها كلمة "و لكن". نحن مع الحرية طبعا و لكن لسنا مع الفوضى. الحرية كل الحرية للشعب و لكن لا حرية لأعداء الشعب. الحرية للوطنيين الحقيقيين و لكن لا حرية للعملاء و المندسين. كل الحرية للأفكار البناءة الشريفة و لكن لا حرية للأفكار الهدامة المستوردة. كل الحرية لأنصار التقدم و لكن لا حرية للرجعيين أنصار التخلف. الحرية قيمة مقدسة و لكن في حدود الالتزام بثوابتنا الدينية و الوطنية. الحرية كل الحرية للمتدينين الطيبين المتمسكين بأوامر الله، و لا حرية لغيرهم من الكفرة و المنحلين. و حتي داخل التيارات الليبرالية تجد من يقول كل الحرية لأنصار الحرية و لكن لا حرية لأعدائها أنصار الحكم المطلق. قد تبدو كل تلك الشعارات براقة حتي نصل إلي تلك الكلمة المفتاحية "و لكن", فإذا ما تساءلنا و كيف يمكن التفرقة؟ من الذي يستطيع الفرز و التمييز؟ كان جوهر الإجابة أن صاحب الشعار هو المرجعية الأولي و الأخيرة للتمييز بين العملاء و الوطنيين, بين الأفكار البناءة و الهدامة, بين التقدميين و الرجعيين, بين الثوابت و المتغيرات الدينية و الوطنية.
خلاصة القول
إن إدانة التعذيب و التصدي له واجب مقدس، و لكن اجتثاث الجذور أو تجفيف المنابع الثقافية المغذية له ينبغي أن تكون فرض عين علي الجميع، بحيث نجرد أنفسنا قبل غيرنا من نزعات تقديس العنف و تقديس الطاعة، و أن نؤكد لأنفسنا و لغيرنا أنه لا استثناءات في إدانة التعذيب إيا كات نوعية الجرائم
إنها معركة صعبة تحتاج إلي نفس طويل.
التعذيب و ثقافة المجتمع
د. قدري حفني
مقدمة
قبل أن أمسك بالقلم، تساءلت: تري أنلتقي تحت مظلة الدفاع عن حقوق الإنسان لنجدد إدانتنا لجرائم التعذيب فحسب؟ و بدا لي –رغم ضرورة و أهمية بل و قدسية تلك الإدانة- أنني لا أستطيع أن أقدم جديدا، فأمامي العديد من المواثيق الدولية و الإقليمية و الوطنية و الدينية التي تجرم التعذيب، و أمامي آلاف الصفحات التي تسجل جرائم التعذيب، و شهادات الضحايا، و محاولات الجلادين التبرؤ مما اقترفوه، و محاولات من أصدروا الأوامر التنصل من مشاركتهم في تلك الجرائم. تري أي جديد أستطيع أن أقدمه بعد ذلك كله؟ و كدت أتوقف لولا أن خطر لي أمران:
الأمرالأول أنني شخصيا كنت يوما –بل أياما- واحدا من ضحايا التعذيب، و لعل "شهادة من الداخل" رغم أنها شهادة مجروحة، قد تكون ذات معني في مثل هذا اللقاء.
و الأمر الثاني أنني من واقع تخصصي في علم النفس السياسي، و استغراقي في قضايا الصراع العربي الاسرائيلي و توابعه من صراع عربي عربي و فلسطيني فلسطيني، استوقفتني ظاهرة فريدة تمثلت في انتقال التعذيب من الأقبية المظلمة، و الزنزانات الرطبة، و محاولات التخفي خلف الأسوار العالية، و السعي الحثيث إلي إنكار اقتراف تلك الجرائم بل استنكارها و التبرؤ منها، إلي تعذيب أشد بشاعة يحرص مرتكبوه علي اقتراف جرائمهم في وضح النهار، و عوضا عن تسجيلها رغما عنهم تلصصا، و تسريبها خلسة، يقوم الجلادون أنفسهم بتسجيل ما ارتكبوه و إذاعته علنا لمن لم تتح لهم مشاهدته، متفاخرين بما اقترفوه باعتباره بطولات تنم عن مدي تمسكهم بالمبادئ الأخلاقية و الوطنية بل و الدينية الرفيعة.
استوقفني كذلك نوع منتشر من التعذيب "الخاص". تعذيب يمارسه من يقدرون عليه حيال من يستطيعون تعذيبهم من خدم و أطفال و نساء و منافسين إلي آخر قائمة طويلة من المستهدفين، و لا يجد مقترفوا هذا النوع من التعذيب أية غضاضة في الاعتراف بما يقترفونه لخلصائهم باعتباره لا يعدو أن يكون تأديبا أو تقويما بل ولا يجدون غضاضة في اعتبار القوانين التي تدين هذا النوع من التعذيب تدخلا في الخصوصيات بل و قد يعتبرونها دعوة للانحلال و التسيب و خروجا علي صحيح الدين.
إنها أنواع من "التعذيب الجماهيري" إذا ما صح مثل هذا التعبير. تعذيب تم إعداد الجماهير للحفاوة به و التشجيع عليه بل و ممارسته ما استطاعوا إلي ذلك سبيلا، و أظنه الأشد خطورة و الأكثر تدميرا إذا ما قورن بذلك "التعذيب الحكومي" التقليدي الذي ألفناه رغم أن "السلطة" بمعناها الواسع تعد عاملا مشتركا في أنواع التعذيب جميعا باعتبار أن الجلاد إيا كانت صفته يعد ممثلا لسلطة ما بالنسبة للضحية.
التعذيب الحكومي: خبرة ذاتية
كانت أذهان أبناء جيلي تنصرف عادة عند الحديث عن التعذيب إلي قيام ممثلي النظام الحاكم بتعذيب المعتقلين السياسيين من الإخوان المسلمين و الشيوعيين، و كانت ردود أنصار النظام آنذاك تتراوح بين الإنكار التام لوقوع شيء من هذا القبيل، أو التقليل من حجمه و اعتباره من قبيل التجاوزات الاستثنائية، أو التماس الأعذار لمن يقدمون عليه مضطرين لحماية "أمن الوطن" أو "صحيح الدين".
و قد كان مستحيلا آنذاك اللجوء إلي القضاء للنظر في جرائم التعذيب باعتبارها –أي تلك الجرائم- من أعمال السيادة، إلي أن تضمن الدستور الحالي نصا يقضي باعتبار "كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور والقانون جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم،وتكفل الدولة تعويضا عادلا لمن وقع عليه الاعتداء. ( مادة 57 )
لقد تنقلت بين معتقلات القلعة و أوردي ليمان أبو زعبل و الفيوم و السجن الحربي، حيث تعددت ألوان التعذيب الفردي و الجماعي بين الضرب و الجلد و تكسير الحجارة إلي التجويع و العزل و التهديد فضلا عن الإهانات اللفظية، و ظل الحرمان من الزيارات مستمرا في كل الأحوال.
لقد كتب عن ذلك الكثيرون و ليس لدي مزيد من التفاصيل التي يمكن إضافتها. ما يعنيني في هذا المقام الإشارة إلي أن التعذيب في تلك المعسكرات خاصة في أوردي ليمان أبو زعبل كان أشبه بالتعذيب الذي كنت قد قرأت عنه في معسكرات هتلر النازية فيما عدا أفران الغاز الشهيرة. كان تعذيبا لا يستهدف الحصول علي اعترافات أو معلومات، بل مجرد سحق شخصية الضحية. يجري وفق خطة مبرمجة تحول بين الضحية و أية توقعات بحيث لا يعرف تحديدا متي ستكون الضربة القادمة و لا علي أي جزء من جسده ستقع و لا ما هو مبررها المباشر. انعدام التوقعات و من ثم انعدام المعني. عملية مبرمجة مخططة كما لو كنا حيال تجربة معملية لخلق حالة متطرفة من حالات "الاغتراب"، و قد انهار البعض بالفعل و سقطوا في هوة الاضطراب العقلي الصريح.
كان النظام في الأوردي شأن بقية معسكرات التعذيب يقضي بحظر تبادل الحديث بين المعتقلين و بعضهم البعض خاصة بعد إغلاق العنابر عليهم مع نهاية “العمل" وهو التعبير الرسمي عن القيام بتكسير البازلت في الجبل، و اعتاد الجميع الحديث همسا، فإذا ما ارتفع الهمس و لو قليلا، كانت صيحة الحارس "امنع الغاغة " تعد نذيرا بأن عقابا جماعيا إضافيا يتهدد نزلاء هذا العنبر في الصباح، و رغم ذلك فقد ظل التواصل الهامس مستمرا حتى خلال "العمل".
لا خصوصية في السجون و معسكرات التعذيب، و إذا كان انتهاك الخصوصية يعد جريمة يعاقب عليها القانون فإن انتفاء تلك الخصوصية بالنسبة لنزلاء السجون و المعتقلات تصبح هي القاعدة التي تعرض من يخرج عليها بعقاب إضافي. في معسكر التعذيب يكون المرء مرئيا طوال الليل و النهار، و لعلي لم أحس بصدق المقولة الوجودية الشهيرة "الجحيم في عيون الآخين" قدر ما أحسست بصدقها في تلك الأيام. ثمة عيون ترقبك دائما. لا تتلصص و لا تتخفي بل تمارس "حقها" في اقتحامك جهارا نهارا آناء الليل و أطراف النهار. حتي حين يغلق عليك باب "العنبر" فإن ثمة ثقب بالباب تغطيه من الخارج "سقاطة" معدنية متحركة تتيح للحارس الجلاد أن يرفعها وقت يشاء ليطل علي ضحاياه. إنها "العين ذات الجفن المعدنية" . و لا يعد السجن "الانفرادي" خروجا علي هذه القاعدة، فالسجين في هذه الحالة لا يكون منفردا رغم أنه يكون معزولا عن الجماعة؛ فالجلاد المراقب معه دائما و بتركيز أكبر، فليس ثمة ما يشغله سواه. الفارق هو عزلة السجين عن رفاقه. إن إطلاق تعبير "التأديب" علي زنازين السجن الانفرادي ليس مصادفة. إنه أحد الأساليب المفضلة لدي الجلادين لتأديب الضحية بحرمانه من الإئتناس بجماعة الانتماء حتي خلال خضوع تلك الجماعة للتعذيب الجماعي، و يزداد التأثير بطبيعة الحال إذا ما كان السجن الانفرادي مصحوبا بتعذيب انفرادي أيضا حيث يفتقد الضحية الاحساس بأن ثمة من يشاركونه العذاب مما قد يزيد من تحمله من خلال ثقافة جماعية يتساند من خلالها الضحايا. و لقد مررت بخبرة الحبس الانفرادي أكثر من مرة.
أما عن الجلادين، لقد شهدت معسكرات التعذيب المصرية ما عرف بين المعتقلين باسم "فرقة اللواء همت" التي كانت تضم جنودا و ضباطا و صف ضباط من العاملين في السجون يتخصصون في التعذيب الجماعي أو ما يطلق عليه تعبير "التكديرة". سمعت ممن سبقوني إلي الأوردي و بالتالي كانوا أول من استقبلتهم فرقة اللواء همت أن الجلادين قد انهالوا عليهم بالعصي و هم يصرخون طالبين منهم سب آل البيت، مكررين آخر خبرة لهم و كانت تعذيب المعتقلين من الإخوان المسلمين؛ و حين صرخ فيهم قائدهم منبها "دول شيوعيين كفرة" تحولت الصرخات فورا إلي "قولوا لا إله إلا الله يا كفرة". إنهم لم يتلقوا أي نوع من التهيئة الفكرية كما هو الحال مثلا بالنسبة للجلادين في الدول العقائدية، كل ما تلقوه تدريب متقن علي التفاني في الطاعة، و تنفيذ الأوامر فورا دون تفكير.
القبول الجماهيري للتعذيب
لعله من الملفت و إن كان مفهوما أن كافة ممارسات التعذيب مهما كانت بشاعتها تتم تحت غطاء فكري بالغ الجاذبية و الرقي بل انها تتم في كثير من الأحيان مغلفة بغلاف ديني أو وطني. و تعد عملية التغليف هذه أمرا لا غني عنه لتحقيق عدد من الأهداف علي رأسها ضمان الحد الأدني المطلوب من حماس الجلادين لممارسة فظائعهم فضلا عن محاولة كسب رأي عام مساند لتلك الجرائم، و هو ما حدث بالفعل في أحيان كثيرة حيث كان التعذيب فى نظر الجماهير في العصور الوسطي يبدو أمراً "عادياً" وكان يطلقون عليه تسمية أنيقة هي "الاستجواب القضائي". وقد أحتاج الأمر دهورا طويلة نزلت خلالها رسالات من السماء واندلعت ثورات على الأرض ونشبت حروب ضروس وأقيمت حضارات وإمبراطوريات كبري و اندثرت أخري ، احتاج الأمر كل ذلك من أجل إقرار حقوق الإنسان وحرياته ، ومن ضمنها حقه فى احترام كرامته الإنسانية وسلامة جسده وقواه العقلية والنفسية، و رغم ذلك فما زلنا نشهد –كما أشرنا- الكثير من مظاهر التعبير عن حفاوة بل و "سعادة" الجماهير بمشاهدة أو بمعرفة حجم العذاب الذي لحق بالخونة و بالمعارضين المارقين.
و لعله من الملفت للنظر أنه لا محل في القانون لتجريم ذلك الاستمتاع و تلك السعادة بمشاهدة وقائع التعذيب و القتل، رغم أنها فيما نري تعد الظاهرة الأولي بالاهتمام، بل و التجريم؛ فانتشار ممارسة التعذيب لا يمكن أن يتراجع بشكل أساسي إلا إذا أصبح سلوكا مرفوضا بحق و بعمق و بدون استثناء من القطاع الغالب من أبناء المجتمع. و لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بتجفيف منابع ذلك القبول الدفين أو المعلن لممارسة التعذيب بكشف زيف الشعارات و المبررات الدينية أو الوطنية أو الاجتماعية لتعذيب الآخرين مهما كانت جرائمهم الوطنية أو الأخلاقية أو الدينية. إن عملية إعداد و تهيئة الجماهير للقبول بممارسة التعذيب إنما تستند إلي ثقافة تقوم علي ركنين: تقديس العنف، و تقديس الطاعة، و لا سبيل لمواجهة حقيقية و فعالة لهذه الجريمة دون محاولة القضاء علي جذورها، و خلخلة أركانها، و هي ليست بالمحاولة السهلة.
صناعة تقديس العنف
يعد التعذيب نمطا خاصا من أنماط العنف، و يستعمل تعبير "التعذيب" عادة لوصف اي عملية تنزل آلاما جسدية او نفسية بإنسان ما وبصورة متعمدة و منظمة كوسيلة لإستخراج معلومات او الحصول على إعتراف او لغرض التخويف والترعيب او كشكل من اشكال العقوبة او وسيلة للسيطرة على مجموعة معينة تشكل خطرا على السلطة المركزية. ويستعمل التعذيب في كثير من الأحيان لفرض مجموعة من القيم و المعتقدات التي تعتبرها الجهة القائمة بالتعذيب قيما أخلاقية، و تشير المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب إلي أن التعذيب هو "الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أيا كان نوعه، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية".
نخلص من ذلك إلي أن غالبية أنواع العنف و منها ممارسة التعذيب تعد من أنواع السلوك المكتسب، و من ثم فإنه لا يمكن التنبؤ باستعداد الفرد لممارسة التعذيب إلا في حدود ضيقة لا تتعدي اكتشاف المصابين بمرض السادية sadism ، و علي أي حال فإن هؤلاء المرضي لا يمثلون سوي نسبة ضئيلة جدا من السكان و ممن يمارسون التعذيب أيضا.
إن اكتساب الفرد للقدرة علي ممارسة التعذيب تتم من خلال عملية تدريب اجتماعي يغرس قيمة تقديس العنف بتأكيد أن الشخص القوي مرهوب الجانب القادر علي إلحاق الأذي بالآخرين هو الشخص "المحترم" في مقابل أن الشخص الهادئ المسالم الذي يلتزم بالقانون و يلجأ إليه للشكوي و رد الاعتداء شخص ضعيف لا يستحق الاحترام. و لكن يبقي سؤال: لماذا تجد ثقافة العنف دعما و تشجيعا لا تجده ثقافة السلام و الاحتكام للقانون و إدانة التعذيب؟
تؤكد دراسات علم النفس الإعلامي أن رواج سلعة معينة لا يتوقف علي مجرد الإعلان عن وجودها و عرض مزاياها بل أن الرواج الأمثل إنما يتحقق بقيام ثقافة مساندة للسلعة تضمن لها دوام و تصاعد الطلب عليها. و يتطلب خلق مثل تلك الثقافة تشكيلا لخريطة الوعي بما تتضمنه من معايير و قيم و اتجاهات بحيث يصبح الطلب علي تلك السلعة جزءا لا يتجزأ من نسيج تلك الثقافة. يصدق ذلك علي صناعة السياحة بقدر صدقه علي صناعة السينما و السجائر و جراحات التجميل و كذلك الأسلحة.
و لعلنا لا نضيف جديدا إذا ما ذكرنا أن صناعة السلاح تعد من أضخم مجالات الصناعة و أكثرها ربحية, و لذلك فمن الطبيعي أن تسعي تلك الصناعة لدعم الثقافة التي تساندها و تساعد علي ترويجها, و أن تجند لنشر تلك الثقافة –أي ثقافة الحرب- تراثا ضخما من مختلف العلوم الإنسانية علي رأسها الإعلام و علم النفس بل و التاريخ أحيانا.
و لقد أصدر الصحفي البريطاني جدوين باروز عام 2002 كتابا هاما بعنوان "صناعة السلاح" استخدم فيه تعبير "المجموعة القذرة" مشيرا إلي قائمة الدول التي تتصدر صناعة و تصدير السلاح؛ و تتربع الولايات المتحدة على رأسها, تليها روسيا, ثم فرنسا, ثم بريطانيا, وألمانيا ، ثم هولندا, حيث تستأثر تلك الدول الست بتصدير 85% من السلاح في العالم و تحتل إسرائيل المرتبة الثانية عشرة في تلك القائمة, ومن المثير للانتباه أن الدول الأربعة التي تتصدر تلك القائمة أعضاء دائمين في مجلس الأمن المسئول عن "السلام العالمي"، و أن الدول العربية تتصدر قائمة مستوردي تلك الأسلحة.
و هكذا شهدنا و ما زلنا نشهد عبر سنوات طوال آلاف الأفلام و الكتب و دواوين الشعر, بل و الدراسات "العلمية" التي تصب جميعا في تقديس العنف و اعتباره جوهر الطبيعة الإنسانية و السبيل الأوحد للحصول علي الكرامة و الاحترام و الحفاظ علي الحقوق، و من ثم لم يعد أمام الدول و الجماعات بل و الأفراد مهرب من غواية التهيؤ لممارسة العنف، ثم ممارسته ما أمكن ذلك.
و لقد امتدت تلك الغواية لتضرب بجذورها في عمليات التنشئة الاجتماعية التى مارسناها و نمارسها كأمهات وأباء، كمربين وتربويين، كإعلاميين ومسئولين، نمارسها في بيوتنا، ومدارسنا، ومساجدنا وكنائسنا ونوادينا ومكاتبنا. تمارسها صحافتنا واذاعتنا وتليفزيوننا. نمارسها جميعاً دون استثناء. ومن لم يستطع منا ممارستها بالفعل مارسها بالقول، ومن لم يستطع القول مارسها بالصمت ولعله الأشد خطراً.
و قد أدت بنا تلك الممارسة إلى حيث لا يجد المرء أمامه لمواجهة مواقف الحياة إلا واحداً من سبيلين لا ثالث لهما: إما التصدى بالعنف لإزالة ما يحول ببينه وبين ما يريد، ذلك إذا ما استطاع؛ فإذا ما لم يستطع ممارسة دور الجلاد وكان الآخر أقوى من امكاناته، لم يعد أمامه إلا السبيل الآخر وهو الاستسلام دون شروط و تقبل دور الضحية المستضعفة. و هو في الحالتين ملتزم بالطاعة و الانصياع: الطاعة شرط لإتقان التدريب علي العنف، و هي أمر مفروغ من حتميته في حالة الاستسلام.
تقديس الطاعة
يلعب الاستعداد المفرط للطاعة – أو ما يطلق عليه تعبير "المسايرة"- حتي فيما يخالف القانون دورا هاما في إقدام الجلادين علي ممارسة التعذيب، فهم يستجيبون لأوامر رؤسائهم استجابة تتسم بقدر كبير من الخضوع، ولا يناقشون هذه الأوامر ولا حتي يفكرون فيها، بل يطيعون رؤساءهم طاعة عمياء وينفذون أوامرهم بالتعذيب دون تردد، وغالبا ما يكون هؤلاء المسايرون من الذين يسهل إقناعهم واستهواؤهم والإيحاء لهم بأن ما يفعلونه فيه مصلحة للبلد أو للبشرية أو لقضية ما.
لقد اهتم علماء النفس الاجتماعي بمحاولة التماس تفسير لسلوك أولئك الذين يقدمون علي التعذيب بالتنقيب في تاريخ حياتهم و ما مر بهم من أحداث، و لكنهم لم يعثروا علي شيئ له دلالة، فالعديد من الأفراد الذين كانوا يبدون عاديين بل و أقرب إلي الطيبة، قد تصدر عنهم أفظع أنواع السلوك الوحشي في مواقف بعينها، و خلص العلماء إلي أن الأمر إنما هو أمر مكتسب يجري الإعداد له و التدريب عليه من خلال المؤسسات الاجتماعية.
أجرى عالم النفس الاجتماعي فيليب زيمباردو Philip Zimbardo عام 1973 تجربة عرفت باسم تجربة سجن ستانفورد، نسبة إلي جامعة ستانفورد الأمريكية الشهيرة التي كان يعمل بها، و كانت التجربة ممولة من البحرية الأمريكية لمعرفة أسباب الصراع بين المسجونين و الحراس، و كان المفترض أن مهنة السجان تغري الساديون بالتقدم لها و من ثم فقد كانت المهمة الموكولة لزيمباردو التوصل إلي سبيل لاستبعاد الساديين من كشوف المقبولين لشغل تلك الوظائف؛ غير أن زيمباردو فضل القيام بدراسة تجريبية لاختبار احتمال آخر مؤداه أن تكون بيئة السجن في حد ذاتها هي منبع تلك الظاهرة، و ذلك في ضوء نظرية امن نظريات علم النفس الاجتماعي تعرف بنظرية الأدوار بمعني أن الأدوار التي يسند المجتمع للأفراد أداءها هي التي تشكل أداء أولئك الأفراد.
قام زيمباردو بالإعلان في إحدى الصحف عن حاجة جامعة ستانفورد لمتطوعين ذكور لإجراء دراسة نفسية عن "حياة السجن" مقابل 15 دولار للمتطوع يوميا، و تم اختيار 24 متطوعا من الطلاب الجامعيين تأكد أنهم وفقا لنتائج المقاييس النفسية عاديون أسوياء، ثم قام بتقسيمهم إلى مجموعتين على نحو عشوائي بحيث يلعب نصفهم دور المسجونين والنصف الثاني دور الحراس، و ذلك بعد أن تم تحويل بدروم جامعة ستانفورد إلي ما يشبه السجن الحقيقي بزنازينه و أبوابه و فنائه فضلا عن ثياب و شارات السجانين المتمايزة عن المسجونين إلي آخره. وزيادة في فعالية التجربة قام البوليس بالاتفاق مع الجامعة بإلقاء القبض علي من سيقومون بدور المسجونين من منازلهم و اصطحابهم إلي مقر الشرطة حيث عصبت عيونهم ثم نقلو إلي "سجن ستانفورد" دون أن يعرفوا العلاقة بين ما يجري و التجربة التي وافقوا علي التطوع للمشاركة فيها، و تلقاهم "السجَّانون" بملابسهم ونظاراتهم السوداء مما يوحي أنهم شرطة حقيقية معهم كل الصلاحيات وفي أيديهم الهراوات مع رزمة المفاتيح و كذلك كاميرات الفيديو و المسجلات الصوتية لرصد كل ما يجري داخل الزنازين. و حال وصولهم "المساجين" نزعت ملابسهم و سجلت أسمائهم بحيث تحول كل منهم إلى مجرد رقم. و تم تنظيفهم بحمام جماعي ولبسوا ملابس السجن المتهرئة دون أي ملابس داخلية و وضعت السلاسل في أقدامهم.
و كان المفترض أن تستمر التجربة 14 يوما، و لكن الاندماج في الأدوار أخذ في التصاعد بعد ثلاثة أيام حتى تحول إلي مناخ إرهابي حقيقي مما أدي إلي إيقاف التجربة بعد أن وصل الأمر بالسجانين إلى حرمان المعتقلين من قضاء حاجاتهم الإنسانية، فغرقوا في قذارتهم، و دفع البعض لممارسة اللواط. و تعددت حالات الانهيار البدني و العقلي بين المعتقلين.
إلي هذا الحد كان تأثير تصور الدور في خلق "الجلاد"، و عدت بذاكرتي إلي واحد من سجاني أوردي ليمان أبوزعبل الشهير. كان رجلا فقيرا بسيطا و لكنه كان جلادا مفرطا في إخلاصه في أداء دوره إلي حد أنه ذات يوم استغرق في ضرب المعتقلين داخل أحد العنابر إلي أن سقط مغشيا عليه، و أصابنا الرعب خشية أن نتهم بقتله مثلا، و هرع إليه أحد الأطباء من المعتقلين و قام بإفاقته، و همس في أذنه و هو في بداية مرحلة التنبه و قد استعاد دوره كطبيب يزجي النصح لواحد من مرضاه: "لماذا تجهد نفسك إلي هذا الحد" و كانت إجابة السجان "اللي ياخد أجر ربنا يحاسبه علي العمل" باعتبار أن ما يؤديه من تعذيب إنما هو عمل مكلف بأدائه يتقاضي عنه أجرا و عليه أن يحسن أداء هذا العمل. كان الجلاد مخلصا بالفعل فيما يقول.
من هم الجلادون؟
عالم آخر من علماء النفس الاجتماعي هو ستانلي ميللجرام Stanly Milligram الذي التقيت به شخصيا في جامعة نيويورك سيتي City University of New York (CUNY) عام 1983 قبيل وفاته في العام التالي، و تحادثنا حديثا عابرا حول تجاربه الشهيرة و كيف استوقفته بشاعة التعذيب الذي كان يمارسه الجلادون في المعسكرات النازية الشهيرة، و دفعته إلي التساؤل: تري كيف يمكن أن يطيع الإنسان أوامرا تصدر إليه متعارضة مع كافة القيم الإنسانية؟ و كم نسبة أولئك الذين يمكن أن يطيعوا مثل تلك الأوامر؟ و وجه ميللجرام هذا السؤال إلي عدة مئات من المثقفين و المهنيين و منهم العديد من المتخصصين في علم النفس و العلوم الإنسانية في الولايات المتحدة الأمريكية، و كان متوسط تقديراتهم أن نسبة لا تتجاوز 4% أو 5% من الأمريكيين يمكن أن يكون لديهم الاستعداد لتنفيذ مثل تلك الأوامر. و حاول ميللجرام اختبار الأمر تجريبيا، سلسة التجارب المعملية الشهيرة التي عرفت في تاريخ علم النفس الاجتماعي باسم تجارب الطاعة Obedience و استمرت تلك التجارب من عام 1960 حتى عام 1964 في جامعة ييل Yale University بالولايات المتحدة الأمريكية ، وكان الهدف هو دراسة عملية الطاعة فى موقف تجريبى معملي حين يؤمر الشخص بإيذاء الآخرين، و اقتضت التجربة أن يقوم ميللجرام بنشر إعلان فى صحيفة محلية، دعا فيها للمشاركة فى دراسة عن الذاكرة والتعلم. و أن المتطوع سوف يتقاضى أربعة دولارات وخمسين سنتا عن كل ساعة من ساعات المشاركة، و تم إعداد جهاز للتعذيب الكهربائي الوهمي يحتوى علي 30 مفتاحا وضعت فى خط أفقى• وكل مفتاح مرقم بعدد الصدمات الموجهة وتبدأ من 15 فولتًا إلى 45 فولتًا بزيادة 15 فولتًا بين المفتاح والآخر من اليسار إلى اليمين بالإضافة إلى كتابة مستوى الصدمات لكل مجموعة مكونة من أربعة مفاتيح وهى كالآتى : صدمة خفيفة -صدمة معتدلة - صدمة قوية - صدمة قوية جدا- صدمة حادة - صدمة حادة جدا - صدمة قاسية.
و تم الاتفاق مع أحد مدرسي البيولوجيا بالجامعة و الذي يبلغ من العمر 31 عاما علي لعب دور المشرف على التجربة، و أن يحرص خلال أدائه لدوره علي أن يبدو في معطفه الرمادي متبلدا متجهما صارما ، كما تم الاتفاق أيضا مع أحد الموظفين الإداريين بالجامعة يبلغ من العمر 47 عاما علي القيام بدور المتعلم (الضحية) بعد أن تم تدريبه علي إتقان تجسيد ملامح و صرخات من يعاني ألما، بحيث يصبح "المعلم" الذي سوف ينفذ التعليمات بإيقاع العقاب المؤلم علي يقين تام من أنه يوقع ألما حقيقيا بالضحية.
و قد شملت العينة أفرادا تباينت مستوياتهم التعليمية من الحاصلين على الثانوية إلى الحاصلين على الدكتوراه، و قد كان 40% منهم من العمال المهرة وغير المهرة، و 40% من الموظفين، و 20% من المهنيين، و تراوحت أعمارهم بين العشرينات، و الأربعينات.
و تبدأ التجربة باستدعاء شخصين من أفراد العينة، أحدهما ذلك الموظف الذي سبق تدريبه علي لعب دور الضحية، حيث يشرح لهما المجرب المزعوم أن "الهدف من التجربة معرفة أثر العقاب على التعلم مشيرا إلي أن هناك نقص شديد فى هذا النوع من الدراسات، و أننا على سبيل المثال لا نعرف إلى أى حد يفيد العقاب فى التعلم أو الفرق بين توجيهه للأعمار المختلفة، و لذا فأنني أطلب من أحدكم أن يكون "معلما" والآخر أن يكون "طالبا" و سوف يكون ذلك عن طريق القرعة، فقد كتبت على ورقة كلمة "معلم" والثانية كلمة "طالب". فليسحب كل منكم ورقة لتحدد دوره." غير أن الورقتان كانتا تحتويان علي كلمة "معلم". وبعد سحب القرعة المزيفة يتوجه الفردان إلى غرفة مجاورة حيث يجلس الطالب "المزعوم" مربوطا على كرسى. ويشرح المجرب الهدف من تقييده بأنه لمنع الحركات المتزايدة عند توجيه الصدمات، و أيضا لعدم إتاحة الفرصة أمامه للهرب و عدم استكمال التجربة، ثم يتم توصيل قطب كهربي بمعصم الطالب مع تأكيد أن هذا القطب متصل بالمولد الكهربائى الموجود فى الغرفة المجاورة. و يكون علي (المعلم) قراءة سلسلة من أزواج الكلمات يطلب من (المتعلم) تكرارها، وعقابه إذا أخطأ في ذلك بإعطائه صدمة كهربائية عن طريق جهاز مولد الصدمات، و عليه زيادة شدة الصدمة الكهربائية كلما تكرر الخطأ. و كان علي (المتعلم) أن يرتكب العديد من الأخطاء حسب الخطة الموضوعة لكي يصل المعلم إلى ذروة الصدمات المؤلمة.
و قد تعدلت أشكال إجراء التجربة لرصد تأثيرات مثل: أن يكون الطالب (الضحية) في حجرة مجاورة بحيث لا يصل للمعلم سوي صوته، أو أن يكون علي مرمي بصره بحيث يشهد أيضا تعبيراته عن الألم، أو أن تكون التجربة نسائية تلعب فيها الإناث أدوار الطالبة "الضحية" و المعلمة إلي قائمة طويلة من التعديلات و التغييرات في تفاصيل التجربة، وقد اتضح في النهاية أن شيئا من تلك التغييرات لا يكاد يؤثر على مستوى الطاعة.
لقد كانت النتيجة صادمة بكل المقاييس حتى أن عالم النفس توماس بلاس Thomas Blass نشر عن ميللجرام عام 2002 مقالا يحمل عنوان "الرجل الذي صدم العالم". لقد كشف ميللجرام النقاب عن استعداد غلاب لدي الأمريكيين للطاعة و تنفيذ الأوامر حتى لو اقتضي الأمر تعذيب الآخرين، و أن هؤلاء "المتطوعين" أفراد عاديون لا يعانون من اضطرابات نفسية كالسادية مثلا، و أنهم لا يقدمون علي ما أقدموا عليه تحت ضغط تهديد أو إغراء من سلطة قاهرة. إنهم مجرد متطوعون للمشاركة في تجربة علمية لا يتقاضون مقابل تطوعهم سوي عدة دولارات فقط.
استغرقت تجارب ميللجرام من 1960 حتى 1964 و لم تلبث أن انتشرت التجارب في استراليا و جنوب إفريقيا و العديد من دول أوروبا. و قد قمت بعد ذلك بالإشراف علي عدد من البحوث التي أجراها أبنائي المصريين للحصول علي درجاتهم العلمية متبعين نفس أسلوب تجارب ميللجرام، و لم تكن النتائج لدينا تختلف كثيرا عنها في أي مكان في العالم حيث تراوحت نسبة من يصلون إلي النهاية القصوى في إطاعة الأوامر دون الإقدام علي الانسحاب من التجربة بين 60 و 66 %.
الطاعة الخبيثة ... لماذا؟
لقد أسفرت تلك التجارب عن نتيجة صادمة بكل المقاييس: ثمة "طاعة خبيثة" تسري في أوصال المجتمعات الحديثة، و حاول ميللجرام البحث عن الظروف التي تؤدي بالفرد إلي ذلك النوع من الطاعة، فصك تعبيرا يصعب ترجمته عربيا بكلمة واحدة: AGENTIC STATE وهي مشتقة من مصطلح "العميل أو الوكيل أو الممثل أو المندوب AGENT" بمعني أن الفرد يدرك نفسه باعتباره مجرد كائن ضعيف لا يعدو أن يكون ممثلا أو تابعا لآخر أو لآخرين أو لمؤسسة حتي لقوة معنوية غير منظورة، و أنه في هذا الموقف يتنازل تماما عن حريته في اتخاذ قرارات مستقلة، و بالتالي لا يتحمل أية مسئولية عن أفعاله أو حتي أفكاره. المسئولية يتحملها من يصدر له الأوامر؛ و حتي أولئك الذين يصدرون الأوامر المباشرة ( لاعب دور المجرب في حالة تجارب ميللجرام) قد يصدرون تلك الأوامر في ظل تلك الحالة نفسها بمعني أنهم إنما يحرصون علي إرضاء من أصدر لهم الأوامر، فيحيلون المسئولية إلي المستوي الأعلي و هكذا.
لقد شغلت هذه المشكلة منذ حوالي نصف قرن عالم النفس الشهير اريك فروم الذي أصدر كتابا ذاع صيته و تجاوزت أعداد طبعاته الحد المألوف, و كان عنوانه "الهروب من الحرية". لقد استوقفت فروم ظاهرة التفاف غالبية مواطنيه من أبناء الشعب الألماني حول هتلر الدكتاتور العنصري الذي لم يخف يوما عنصريته أو دكتاتوريته. و هاجر فروم من وطنه الأصلي ميمما صوب الولايات المتحدة الأمريكية حصن الحرية و ملاذ الأحرار, و لم يمض زمن طويل و إذا به يكتشف نفس الظاهرة تفصح عن نفسها جلية في أعماق من تعامل معهم من الأمريكيين. و توصل فروم إلي أن المجتمع في مرحلة معينة من مراحل تطوره السياسي الاجتماعي الاقتصادي يشكل أبناءه و ينشئهم علي النفور من الحرية, بحيث يضيقون بحريتهم أشد الضيق, و يسعون ما وسعهم الجهد لاكتشاف "البطل" الذي يتيح لهم التخلص من أغلالها, فيسارعون إلي الالتفاف حوله و السير وراءه و الانصياع لتوجيهاته دون تفكير أو تردد.
ربما بدا الأمر للوهلة الأولي متناقضا يصعب التسليم به, فالدول و الجماعات جميعا و بلا استثناء واحد و مهما كانت بشاعة وحشيتها, تعلن أنها محبة للحرية ساعية لتحقيقها. و لو نظرنا في بلادنا لوجدنا كافة التيارات السياسية المشروعة و غير المشروعة من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار تعلن جميعا أن الحرية هي الهدف المقدس و النهائي الذي تسعي إليه.
فلنقترب قليلا من شعارات الدعوة للحرية في بلادنا و لدي غيرنا أيضا، لنكتشف أن ثمة كلمة ثابتة تلتصق بغالبية تلك الشعارات. إنها كلمة "و لكن". نحن مع الحرية طبعا و لكن لسنا مع الفوضى. الحرية كل الحرية للشعب و لكن لا حرية لأعداء الشعب. الحرية للوطنيين الحقيقيين و لكن لا حرية للعملاء و المندسين. كل الحرية للأفكار البناءة الشريفة و لكن لا حرية للأفكار الهدامة المستوردة. كل الحرية لأنصار التقدم و لكن لا حرية للرجعيين أنصار التخلف. الحرية قيمة مقدسة و لكن في حدود الالتزام بثوابتنا الدينية و الوطنية. الحرية كل الحرية للمتدينين الطيبين المتمسكين بأوامر الله، و لا حرية لغيرهم من الكفرة و المنحلين. و حتي داخل التيارات الليبرالية تجد من يقول كل الحرية لأنصار الحرية و لكن لا حرية لأعدائها أنصار الحكم المطلق. قد تبدو كل تلك الشعارات براقة حتي نصل إلي تلك الكلمة المفتاحية "و لكن", فإذا ما تساءلنا و كيف يمكن التفرقة؟ من الذي يستطيع الفرز و التمييز؟ كان جوهر الإجابة أن صاحب الشعار هو المرجعية الأولي و الأخيرة للتمييز بين العملاء و الوطنيين, بين الأفكار البناءة و الهدامة, بين التقدميين و الرجعيين, بين الثوابت و المتغيرات الدينية و الوطنية.
خلاصة القول
إن إدانة التعذيب و التصدي له واجب مقدس، و لكن اجتثاث الجذور أو تجفيف المنابع الثقافية المغذية له ينبغي أن تكون فرض عين علي الجميع، بحيث نجرد أنفسنا قبل غيرنا من نزعات تقديس العنف و تقديس الطاعة، و أن نؤكد لأنفسنا و لغيرنا أنه لا استثناءات في إدانة التعذيب إيا كات نوعية الجرائم
إنها معركة صعبة تحتاج إلي نفس طويل.
د. قدري حفني
مقدمة
قبل أن أمسك بالقلم، تساءلت: تري أنلتقي تحت مظلة الدفاع عن حقوق الإنسان لنجدد إدانتنا لجرائم التعذيب فحسب؟ و بدا لي –رغم ضرورة و أهمية بل و قدسية تلك الإدانة- أنني لا أستطيع أن أقدم جديدا، فأمامي العديد من المواثيق الدولية و الإقليمية و الوطنية و الدينية التي تجرم التعذيب، و أمامي آلاف الصفحات التي تسجل جرائم التعذيب، و شهادات الضحايا، و محاولات الجلادين التبرؤ مما اقترفوه، و محاولات من أصدروا الأوامر التنصل من مشاركتهم في تلك الجرائم. تري أي جديد أستطيع أن أقدمه بعد ذلك كله؟ و كدت أتوقف لولا أن خطر لي أمران:
الأمرالأول أنني شخصيا كنت يوما –بل أياما- واحدا من ضحايا التعذيب، و لعل "شهادة من الداخل" رغم أنها شهادة مجروحة، قد تكون ذات معني في مثل هذا اللقاء.
و الأمر الثاني أنني من واقع تخصصي في علم النفس السياسي، و استغراقي في قضايا الصراع العربي الاسرائيلي و توابعه من صراع عربي عربي و فلسطيني فلسطيني، استوقفتني ظاهرة فريدة تمثلت في انتقال التعذيب من الأقبية المظلمة، و الزنزانات الرطبة، و محاولات التخفي خلف الأسوار العالية، و السعي الحثيث إلي إنكار اقتراف تلك الجرائم بل استنكارها و التبرؤ منها، إلي تعذيب أشد بشاعة يحرص مرتكبوه علي اقتراف جرائمهم في وضح النهار، و عوضا عن تسجيلها رغما عنهم تلصصا، و تسريبها خلسة، يقوم الجلادون أنفسهم بتسجيل ما ارتكبوه و إذاعته علنا لمن لم تتح لهم مشاهدته، متفاخرين بما اقترفوه باعتباره بطولات تنم عن مدي تمسكهم بالمبادئ الأخلاقية و الوطنية بل و الدينية الرفيعة.
استوقفني كذلك نوع منتشر من التعذيب "الخاص". تعذيب يمارسه من يقدرون عليه حيال من يستطيعون تعذيبهم من خدم و أطفال و نساء و منافسين إلي آخر قائمة طويلة من المستهدفين، و لا يجد مقترفوا هذا النوع من التعذيب أية غضاضة في الاعتراف بما يقترفونه لخلصائهم باعتباره لا يعدو أن يكون تأديبا أو تقويما بل ولا يجدون غضاضة في اعتبار القوانين التي تدين هذا النوع من التعذيب تدخلا في الخصوصيات بل و قد يعتبرونها دعوة للانحلال و التسيب و خروجا علي صحيح الدين.
إنها أنواع من "التعذيب الجماهيري" إذا ما صح مثل هذا التعبير. تعذيب تم إعداد الجماهير للحفاوة به و التشجيع عليه بل و ممارسته ما استطاعوا إلي ذلك سبيلا، و أظنه الأشد خطورة و الأكثر تدميرا إذا ما قورن بذلك "التعذيب الحكومي" التقليدي الذي ألفناه رغم أن "السلطة" بمعناها الواسع تعد عاملا مشتركا في أنواع التعذيب جميعا باعتبار أن الجلاد إيا كانت صفته يعد ممثلا لسلطة ما بالنسبة للضحية.
التعذيب الحكومي: خبرة ذاتية
كانت أذهان أبناء جيلي تنصرف عادة عند الحديث عن التعذيب إلي قيام ممثلي النظام الحاكم بتعذيب المعتقلين السياسيين من الإخوان المسلمين و الشيوعيين، و كانت ردود أنصار النظام آنذاك تتراوح بين الإنكار التام لوقوع شيء من هذا القبيل، أو التقليل من حجمه و اعتباره من قبيل التجاوزات الاستثنائية، أو التماس الأعذار لمن يقدمون عليه مضطرين لحماية "أمن الوطن" أو "صحيح الدين".
و قد كان مستحيلا آنذاك اللجوء إلي القضاء للنظر في جرائم التعذيب باعتبارها –أي تلك الجرائم- من أعمال السيادة، إلي أن تضمن الدستور الحالي نصا يقضي باعتبار "كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور والقانون جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم،وتكفل الدولة تعويضا عادلا لمن وقع عليه الاعتداء. ( مادة 57 )
لقد تنقلت بين معتقلات القلعة و أوردي ليمان أبو زعبل و الفيوم و السجن الحربي، حيث تعددت ألوان التعذيب الفردي و الجماعي بين الضرب و الجلد و تكسير الحجارة إلي التجويع و العزل و التهديد فضلا عن الإهانات اللفظية، و ظل الحرمان من الزيارات مستمرا في كل الأحوال.
لقد كتب عن ذلك الكثيرون و ليس لدي مزيد من التفاصيل التي يمكن إضافتها. ما يعنيني في هذا المقام الإشارة إلي أن التعذيب في تلك المعسكرات خاصة في أوردي ليمان أبو زعبل كان أشبه بالتعذيب الذي كنت قد قرأت عنه في معسكرات هتلر النازية فيما عدا أفران الغاز الشهيرة. كان تعذيبا لا يستهدف الحصول علي اعترافات أو معلومات، بل مجرد سحق شخصية الضحية. يجري وفق خطة مبرمجة تحول بين الضحية و أية توقعات بحيث لا يعرف تحديدا متي ستكون الضربة القادمة و لا علي أي جزء من جسده ستقع و لا ما هو مبررها المباشر. انعدام التوقعات و من ثم انعدام المعني. عملية مبرمجة مخططة كما لو كنا حيال تجربة معملية لخلق حالة متطرفة من حالات "الاغتراب"، و قد انهار البعض بالفعل و سقطوا في هوة الاضطراب العقلي الصريح.
كان النظام في الأوردي شأن بقية معسكرات التعذيب يقضي بحظر تبادل الحديث بين المعتقلين و بعضهم البعض خاصة بعد إغلاق العنابر عليهم مع نهاية “العمل" وهو التعبير الرسمي عن القيام بتكسير البازلت في الجبل، و اعتاد الجميع الحديث همسا، فإذا ما ارتفع الهمس و لو قليلا، كانت صيحة الحارس "امنع الغاغة " تعد نذيرا بأن عقابا جماعيا إضافيا يتهدد نزلاء هذا العنبر في الصباح، و رغم ذلك فقد ظل التواصل الهامس مستمرا حتى خلال "العمل".
لا خصوصية في السجون و معسكرات التعذيب، و إذا كان انتهاك الخصوصية يعد جريمة يعاقب عليها القانون فإن انتفاء تلك الخصوصية بالنسبة لنزلاء السجون و المعتقلات تصبح هي القاعدة التي تعرض من يخرج عليها بعقاب إضافي. في معسكر التعذيب يكون المرء مرئيا طوال الليل و النهار، و لعلي لم أحس بصدق المقولة الوجودية الشهيرة "الجحيم في عيون الآخين" قدر ما أحسست بصدقها في تلك الأيام. ثمة عيون ترقبك دائما. لا تتلصص و لا تتخفي بل تمارس "حقها" في اقتحامك جهارا نهارا آناء الليل و أطراف النهار. حتي حين يغلق عليك باب "العنبر" فإن ثمة ثقب بالباب تغطيه من الخارج "سقاطة" معدنية متحركة تتيح للحارس الجلاد أن يرفعها وقت يشاء ليطل علي ضحاياه. إنها "العين ذات الجفن المعدنية" . و لا يعد السجن "الانفرادي" خروجا علي هذه القاعدة، فالسجين في هذه الحالة لا يكون منفردا رغم أنه يكون معزولا عن الجماعة؛ فالجلاد المراقب معه دائما و بتركيز أكبر، فليس ثمة ما يشغله سواه. الفارق هو عزلة السجين عن رفاقه. إن إطلاق تعبير "التأديب" علي زنازين السجن الانفرادي ليس مصادفة. إنه أحد الأساليب المفضلة لدي الجلادين لتأديب الضحية بحرمانه من الإئتناس بجماعة الانتماء حتي خلال خضوع تلك الجماعة للتعذيب الجماعي، و يزداد التأثير بطبيعة الحال إذا ما كان السجن الانفرادي مصحوبا بتعذيب انفرادي أيضا حيث يفتقد الضحية الاحساس بأن ثمة من يشاركونه العذاب مما قد يزيد من تحمله من خلال ثقافة جماعية يتساند من خلالها الضحايا. و لقد مررت بخبرة الحبس الانفرادي أكثر من مرة.
أما عن الجلادين، لقد شهدت معسكرات التعذيب المصرية ما عرف بين المعتقلين باسم "فرقة اللواء همت" التي كانت تضم جنودا و ضباطا و صف ضباط من العاملين في السجون يتخصصون في التعذيب الجماعي أو ما يطلق عليه تعبير "التكديرة". سمعت ممن سبقوني إلي الأوردي و بالتالي كانوا أول من استقبلتهم فرقة اللواء همت أن الجلادين قد انهالوا عليهم بالعصي و هم يصرخون طالبين منهم سب آل البيت، مكررين آخر خبرة لهم و كانت تعذيب المعتقلين من الإخوان المسلمين؛ و حين صرخ فيهم قائدهم منبها "دول شيوعيين كفرة" تحولت الصرخات فورا إلي "قولوا لا إله إلا الله يا كفرة". إنهم لم يتلقوا أي نوع من التهيئة الفكرية كما هو الحال مثلا بالنسبة للجلادين في الدول العقائدية، كل ما تلقوه تدريب متقن علي التفاني في الطاعة، و تنفيذ الأوامر فورا دون تفكير.
القبول الجماهيري للتعذيب
لعله من الملفت و إن كان مفهوما أن كافة ممارسات التعذيب مهما كانت بشاعتها تتم تحت غطاء فكري بالغ الجاذبية و الرقي بل انها تتم في كثير من الأحيان مغلفة بغلاف ديني أو وطني. و تعد عملية التغليف هذه أمرا لا غني عنه لتحقيق عدد من الأهداف علي رأسها ضمان الحد الأدني المطلوب من حماس الجلادين لممارسة فظائعهم فضلا عن محاولة كسب رأي عام مساند لتلك الجرائم، و هو ما حدث بالفعل في أحيان كثيرة حيث كان التعذيب فى نظر الجماهير في العصور الوسطي يبدو أمراً "عادياً" وكان يطلقون عليه تسمية أنيقة هي "الاستجواب القضائي". وقد أحتاج الأمر دهورا طويلة نزلت خلالها رسالات من السماء واندلعت ثورات على الأرض ونشبت حروب ضروس وأقيمت حضارات وإمبراطوريات كبري و اندثرت أخري ، احتاج الأمر كل ذلك من أجل إقرار حقوق الإنسان وحرياته ، ومن ضمنها حقه فى احترام كرامته الإنسانية وسلامة جسده وقواه العقلية والنفسية، و رغم ذلك فما زلنا نشهد –كما أشرنا- الكثير من مظاهر التعبير عن حفاوة بل و "سعادة" الجماهير بمشاهدة أو بمعرفة حجم العذاب الذي لحق بالخونة و بالمعارضين المارقين.
و لعله من الملفت للنظر أنه لا محل في القانون لتجريم ذلك الاستمتاع و تلك السعادة بمشاهدة وقائع التعذيب و القتل، رغم أنها فيما نري تعد الظاهرة الأولي بالاهتمام، بل و التجريم؛ فانتشار ممارسة التعذيب لا يمكن أن يتراجع بشكل أساسي إلا إذا أصبح سلوكا مرفوضا بحق و بعمق و بدون استثناء من القطاع الغالب من أبناء المجتمع. و لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بتجفيف منابع ذلك القبول الدفين أو المعلن لممارسة التعذيب بكشف زيف الشعارات و المبررات الدينية أو الوطنية أو الاجتماعية لتعذيب الآخرين مهما كانت جرائمهم الوطنية أو الأخلاقية أو الدينية. إن عملية إعداد و تهيئة الجماهير للقبول بممارسة التعذيب إنما تستند إلي ثقافة تقوم علي ركنين: تقديس العنف، و تقديس الطاعة، و لا سبيل لمواجهة حقيقية و فعالة لهذه الجريمة دون محاولة القضاء علي جذورها، و خلخلة أركانها، و هي ليست بالمحاولة السهلة.
صناعة تقديس العنف
يعد التعذيب نمطا خاصا من أنماط العنف، و يستعمل تعبير "التعذيب" عادة لوصف اي عملية تنزل آلاما جسدية او نفسية بإنسان ما وبصورة متعمدة و منظمة كوسيلة لإستخراج معلومات او الحصول على إعتراف او لغرض التخويف والترعيب او كشكل من اشكال العقوبة او وسيلة للسيطرة على مجموعة معينة تشكل خطرا على السلطة المركزية. ويستعمل التعذيب في كثير من الأحيان لفرض مجموعة من القيم و المعتقدات التي تعتبرها الجهة القائمة بالتعذيب قيما أخلاقية، و تشير المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب إلي أن التعذيب هو "الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أيا كان نوعه، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية".
نخلص من ذلك إلي أن غالبية أنواع العنف و منها ممارسة التعذيب تعد من أنواع السلوك المكتسب، و من ثم فإنه لا يمكن التنبؤ باستعداد الفرد لممارسة التعذيب إلا في حدود ضيقة لا تتعدي اكتشاف المصابين بمرض السادية sadism ، و علي أي حال فإن هؤلاء المرضي لا يمثلون سوي نسبة ضئيلة جدا من السكان و ممن يمارسون التعذيب أيضا.
إن اكتساب الفرد للقدرة علي ممارسة التعذيب تتم من خلال عملية تدريب اجتماعي يغرس قيمة تقديس العنف بتأكيد أن الشخص القوي مرهوب الجانب القادر علي إلحاق الأذي بالآخرين هو الشخص "المحترم" في مقابل أن الشخص الهادئ المسالم الذي يلتزم بالقانون و يلجأ إليه للشكوي و رد الاعتداء شخص ضعيف لا يستحق الاحترام. و لكن يبقي سؤال: لماذا تجد ثقافة العنف دعما و تشجيعا لا تجده ثقافة السلام و الاحتكام للقانون و إدانة التعذيب؟
تؤكد دراسات علم النفس الإعلامي أن رواج سلعة معينة لا يتوقف علي مجرد الإعلان عن وجودها و عرض مزاياها بل أن الرواج الأمثل إنما يتحقق بقيام ثقافة مساندة للسلعة تضمن لها دوام و تصاعد الطلب عليها. و يتطلب خلق مثل تلك الثقافة تشكيلا لخريطة الوعي بما تتضمنه من معايير و قيم و اتجاهات بحيث يصبح الطلب علي تلك السلعة جزءا لا يتجزأ من نسيج تلك الثقافة. يصدق ذلك علي صناعة السياحة بقدر صدقه علي صناعة السينما و السجائر و جراحات التجميل و كذلك الأسلحة.
و لعلنا لا نضيف جديدا إذا ما ذكرنا أن صناعة السلاح تعد من أضخم مجالات الصناعة و أكثرها ربحية, و لذلك فمن الطبيعي أن تسعي تلك الصناعة لدعم الثقافة التي تساندها و تساعد علي ترويجها, و أن تجند لنشر تلك الثقافة –أي ثقافة الحرب- تراثا ضخما من مختلف العلوم الإنسانية علي رأسها الإعلام و علم النفس بل و التاريخ أحيانا.
و لقد أصدر الصحفي البريطاني جدوين باروز عام 2002 كتابا هاما بعنوان "صناعة السلاح" استخدم فيه تعبير "المجموعة القذرة" مشيرا إلي قائمة الدول التي تتصدر صناعة و تصدير السلاح؛ و تتربع الولايات المتحدة على رأسها, تليها روسيا, ثم فرنسا, ثم بريطانيا, وألمانيا ، ثم هولندا, حيث تستأثر تلك الدول الست بتصدير 85% من السلاح في العالم و تحتل إسرائيل المرتبة الثانية عشرة في تلك القائمة, ومن المثير للانتباه أن الدول الأربعة التي تتصدر تلك القائمة أعضاء دائمين في مجلس الأمن المسئول عن "السلام العالمي"، و أن الدول العربية تتصدر قائمة مستوردي تلك الأسلحة.
و هكذا شهدنا و ما زلنا نشهد عبر سنوات طوال آلاف الأفلام و الكتب و دواوين الشعر, بل و الدراسات "العلمية" التي تصب جميعا في تقديس العنف و اعتباره جوهر الطبيعة الإنسانية و السبيل الأوحد للحصول علي الكرامة و الاحترام و الحفاظ علي الحقوق، و من ثم لم يعد أمام الدول و الجماعات بل و الأفراد مهرب من غواية التهيؤ لممارسة العنف، ثم ممارسته ما أمكن ذلك.
و لقد امتدت تلك الغواية لتضرب بجذورها في عمليات التنشئة الاجتماعية التى مارسناها و نمارسها كأمهات وأباء، كمربين وتربويين، كإعلاميين ومسئولين، نمارسها في بيوتنا، ومدارسنا، ومساجدنا وكنائسنا ونوادينا ومكاتبنا. تمارسها صحافتنا واذاعتنا وتليفزيوننا. نمارسها جميعاً دون استثناء. ومن لم يستطع منا ممارستها بالفعل مارسها بالقول، ومن لم يستطع القول مارسها بالصمت ولعله الأشد خطراً.
و قد أدت بنا تلك الممارسة إلى حيث لا يجد المرء أمامه لمواجهة مواقف الحياة إلا واحداً من سبيلين لا ثالث لهما: إما التصدى بالعنف لإزالة ما يحول ببينه وبين ما يريد، ذلك إذا ما استطاع؛ فإذا ما لم يستطع ممارسة دور الجلاد وكان الآخر أقوى من امكاناته، لم يعد أمامه إلا السبيل الآخر وهو الاستسلام دون شروط و تقبل دور الضحية المستضعفة. و هو في الحالتين ملتزم بالطاعة و الانصياع: الطاعة شرط لإتقان التدريب علي العنف، و هي أمر مفروغ من حتميته في حالة الاستسلام.
تقديس الطاعة
يلعب الاستعداد المفرط للطاعة – أو ما يطلق عليه تعبير "المسايرة"- حتي فيما يخالف القانون دورا هاما في إقدام الجلادين علي ممارسة التعذيب، فهم يستجيبون لأوامر رؤسائهم استجابة تتسم بقدر كبير من الخضوع، ولا يناقشون هذه الأوامر ولا حتي يفكرون فيها، بل يطيعون رؤساءهم طاعة عمياء وينفذون أوامرهم بالتعذيب دون تردد، وغالبا ما يكون هؤلاء المسايرون من الذين يسهل إقناعهم واستهواؤهم والإيحاء لهم بأن ما يفعلونه فيه مصلحة للبلد أو للبشرية أو لقضية ما.
لقد اهتم علماء النفس الاجتماعي بمحاولة التماس تفسير لسلوك أولئك الذين يقدمون علي التعذيب بالتنقيب في تاريخ حياتهم و ما مر بهم من أحداث، و لكنهم لم يعثروا علي شيئ له دلالة، فالعديد من الأفراد الذين كانوا يبدون عاديين بل و أقرب إلي الطيبة، قد تصدر عنهم أفظع أنواع السلوك الوحشي في مواقف بعينها، و خلص العلماء إلي أن الأمر إنما هو أمر مكتسب يجري الإعداد له و التدريب عليه من خلال المؤسسات الاجتماعية.
أجرى عالم النفس الاجتماعي فيليب زيمباردو Philip Zimbardo عام 1973 تجربة عرفت باسم تجربة سجن ستانفورد، نسبة إلي جامعة ستانفورد الأمريكية الشهيرة التي كان يعمل بها، و كانت التجربة ممولة من البحرية الأمريكية لمعرفة أسباب الصراع بين المسجونين و الحراس، و كان المفترض أن مهنة السجان تغري الساديون بالتقدم لها و من ثم فقد كانت المهمة الموكولة لزيمباردو التوصل إلي سبيل لاستبعاد الساديين من كشوف المقبولين لشغل تلك الوظائف؛ غير أن زيمباردو فضل القيام بدراسة تجريبية لاختبار احتمال آخر مؤداه أن تكون بيئة السجن في حد ذاتها هي منبع تلك الظاهرة، و ذلك في ضوء نظرية امن نظريات علم النفس الاجتماعي تعرف بنظرية الأدوار بمعني أن الأدوار التي يسند المجتمع للأفراد أداءها هي التي تشكل أداء أولئك الأفراد.
قام زيمباردو بالإعلان في إحدى الصحف عن حاجة جامعة ستانفورد لمتطوعين ذكور لإجراء دراسة نفسية عن "حياة السجن" مقابل 15 دولار للمتطوع يوميا، و تم اختيار 24 متطوعا من الطلاب الجامعيين تأكد أنهم وفقا لنتائج المقاييس النفسية عاديون أسوياء، ثم قام بتقسيمهم إلى مجموعتين على نحو عشوائي بحيث يلعب نصفهم دور المسجونين والنصف الثاني دور الحراس، و ذلك بعد أن تم تحويل بدروم جامعة ستانفورد إلي ما يشبه السجن الحقيقي بزنازينه و أبوابه و فنائه فضلا عن ثياب و شارات السجانين المتمايزة عن المسجونين إلي آخره. وزيادة في فعالية التجربة قام البوليس بالاتفاق مع الجامعة بإلقاء القبض علي من سيقومون بدور المسجونين من منازلهم و اصطحابهم إلي مقر الشرطة حيث عصبت عيونهم ثم نقلو إلي "سجن ستانفورد" دون أن يعرفوا العلاقة بين ما يجري و التجربة التي وافقوا علي التطوع للمشاركة فيها، و تلقاهم "السجَّانون" بملابسهم ونظاراتهم السوداء مما يوحي أنهم شرطة حقيقية معهم كل الصلاحيات وفي أيديهم الهراوات مع رزمة المفاتيح و كذلك كاميرات الفيديو و المسجلات الصوتية لرصد كل ما يجري داخل الزنازين. و حال وصولهم "المساجين" نزعت ملابسهم و سجلت أسمائهم بحيث تحول كل منهم إلى مجرد رقم. و تم تنظيفهم بحمام جماعي ولبسوا ملابس السجن المتهرئة دون أي ملابس داخلية و وضعت السلاسل في أقدامهم.
و كان المفترض أن تستمر التجربة 14 يوما، و لكن الاندماج في الأدوار أخذ في التصاعد بعد ثلاثة أيام حتى تحول إلي مناخ إرهابي حقيقي مما أدي إلي إيقاف التجربة بعد أن وصل الأمر بالسجانين إلى حرمان المعتقلين من قضاء حاجاتهم الإنسانية، فغرقوا في قذارتهم، و دفع البعض لممارسة اللواط. و تعددت حالات الانهيار البدني و العقلي بين المعتقلين.
إلي هذا الحد كان تأثير تصور الدور في خلق "الجلاد"، و عدت بذاكرتي إلي واحد من سجاني أوردي ليمان أبوزعبل الشهير. كان رجلا فقيرا بسيطا و لكنه كان جلادا مفرطا في إخلاصه في أداء دوره إلي حد أنه ذات يوم استغرق في ضرب المعتقلين داخل أحد العنابر إلي أن سقط مغشيا عليه، و أصابنا الرعب خشية أن نتهم بقتله مثلا، و هرع إليه أحد الأطباء من المعتقلين و قام بإفاقته، و همس في أذنه و هو في بداية مرحلة التنبه و قد استعاد دوره كطبيب يزجي النصح لواحد من مرضاه: "لماذا تجهد نفسك إلي هذا الحد" و كانت إجابة السجان "اللي ياخد أجر ربنا يحاسبه علي العمل" باعتبار أن ما يؤديه من تعذيب إنما هو عمل مكلف بأدائه يتقاضي عنه أجرا و عليه أن يحسن أداء هذا العمل. كان الجلاد مخلصا بالفعل فيما يقول.
من هم الجلادون؟
عالم آخر من علماء النفس الاجتماعي هو ستانلي ميللجرام Stanly Milligram الذي التقيت به شخصيا في جامعة نيويورك سيتي City University of New York (CUNY) عام 1983 قبيل وفاته في العام التالي، و تحادثنا حديثا عابرا حول تجاربه الشهيرة و كيف استوقفته بشاعة التعذيب الذي كان يمارسه الجلادون في المعسكرات النازية الشهيرة، و دفعته إلي التساؤل: تري كيف يمكن أن يطيع الإنسان أوامرا تصدر إليه متعارضة مع كافة القيم الإنسانية؟ و كم نسبة أولئك الذين يمكن أن يطيعوا مثل تلك الأوامر؟ و وجه ميللجرام هذا السؤال إلي عدة مئات من المثقفين و المهنيين و منهم العديد من المتخصصين في علم النفس و العلوم الإنسانية في الولايات المتحدة الأمريكية، و كان متوسط تقديراتهم أن نسبة لا تتجاوز 4% أو 5% من الأمريكيين يمكن أن يكون لديهم الاستعداد لتنفيذ مثل تلك الأوامر. و حاول ميللجرام اختبار الأمر تجريبيا، سلسة التجارب المعملية الشهيرة التي عرفت في تاريخ علم النفس الاجتماعي باسم تجارب الطاعة Obedience و استمرت تلك التجارب من عام 1960 حتى عام 1964 في جامعة ييل Yale University بالولايات المتحدة الأمريكية ، وكان الهدف هو دراسة عملية الطاعة فى موقف تجريبى معملي حين يؤمر الشخص بإيذاء الآخرين، و اقتضت التجربة أن يقوم ميللجرام بنشر إعلان فى صحيفة محلية، دعا فيها للمشاركة فى دراسة عن الذاكرة والتعلم. و أن المتطوع سوف يتقاضى أربعة دولارات وخمسين سنتا عن كل ساعة من ساعات المشاركة، و تم إعداد جهاز للتعذيب الكهربائي الوهمي يحتوى علي 30 مفتاحا وضعت فى خط أفقى• وكل مفتاح مرقم بعدد الصدمات الموجهة وتبدأ من 15 فولتًا إلى 45 فولتًا بزيادة 15 فولتًا بين المفتاح والآخر من اليسار إلى اليمين بالإضافة إلى كتابة مستوى الصدمات لكل مجموعة مكونة من أربعة مفاتيح وهى كالآتى : صدمة خفيفة -صدمة معتدلة - صدمة قوية - صدمة قوية جدا- صدمة حادة - صدمة حادة جدا - صدمة قاسية.
و تم الاتفاق مع أحد مدرسي البيولوجيا بالجامعة و الذي يبلغ من العمر 31 عاما علي لعب دور المشرف على التجربة، و أن يحرص خلال أدائه لدوره علي أن يبدو في معطفه الرمادي متبلدا متجهما صارما ، كما تم الاتفاق أيضا مع أحد الموظفين الإداريين بالجامعة يبلغ من العمر 47 عاما علي القيام بدور المتعلم (الضحية) بعد أن تم تدريبه علي إتقان تجسيد ملامح و صرخات من يعاني ألما، بحيث يصبح "المعلم" الذي سوف ينفذ التعليمات بإيقاع العقاب المؤلم علي يقين تام من أنه يوقع ألما حقيقيا بالضحية.
و قد شملت العينة أفرادا تباينت مستوياتهم التعليمية من الحاصلين على الثانوية إلى الحاصلين على الدكتوراه، و قد كان 40% منهم من العمال المهرة وغير المهرة، و 40% من الموظفين، و 20% من المهنيين، و تراوحت أعمارهم بين العشرينات، و الأربعينات.
و تبدأ التجربة باستدعاء شخصين من أفراد العينة، أحدهما ذلك الموظف الذي سبق تدريبه علي لعب دور الضحية، حيث يشرح لهما المجرب المزعوم أن "الهدف من التجربة معرفة أثر العقاب على التعلم مشيرا إلي أن هناك نقص شديد فى هذا النوع من الدراسات، و أننا على سبيل المثال لا نعرف إلى أى حد يفيد العقاب فى التعلم أو الفرق بين توجيهه للأعمار المختلفة، و لذا فأنني أطلب من أحدكم أن يكون "معلما" والآخر أن يكون "طالبا" و سوف يكون ذلك عن طريق القرعة، فقد كتبت على ورقة كلمة "معلم" والثانية كلمة "طالب". فليسحب كل منكم ورقة لتحدد دوره." غير أن الورقتان كانتا تحتويان علي كلمة "معلم". وبعد سحب القرعة المزيفة يتوجه الفردان إلى غرفة مجاورة حيث يجلس الطالب "المزعوم" مربوطا على كرسى. ويشرح المجرب الهدف من تقييده بأنه لمنع الحركات المتزايدة عند توجيه الصدمات، و أيضا لعدم إتاحة الفرصة أمامه للهرب و عدم استكمال التجربة، ثم يتم توصيل قطب كهربي بمعصم الطالب مع تأكيد أن هذا القطب متصل بالمولد الكهربائى الموجود فى الغرفة المجاورة. و يكون علي (المعلم) قراءة سلسلة من أزواج الكلمات يطلب من (المتعلم) تكرارها، وعقابه إذا أخطأ في ذلك بإعطائه صدمة كهربائية عن طريق جهاز مولد الصدمات، و عليه زيادة شدة الصدمة الكهربائية كلما تكرر الخطأ. و كان علي (المتعلم) أن يرتكب العديد من الأخطاء حسب الخطة الموضوعة لكي يصل المعلم إلى ذروة الصدمات المؤلمة.
و قد تعدلت أشكال إجراء التجربة لرصد تأثيرات مثل: أن يكون الطالب (الضحية) في حجرة مجاورة بحيث لا يصل للمعلم سوي صوته، أو أن يكون علي مرمي بصره بحيث يشهد أيضا تعبيراته عن الألم، أو أن تكون التجربة نسائية تلعب فيها الإناث أدوار الطالبة "الضحية" و المعلمة إلي قائمة طويلة من التعديلات و التغييرات في تفاصيل التجربة، وقد اتضح في النهاية أن شيئا من تلك التغييرات لا يكاد يؤثر على مستوى الطاعة.
لقد كانت النتيجة صادمة بكل المقاييس حتى أن عالم النفس توماس بلاس Thomas Blass نشر عن ميللجرام عام 2002 مقالا يحمل عنوان "الرجل الذي صدم العالم". لقد كشف ميللجرام النقاب عن استعداد غلاب لدي الأمريكيين للطاعة و تنفيذ الأوامر حتى لو اقتضي الأمر تعذيب الآخرين، و أن هؤلاء "المتطوعين" أفراد عاديون لا يعانون من اضطرابات نفسية كالسادية مثلا، و أنهم لا يقدمون علي ما أقدموا عليه تحت ضغط تهديد أو إغراء من سلطة قاهرة. إنهم مجرد متطوعون للمشاركة في تجربة علمية لا يتقاضون مقابل تطوعهم سوي عدة دولارات فقط.
استغرقت تجارب ميللجرام من 1960 حتى 1964 و لم تلبث أن انتشرت التجارب في استراليا و جنوب إفريقيا و العديد من دول أوروبا. و قد قمت بعد ذلك بالإشراف علي عدد من البحوث التي أجراها أبنائي المصريين للحصول علي درجاتهم العلمية متبعين نفس أسلوب تجارب ميللجرام، و لم تكن النتائج لدينا تختلف كثيرا عنها في أي مكان في العالم حيث تراوحت نسبة من يصلون إلي النهاية القصوى في إطاعة الأوامر دون الإقدام علي الانسحاب من التجربة بين 60 و 66 %.
الطاعة الخبيثة ... لماذا؟
لقد أسفرت تلك التجارب عن نتيجة صادمة بكل المقاييس: ثمة "طاعة خبيثة" تسري في أوصال المجتمعات الحديثة، و حاول ميللجرام البحث عن الظروف التي تؤدي بالفرد إلي ذلك النوع من الطاعة، فصك تعبيرا يصعب ترجمته عربيا بكلمة واحدة: AGENTIC STATE وهي مشتقة من مصطلح "العميل أو الوكيل أو الممثل أو المندوب AGENT" بمعني أن الفرد يدرك نفسه باعتباره مجرد كائن ضعيف لا يعدو أن يكون ممثلا أو تابعا لآخر أو لآخرين أو لمؤسسة حتي لقوة معنوية غير منظورة، و أنه في هذا الموقف يتنازل تماما عن حريته في اتخاذ قرارات مستقلة، و بالتالي لا يتحمل أية مسئولية عن أفعاله أو حتي أفكاره. المسئولية يتحملها من يصدر له الأوامر؛ و حتي أولئك الذين يصدرون الأوامر المباشرة ( لاعب دور المجرب في حالة تجارب ميللجرام) قد يصدرون تلك الأوامر في ظل تلك الحالة نفسها بمعني أنهم إنما يحرصون علي إرضاء من أصدر لهم الأوامر، فيحيلون المسئولية إلي المستوي الأعلي و هكذا.
لقد شغلت هذه المشكلة منذ حوالي نصف قرن عالم النفس الشهير اريك فروم الذي أصدر كتابا ذاع صيته و تجاوزت أعداد طبعاته الحد المألوف, و كان عنوانه "الهروب من الحرية". لقد استوقفت فروم ظاهرة التفاف غالبية مواطنيه من أبناء الشعب الألماني حول هتلر الدكتاتور العنصري الذي لم يخف يوما عنصريته أو دكتاتوريته. و هاجر فروم من وطنه الأصلي ميمما صوب الولايات المتحدة الأمريكية حصن الحرية و ملاذ الأحرار, و لم يمض زمن طويل و إذا به يكتشف نفس الظاهرة تفصح عن نفسها جلية في أعماق من تعامل معهم من الأمريكيين. و توصل فروم إلي أن المجتمع في مرحلة معينة من مراحل تطوره السياسي الاجتماعي الاقتصادي يشكل أبناءه و ينشئهم علي النفور من الحرية, بحيث يضيقون بحريتهم أشد الضيق, و يسعون ما وسعهم الجهد لاكتشاف "البطل" الذي يتيح لهم التخلص من أغلالها, فيسارعون إلي الالتفاف حوله و السير وراءه و الانصياع لتوجيهاته دون تفكير أو تردد.
ربما بدا الأمر للوهلة الأولي متناقضا يصعب التسليم به, فالدول و الجماعات جميعا و بلا استثناء واحد و مهما كانت بشاعة وحشيتها, تعلن أنها محبة للحرية ساعية لتحقيقها. و لو نظرنا في بلادنا لوجدنا كافة التيارات السياسية المشروعة و غير المشروعة من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار تعلن جميعا أن الحرية هي الهدف المقدس و النهائي الذي تسعي إليه.
فلنقترب قليلا من شعارات الدعوة للحرية في بلادنا و لدي غيرنا أيضا، لنكتشف أن ثمة كلمة ثابتة تلتصق بغالبية تلك الشعارات. إنها كلمة "و لكن". نحن مع الحرية طبعا و لكن لسنا مع الفوضى. الحرية كل الحرية للشعب و لكن لا حرية لأعداء الشعب. الحرية للوطنيين الحقيقيين و لكن لا حرية للعملاء و المندسين. كل الحرية للأفكار البناءة الشريفة و لكن لا حرية للأفكار الهدامة المستوردة. كل الحرية لأنصار التقدم و لكن لا حرية للرجعيين أنصار التخلف. الحرية قيمة مقدسة و لكن في حدود الالتزام بثوابتنا الدينية و الوطنية. الحرية كل الحرية للمتدينين الطيبين المتمسكين بأوامر الله، و لا حرية لغيرهم من الكفرة و المنحلين. و حتي داخل التيارات الليبرالية تجد من يقول كل الحرية لأنصار الحرية و لكن لا حرية لأعدائها أنصار الحكم المطلق. قد تبدو كل تلك الشعارات براقة حتي نصل إلي تلك الكلمة المفتاحية "و لكن", فإذا ما تساءلنا و كيف يمكن التفرقة؟ من الذي يستطيع الفرز و التمييز؟ كان جوهر الإجابة أن صاحب الشعار هو المرجعية الأولي و الأخيرة للتمييز بين العملاء و الوطنيين, بين الأفكار البناءة و الهدامة, بين التقدميين و الرجعيين, بين الثوابت و المتغيرات الدينية و الوطنية.
خلاصة القول
إن إدانة التعذيب و التصدي له واجب مقدس، و لكن اجتثاث الجذور أو تجفيف المنابع الثقافية المغذية له ينبغي أن تكون فرض عين علي الجميع، بحيث نجرد أنفسنا قبل غيرنا من نزعات تقديس العنف و تقديس الطاعة، و أن نؤكد لأنفسنا و لغيرنا أنه لا استثناءات في إدانة التعذيب إيا كات نوعية الجرائم
إنها معركة صعبة تحتاج إلي نفس طويل.
التعذيب و ثقافة المجتمع
د. قدري حفني
مقدمة
قبل أن أمسك بالقلم، تساءلت: تري أنلتقي تحت مظلة الدفاع عن حقوق الإنسان لنجدد إدانتنا لجرائم التعذيب فحسب؟ و بدا لي –رغم ضرورة و أهمية بل و قدسية تلك الإدانة- أنني لا أستطيع أن أقدم جديدا، فأمامي العديد من المواثيق الدولية و الإقليمية و الوطنية و الدينية التي تجرم التعذيب، و أمامي آلاف الصفحات التي تسجل جرائم التعذيب، و شهادات الضحايا، و محاولات الجلادين التبرؤ مما اقترفوه، و محاولات من أصدروا الأوامر التنصل من مشاركتهم في تلك الجرائم. تري أي جديد أستطيع أن أقدمه بعد ذلك كله؟ و كدت أتوقف لولا أن خطر لي أمران:
الأمرالأول أنني شخصيا كنت يوما –بل أياما- واحدا من ضحايا التعذيب، و لعل "شهادة من الداخل" رغم أنها شهادة مجروحة، قد تكون ذات معني في مثل هذا اللقاء.
و الأمر الثاني أنني من واقع تخصصي في علم النفس السياسي، و استغراقي في قضايا الصراع العربي الاسرائيلي و توابعه من صراع عربي عربي و فلسطيني فلسطيني، استوقفتني ظاهرة فريدة تمثلت في انتقال التعذيب من الأقبية المظلمة، و الزنزانات الرطبة، و محاولات التخفي خلف الأسوار العالية، و السعي الحثيث إلي إنكار اقتراف تلك الجرائم بل استنكارها و التبرؤ منها، إلي تعذيب أشد بشاعة يحرص مرتكبوه علي اقتراف جرائمهم في وضح النهار، و عوضا عن تسجيلها رغما عنهم تلصصا، و تسريبها خلسة، يقوم الجلادون أنفسهم بتسجيل ما ارتكبوه و إذاعته علنا لمن لم تتح لهم مشاهدته، متفاخرين بما اقترفوه باعتباره بطولات تنم عن مدي تمسكهم بالمبادئ الأخلاقية و الوطنية بل و الدينية الرفيعة.
استوقفني كذلك نوع منتشر من التعذيب "الخاص". تعذيب يمارسه من يقدرون عليه حيال من يستطيعون تعذيبهم من خدم و أطفال و نساء و منافسين إلي آخر قائمة طويلة من المستهدفين، و لا يجد مقترفوا هذا النوع من التعذيب أية غضاضة في الاعتراف بما يقترفونه لخلصائهم باعتباره لا يعدو أن يكون تأديبا أو تقويما بل ولا يجدون غضاضة في اعتبار القوانين التي تدين هذا النوع من التعذيب تدخلا في الخصوصيات بل و قد يعتبرونها دعوة للانحلال و التسيب و خروجا علي صحيح الدين.
إنها أنواع من "التعذيب الجماهيري" إذا ما صح مثل هذا التعبير. تعذيب تم إعداد الجماهير للحفاوة به و التشجيع عليه بل و ممارسته ما استطاعوا إلي ذلك سبيلا، و أظنه الأشد خطورة و الأكثر تدميرا إذا ما قورن بذلك "التعذيب الحكومي" التقليدي الذي ألفناه رغم أن "السلطة" بمعناها الواسع تعد عاملا مشتركا في أنواع التعذيب جميعا باعتبار أن الجلاد إيا كانت صفته يعد ممثلا لسلطة ما بالنسبة للضحية.
التعذيب الحكومي: خبرة ذاتية
كانت أذهان أبناء جيلي تنصرف عادة عند الحديث عن التعذيب إلي قيام ممثلي النظام الحاكم بتعذيب المعتقلين السياسيين من الإخوان المسلمين و الشيوعيين، و كانت ردود أنصار النظام آنذاك تتراوح بين الإنكار التام لوقوع شيء من هذا القبيل، أو التقليل من حجمه و اعتباره من قبيل التجاوزات الاستثنائية، أو التماس الأعذار لمن يقدمون عليه مضطرين لحماية "أمن الوطن" أو "صحيح الدين".
و قد كان مستحيلا آنذاك اللجوء إلي القضاء للنظر في جرائم التعذيب باعتبارها –أي تلك الجرائم- من أعمال السيادة، إلي أن تضمن الدستور الحالي نصا يقضي باعتبار "كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور والقانون جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم،وتكفل الدولة تعويضا عادلا لمن وقع عليه الاعتداء. ( مادة 57 )
لقد تنقلت بين معتقلات القلعة و أوردي ليمان أبو زعبل و الفيوم و السجن الحربي، حيث تعددت ألوان التعذيب الفردي و الجماعي بين الضرب و الجلد و تكسير الحجارة إلي التجويع و العزل و التهديد فضلا عن الإهانات اللفظية، و ظل الحرمان من الزيارات مستمرا في كل الأحوال.
لقد كتب عن ذلك الكثيرون و ليس لدي مزيد من التفاصيل التي يمكن إضافتها. ما يعنيني في هذا المقام الإشارة إلي أن التعذيب في تلك المعسكرات خاصة في أوردي ليمان أبو زعبل كان أشبه بالتعذيب الذي كنت قد قرأت عنه في معسكرات هتلر النازية فيما عدا أفران الغاز الشهيرة. كان تعذيبا لا يستهدف الحصول علي اعترافات أو معلومات، بل مجرد سحق شخصية الضحية. يجري وفق خطة مبرمجة تحول بين الضحية و أية توقعات بحيث لا يعرف تحديدا متي ستكون الضربة القادمة و لا علي أي جزء من جسده ستقع و لا ما هو مبررها المباشر. انعدام التوقعات و من ثم انعدام المعني. عملية مبرمجة مخططة كما لو كنا حيال تجربة معملية لخلق حالة متطرفة من حالات "الاغتراب"، و قد انهار البعض بالفعل و سقطوا في هوة الاضطراب العقلي الصريح.
كان النظام في الأوردي شأن بقية معسكرات التعذيب يقضي بحظر تبادل الحديث بين المعتقلين و بعضهم البعض خاصة بعد إغلاق العنابر عليهم مع نهاية “العمل" وهو التعبير الرسمي عن القيام بتكسير البازلت في الجبل، و اعتاد الجميع الحديث همسا، فإذا ما ارتفع الهمس و لو قليلا، كانت صيحة الحارس "امنع الغاغة " تعد نذيرا بأن عقابا جماعيا إضافيا يتهدد نزلاء هذا العنبر في الصباح، و رغم ذلك فقد ظل التواصل الهامس مستمرا حتى خلال "العمل".
لا خصوصية في السجون و معسكرات التعذيب، و إذا كان انتهاك الخصوصية يعد جريمة يعاقب عليها القانون فإن انتفاء تلك الخصوصية بالنسبة لنزلاء السجون و المعتقلات تصبح هي القاعدة التي تعرض من يخرج عليها بعقاب إضافي. في معسكر التعذيب يكون المرء مرئيا طوال الليل و النهار، و لعلي لم أحس بصدق المقولة الوجودية الشهيرة "الجحيم في عيون الآخين" قدر ما أحسست بصدقها في تلك الأيام. ثمة عيون ترقبك دائما. لا تتلصص و لا تتخفي بل تمارس "حقها" في اقتحامك جهارا نهارا آناء الليل و أطراف النهار. حتي حين يغلق عليك باب "العنبر" فإن ثمة ثقب بالباب تغطيه من الخارج "سقاطة" معدنية متحركة تتيح للحارس الجلاد أن يرفعها وقت يشاء ليطل علي ضحاياه. إنها "العين ذات الجفن المعدنية" . و لا يعد السجن "الانفرادي" خروجا علي هذه القاعدة، فالسجين في هذه الحالة لا يكون منفردا رغم أنه يكون معزولا عن الجماعة؛ فالجلاد المراقب معه دائما و بتركيز أكبر، فليس ثمة ما يشغله سواه. الفارق هو عزلة السجين عن رفاقه. إن إطلاق تعبير "التأديب" علي زنازين السجن الانفرادي ليس مصادفة. إنه أحد الأساليب المفضلة لدي الجلادين لتأديب الضحية بحرمانه من الإئتناس بجماعة الانتماء حتي خلال خضوع تلك الجماعة للتعذيب الجماعي، و يزداد التأثير بطبيعة الحال إذا ما كان السجن الانفرادي مصحوبا بتعذيب انفرادي أيضا حيث يفتقد الضحية الاحساس بأن ثمة من يشاركونه العذاب مما قد يزيد من تحمله من خلال ثقافة جماعية يتساند من خلالها الضحايا. و لقد مررت بخبرة الحبس الانفرادي أكثر من مرة.
أما عن الجلادين، لقد شهدت معسكرات التعذيب المصرية ما عرف بين المعتقلين باسم "فرقة اللواء همت" التي كانت تضم جنودا و ضباطا و صف ضباط من العاملين في السجون يتخصصون في التعذيب الجماعي أو ما يطلق عليه تعبير "التكديرة". سمعت ممن سبقوني إلي الأوردي و بالتالي كانوا أول من استقبلتهم فرقة اللواء همت أن الجلادين قد انهالوا عليهم بالعصي و هم يصرخون طالبين منهم سب آل البيت، مكررين آخر خبرة لهم و كانت تعذيب المعتقلين من الإخوان المسلمين؛ و حين صرخ فيهم قائدهم منبها "دول شيوعيين كفرة" تحولت الصرخات فورا إلي "قولوا لا إله إلا الله يا كفرة". إنهم لم يتلقوا أي نوع من التهيئة الفكرية كما هو الحال مثلا بالنسبة للجلادين في الدول العقائدية، كل ما تلقوه تدريب متقن علي التفاني في الطاعة، و تنفيذ الأوامر فورا دون تفكير.
القبول الجماهيري للتعذيب
لعله من الملفت و إن كان مفهوما أن كافة ممارسات التعذيب مهما كانت بشاعتها تتم تحت غطاء فكري بالغ الجاذبية و الرقي بل انها تتم في كثير من الأحيان مغلفة بغلاف ديني أو وطني. و تعد عملية التغليف هذه أمرا لا غني عنه لتحقيق عدد من الأهداف علي رأسها ضمان الحد الأدني المطلوب من حماس الجلادين لممارسة فظائعهم فضلا عن محاولة كسب رأي عام مساند لتلك الجرائم، و هو ما حدث بالفعل في أحيان كثيرة حيث كان التعذيب فى نظر الجماهير في العصور الوسطي يبدو أمراً "عادياً" وكان يطلقون عليه تسمية أنيقة هي "الاستجواب القضائي". وقد أحتاج الأمر دهورا طويلة نزلت خلالها رسالات من السماء واندلعت ثورات على الأرض ونشبت حروب ضروس وأقيمت حضارات وإمبراطوريات كبري و اندثرت أخري ، احتاج الأمر كل ذلك من أجل إقرار حقوق الإنسان وحرياته ، ومن ضمنها حقه فى احترام كرامته الإنسانية وسلامة جسده وقواه العقلية والنفسية، و رغم ذلك فما زلنا نشهد –كما أشرنا- الكثير من مظاهر التعبير عن حفاوة بل و "سعادة" الجماهير بمشاهدة أو بمعرفة حجم العذاب الذي لحق بالخونة و بالمعارضين المارقين.
و لعله من الملفت للنظر أنه لا محل في القانون لتجريم ذلك الاستمتاع و تلك السعادة بمشاهدة وقائع التعذيب و القتل، رغم أنها فيما نري تعد الظاهرة الأولي بالاهتمام، بل و التجريم؛ فانتشار ممارسة التعذيب لا يمكن أن يتراجع بشكل أساسي إلا إذا أصبح سلوكا مرفوضا بحق و بعمق و بدون استثناء من القطاع الغالب من أبناء المجتمع. و لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بتجفيف منابع ذلك القبول الدفين أو المعلن لممارسة التعذيب بكشف زيف الشعارات و المبررات الدينية أو الوطنية أو الاجتماعية لتعذيب الآخرين مهما كانت جرائمهم الوطنية أو الأخلاقية أو الدينية. إن عملية إعداد و تهيئة الجماهير للقبول بممارسة التعذيب إنما تستند إلي ثقافة تقوم علي ركنين: تقديس العنف، و تقديس الطاعة، و لا سبيل لمواجهة حقيقية و فعالة لهذه الجريمة دون محاولة القضاء علي جذورها، و خلخلة أركانها، و هي ليست بالمحاولة السهلة.
صناعة تقديس العنف
يعد التعذيب نمطا خاصا من أنماط العنف، و يستعمل تعبير "التعذيب" عادة لوصف اي عملية تنزل آلاما جسدية او نفسية بإنسان ما وبصورة متعمدة و منظمة كوسيلة لإستخراج معلومات او الحصول على إعتراف او لغرض التخويف والترعيب او كشكل من اشكال العقوبة او وسيلة للسيطرة على مجموعة معينة تشكل خطرا على السلطة المركزية. ويستعمل التعذيب في كثير من الأحيان لفرض مجموعة من القيم و المعتقدات التي تعتبرها الجهة القائمة بالتعذيب قيما أخلاقية، و تشير المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب إلي أن التعذيب هو "الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أيا كان نوعه، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية".
نخلص من ذلك إلي أن غالبية أنواع العنف و منها ممارسة التعذيب تعد من أنواع السلوك المكتسب، و من ثم فإنه لا يمكن التنبؤ باستعداد الفرد لممارسة التعذيب إلا في حدود ضيقة لا تتعدي اكتشاف المصابين بمرض السادية sadism ، و علي أي حال فإن هؤلاء المرضي لا يمثلون سوي نسبة ضئيلة جدا من السكان و ممن يمارسون التعذيب أيضا.
إن اكتساب الفرد للقدرة علي ممارسة التعذيب تتم من خلال عملية تدريب اجتماعي يغرس قيمة تقديس العنف بتأكيد أن الشخص القوي مرهوب الجانب القادر علي إلحاق الأذي بالآخرين هو الشخص "المحترم" في مقابل أن الشخص الهادئ المسالم الذي يلتزم بالقانون و يلجأ إليه للشكوي و رد الاعتداء شخص ضعيف لا يستحق الاحترام. و لكن يبقي سؤال: لماذا تجد ثقافة العنف دعما و تشجيعا لا تجده ثقافة السلام و الاحتكام للقانون و إدانة التعذيب؟
تؤكد دراسات علم النفس الإعلامي أن رواج سلعة معينة لا يتوقف علي مجرد الإعلان عن وجودها و عرض مزاياها بل أن الرواج الأمثل إنما يتحقق بقيام ثقافة مساندة للسلعة تضمن لها دوام و تصاعد الطلب عليها. و يتطلب خلق مثل تلك الثقافة تشكيلا لخريطة الوعي بما تتضمنه من معايير و قيم و اتجاهات بحيث يصبح الطلب علي تلك السلعة جزءا لا يتجزأ من نسيج تلك الثقافة. يصدق ذلك علي صناعة السياحة بقدر صدقه علي صناعة السينما و السجائر و جراحات التجميل و كذلك الأسلحة.
و لعلنا لا نضيف جديدا إذا ما ذكرنا أن صناعة السلاح تعد من أضخم مجالات الصناعة و أكثرها ربحية, و لذلك فمن الطبيعي أن تسعي تلك الصناعة لدعم الثقافة التي تساندها و تساعد علي ترويجها, و أن تجند لنشر تلك الثقافة –أي ثقافة الحرب- تراثا ضخما من مختلف العلوم الإنسانية علي رأسها الإعلام و علم النفس بل و التاريخ أحيانا.
و لقد أصدر الصحفي البريطاني جدوين باروز عام 2002 كتابا هاما بعنوان "صناعة السلاح" استخدم فيه تعبير "المجموعة القذرة" مشيرا إلي قائمة الدول التي تتصدر صناعة و تصدير السلاح؛ و تتربع الولايات المتحدة على رأسها, تليها روسيا, ثم فرنسا, ثم بريطانيا, وألمانيا ، ثم هولندا, حيث تستأثر تلك الدول الست بتصدير 85% من السلاح في العالم و تحتل إسرائيل المرتبة الثانية عشرة في تلك القائمة, ومن المثير للانتباه أن الدول الأربعة التي تتصدر تلك القائمة أعضاء دائمين في مجلس الأمن المسئول عن "السلام العالمي"، و أن الدول العربية تتصدر قائمة مستوردي تلك الأسلحة.
و هكذا شهدنا و ما زلنا نشهد عبر سنوات طوال آلاف الأفلام و الكتب و دواوين الشعر, بل و الدراسات "العلمية" التي تصب جميعا في تقديس العنف و اعتباره جوهر الطبيعة الإنسانية و السبيل الأوحد للحصول علي الكرامة و الاحترام و الحفاظ علي الحقوق، و من ثم لم يعد أمام الدول و الجماعات بل و الأفراد مهرب من غواية التهيؤ لممارسة العنف، ثم ممارسته ما أمكن ذلك.
و لقد امتدت تلك الغواية لتضرب بجذورها في عمليات التنشئة الاجتماعية التى مارسناها و نمارسها كأمهات وأباء، كمربين وتربويين، كإعلاميين ومسئولين، نمارسها في بيوتنا، ومدارسنا، ومساجدنا وكنائسنا ونوادينا ومكاتبنا. تمارسها صحافتنا واذاعتنا وتليفزيوننا. نمارسها جميعاً دون استثناء. ومن لم يستطع منا ممارستها بالفعل مارسها بالقول، ومن لم يستطع القول مارسها بالصمت ولعله الأشد خطراً.
و قد أدت بنا تلك الممارسة إلى حيث لا يجد المرء أمامه لمواجهة مواقف الحياة إلا واحداً من سبيلين لا ثالث لهما: إما التصدى بالعنف لإزالة ما يحول ببينه وبين ما يريد، ذلك إذا ما استطاع؛ فإذا ما لم يستطع ممارسة دور الجلاد وكان الآخر أقوى من امكاناته، لم يعد أمامه إلا السبيل الآخر وهو الاستسلام دون شروط و تقبل دور الضحية المستضعفة. و هو في الحالتين ملتزم بالطاعة و الانصياع: الطاعة شرط لإتقان التدريب علي العنف، و هي أمر مفروغ من حتميته في حالة الاستسلام.
تقديس الطاعة
يلعب الاستعداد المفرط للطاعة – أو ما يطلق عليه تعبير "المسايرة"- حتي فيما يخالف القانون دورا هاما في إقدام الجلادين علي ممارسة التعذيب، فهم يستجيبون لأوامر رؤسائهم استجابة تتسم بقدر كبير من الخضوع، ولا يناقشون هذه الأوامر ولا حتي يفكرون فيها، بل يطيعون رؤساءهم طاعة عمياء وينفذون أوامرهم بالتعذيب دون تردد، وغالبا ما يكون هؤلاء المسايرون من الذين يسهل إقناعهم واستهواؤهم والإيحاء لهم بأن ما يفعلونه فيه مصلحة للبلد أو للبشرية أو لقضية ما.
لقد اهتم علماء النفس الاجتماعي بمحاولة التماس تفسير لسلوك أولئك الذين يقدمون علي التعذيب بالتنقيب في تاريخ حياتهم و ما مر بهم من أحداث، و لكنهم لم يعثروا علي شيئ له دلالة، فالعديد من الأفراد الذين كانوا يبدون عاديين بل و أقرب إلي الطيبة، قد تصدر عنهم أفظع أنواع السلوك الوحشي في مواقف بعينها، و خلص العلماء إلي أن الأمر إنما هو أمر مكتسب يجري الإعداد له و التدريب عليه من خلال المؤسسات الاجتماعية.
أجرى عالم النفس الاجتماعي فيليب زيمباردو Philip Zimbardo عام 1973 تجربة عرفت باسم تجربة سجن ستانفورد، نسبة إلي جامعة ستانفورد الأمريكية الشهيرة التي كان يعمل بها، و كانت التجربة ممولة من البحرية الأمريكية لمعرفة أسباب الصراع بين المسجونين و الحراس، و كان المفترض أن مهنة السجان تغري الساديون بالتقدم لها و من ثم فقد كانت المهمة الموكولة لزيمباردو التوصل إلي سبيل لاستبعاد الساديين من كشوف المقبولين لشغل تلك الوظائف؛ غير أن زيمباردو فضل القيام بدراسة تجريبية لاختبار احتمال آخر مؤداه أن تكون بيئة السجن في حد ذاتها هي منبع تلك الظاهرة، و ذلك في ضوء نظرية امن نظريات علم النفس الاجتماعي تعرف بنظرية الأدوار بمعني أن الأدوار التي يسند المجتمع للأفراد أداءها هي التي تشكل أداء أولئك الأفراد.
قام زيمباردو بالإعلان في إحدى الصحف عن حاجة جامعة ستانفورد لمتطوعين ذكور لإجراء دراسة نفسية عن "حياة السجن" مقابل 15 دولار للمتطوع يوميا، و تم اختيار 24 متطوعا من الطلاب الجامعيين تأكد أنهم وفقا لنتائج المقاييس النفسية عاديون أسوياء، ثم قام بتقسيمهم إلى مجموعتين على نحو عشوائي بحيث يلعب نصفهم دور المسجونين والنصف الثاني دور الحراس، و ذلك بعد أن تم تحويل بدروم جامعة ستانفورد إلي ما يشبه السجن الحقيقي بزنازينه و أبوابه و فنائه فضلا عن ثياب و شارات السجانين المتمايزة عن المسجونين إلي آخره. وزيادة في فعالية التجربة قام البوليس بالاتفاق مع الجامعة بإلقاء القبض علي من سيقومون بدور المسجونين من منازلهم و اصطحابهم إلي مقر الشرطة حيث عصبت عيونهم ثم نقلو إلي "سجن ستانفورد" دون أن يعرفوا العلاقة بين ما يجري و التجربة التي وافقوا علي التطوع للمشاركة فيها، و تلقاهم "السجَّانون" بملابسهم ونظاراتهم السوداء مما يوحي أنهم شرطة حقيقية معهم كل الصلاحيات وفي أيديهم الهراوات مع رزمة المفاتيح و كذلك كاميرات الفيديو و المسجلات الصوتية لرصد كل ما يجري داخل الزنازين. و حال وصولهم "المساجين" نزعت ملابسهم و سجلت أسمائهم بحيث تحول كل منهم إلى مجرد رقم. و تم تنظيفهم بحمام جماعي ولبسوا ملابس السجن المتهرئة دون أي ملابس داخلية و وضعت السلاسل في أقدامهم.
و كان المفترض أن تستمر التجربة 14 يوما، و لكن الاندماج في الأدوار أخذ في التصاعد بعد ثلاثة أيام حتى تحول إلي مناخ إرهابي حقيقي مما أدي إلي إيقاف التجربة بعد أن وصل الأمر بالسجانين إلى حرمان المعتقلين من قضاء حاجاتهم الإنسانية، فغرقوا في قذارتهم، و دفع البعض لممارسة اللواط. و تعددت حالات الانهيار البدني و العقلي بين المعتقلين.
إلي هذا الحد كان تأثير تصور الدور في خلق "الجلاد"، و عدت بذاكرتي إلي واحد من سجاني أوردي ليمان أبوزعبل الشهير. كان رجلا فقيرا بسيطا و لكنه كان جلادا مفرطا في إخلاصه في أداء دوره إلي حد أنه ذات يوم استغرق في ضرب المعتقلين داخل أحد العنابر إلي أن سقط مغشيا عليه، و أصابنا الرعب خشية أن نتهم بقتله مثلا، و هرع إليه أحد الأطباء من المعتقلين و قام بإفاقته، و همس في أذنه و هو في بداية مرحلة التنبه و قد استعاد دوره كطبيب يزجي النصح لواحد من مرضاه: "لماذا تجهد نفسك إلي هذا الحد" و كانت إجابة السجان "اللي ياخد أجر ربنا يحاسبه علي العمل" باعتبار أن ما يؤديه من تعذيب إنما هو عمل مكلف بأدائه يتقاضي عنه أجرا و عليه أن يحسن أداء هذا العمل. كان الجلاد مخلصا بالفعل فيما يقول.
من هم الجلادون؟
عالم آخر من علماء النفس الاجتماعي هو ستانلي ميللجرام Stanly Milligram الذي التقيت به شخصيا في جامعة نيويورك سيتي City University of New York (CUNY) عام 1983 قبيل وفاته في العام التالي، و تحادثنا حديثا عابرا حول تجاربه الشهيرة و كيف استوقفته بشاعة التعذيب الذي كان يمارسه الجلادون في المعسكرات النازية الشهيرة، و دفعته إلي التساؤل: تري كيف يمكن أن يطيع الإنسان أوامرا تصدر إليه متعارضة مع كافة القيم الإنسانية؟ و كم نسبة أولئك الذين يمكن أن يطيعوا مثل تلك الأوامر؟ و وجه ميللجرام هذا السؤال إلي عدة مئات من المثقفين و المهنيين و منهم العديد من المتخصصين في علم النفس و العلوم الإنسانية في الولايات المتحدة الأمريكية، و كان متوسط تقديراتهم أن نسبة لا تتجاوز 4% أو 5% من الأمريكيين يمكن أن يكون لديهم الاستعداد لتنفيذ مثل تلك الأوامر. و حاول ميللجرام اختبار الأمر تجريبيا، سلسة التجارب المعملية الشهيرة التي عرفت في تاريخ علم النفس الاجتماعي باسم تجارب الطاعة Obedience و استمرت تلك التجارب من عام 1960 حتى عام 1964 في جامعة ييل Yale University بالولايات المتحدة الأمريكية ، وكان الهدف هو دراسة عملية الطاعة فى موقف تجريبى معملي حين يؤمر الشخص بإيذاء الآخرين، و اقتضت التجربة أن يقوم ميللجرام بنشر إعلان فى صحيفة محلية، دعا فيها للمشاركة فى دراسة عن الذاكرة والتعلم. و أن المتطوع سوف يتقاضى أربعة دولارات وخمسين سنتا عن كل ساعة من ساعات المشاركة، و تم إعداد جهاز للتعذيب الكهربائي الوهمي يحتوى علي 30 مفتاحا وضعت فى خط أفقى• وكل مفتاح مرقم بعدد الصدمات الموجهة وتبدأ من 15 فولتًا إلى 45 فولتًا بزيادة 15 فولتًا بين المفتاح والآخر من اليسار إلى اليمين بالإضافة إلى كتابة مستوى الصدمات لكل مجموعة مكونة من أربعة مفاتيح وهى كالآتى : صدمة خفيفة -صدمة معتدلة - صدمة قوية - صدمة قوية جدا- صدمة حادة - صدمة حادة جدا - صدمة قاسية.
و تم الاتفاق مع أحد مدرسي البيولوجيا بالجامعة و الذي يبلغ من العمر 31 عاما علي لعب دور المشرف على التجربة، و أن يحرص خلال أدائه لدوره علي أن يبدو في معطفه الرمادي متبلدا متجهما صارما ، كما تم الاتفاق أيضا مع أحد الموظفين الإداريين بالجامعة يبلغ من العمر 47 عاما علي القيام بدور المتعلم (الضحية) بعد أن تم تدريبه علي إتقان تجسيد ملامح و صرخات من يعاني ألما، بحيث يصبح "المعلم" الذي سوف ينفذ التعليمات بإيقاع العقاب المؤلم علي يقين تام من أنه يوقع ألما حقيقيا بالضحية.
و قد شملت العينة أفرادا تباينت مستوياتهم التعليمية من الحاصلين على الثانوية إلى الحاصلين على الدكتوراه، و قد كان 40% منهم من العمال المهرة وغير المهرة، و 40% من الموظفين، و 20% من المهنيين، و تراوحت أعمارهم بين العشرينات، و الأربعينات.
و تبدأ التجربة باستدعاء شخصين من أفراد العينة، أحدهما ذلك الموظف الذي سبق تدريبه علي لعب دور الضحية، حيث يشرح لهما المجرب المزعوم أن "الهدف من التجربة معرفة أثر العقاب على التعلم مشيرا إلي أن هناك نقص شديد فى هذا النوع من الدراسات، و أننا على سبيل المثال لا نعرف إلى أى حد يفيد العقاب فى التعلم أو الفرق بين توجيهه للأعمار المختلفة، و لذا فأنني أطلب من أحدكم أن يكون "معلما" والآخر أن يكون "طالبا" و سوف يكون ذلك عن طريق القرعة، فقد كتبت على ورقة كلمة "معلم" والثانية كلمة "طالب". فليسحب كل منكم ورقة لتحدد دوره." غير أن الورقتان كانتا تحتويان علي كلمة "معلم". وبعد سحب القرعة المزيفة يتوجه الفردان إلى غرفة مجاورة حيث يجلس الطالب "المزعوم" مربوطا على كرسى. ويشرح المجرب الهدف من تقييده بأنه لمنع الحركات المتزايدة عند توجيه الصدمات، و أيضا لعدم إتاحة الفرصة أمامه للهرب و عدم استكمال التجربة، ثم يتم توصيل قطب كهربي بمعصم الطالب مع تأكيد أن هذا القطب متصل بالمولد الكهربائى الموجود فى الغرفة المجاورة. و يكون علي (المعلم) قراءة سلسلة من أزواج الكلمات يطلب من (المتعلم) تكرارها، وعقابه إذا أخطأ في ذلك بإعطائه صدمة كهربائية عن طريق جهاز مولد الصدمات، و عليه زيادة شدة الصدمة الكهربائية كلما تكرر الخطأ. و كان علي (المتعلم) أن يرتكب العديد من الأخطاء حسب الخطة الموضوعة لكي يصل المعلم إلى ذروة الصدمات المؤلمة.
و قد تعدلت أشكال إجراء التجربة لرصد تأثيرات مثل: أن يكون الطالب (الضحية) في حجرة مجاورة بحيث لا يصل للمعلم سوي صوته، أو أن يكون علي مرمي بصره بحيث يشهد أيضا تعبيراته عن الألم، أو أن تكون التجربة نسائية تلعب فيها الإناث أدوار الطالبة "الضحية" و المعلمة إلي قائمة طويلة من التعديلات و التغييرات في تفاصيل التجربة، وقد اتضح في النهاية أن شيئا من تلك التغييرات لا يكاد يؤثر على مستوى الطاعة.
لقد كانت النتيجة صادمة بكل المقاييس حتى أن عالم النفس توماس بلاس Thomas Blass نشر عن ميللجرام عام 2002 مقالا يحمل عنوان "الرجل الذي صدم العالم". لقد كشف ميللجرام النقاب عن استعداد غلاب لدي الأمريكيين للطاعة و تنفيذ الأوامر حتى لو اقتضي الأمر تعذيب الآخرين، و أن هؤلاء "المتطوعين" أفراد عاديون لا يعانون من اضطرابات نفسية كالسادية مثلا، و أنهم لا يقدمون علي ما أقدموا عليه تحت ضغط تهديد أو إغراء من سلطة قاهرة. إنهم مجرد متطوعون للمشاركة في تجربة علمية لا يتقاضون مقابل تطوعهم سوي عدة دولارات فقط.
استغرقت تجارب ميللجرام من 1960 حتى 1964 و لم تلبث أن انتشرت التجارب في استراليا و جنوب إفريقيا و العديد من دول أوروبا. و قد قمت بعد ذلك بالإشراف علي عدد من البحوث التي أجراها أبنائي المصريين للحصول علي درجاتهم العلمية متبعين نفس أسلوب تجارب ميللجرام، و لم تكن النتائج لدينا تختلف كثيرا عنها في أي مكان في العالم حيث تراوحت نسبة من يصلون إلي النهاية القصوى في إطاعة الأوامر دون الإقدام علي الانسحاب من التجربة بين 60 و 66 %.
الطاعة الخبيثة ... لماذا؟
لقد أسفرت تلك التجارب عن نتيجة صادمة بكل المقاييس: ثمة "طاعة خبيثة" تسري في أوصال المجتمعات الحديثة، و حاول ميللجرام البحث عن الظروف التي تؤدي بالفرد إلي ذلك النوع من الطاعة، فصك تعبيرا يصعب ترجمته عربيا بكلمة واحدة: AGENTIC STATE وهي مشتقة من مصطلح "العميل أو الوكيل أو الممثل أو المندوب AGENT" بمعني أن الفرد يدرك نفسه باعتباره مجرد كائن ضعيف لا يعدو أن يكون ممثلا أو تابعا لآخر أو لآخرين أو لمؤسسة حتي لقوة معنوية غير منظورة، و أنه في هذا الموقف يتنازل تماما عن حريته في اتخاذ قرارات مستقلة، و بالتالي لا يتحمل أية مسئولية عن أفعاله أو حتي أفكاره. المسئولية يتحملها من يصدر له الأوامر؛ و حتي أولئك الذين يصدرون الأوامر المباشرة ( لاعب دور المجرب في حالة تجارب ميللجرام) قد يصدرون تلك الأوامر في ظل تلك الحالة نفسها بمعني أنهم إنما يحرصون علي إرضاء من أصدر لهم الأوامر، فيحيلون المسئولية إلي المستوي الأعلي و هكذا.
لقد شغلت هذه المشكلة منذ حوالي نصف قرن عالم النفس الشهير اريك فروم الذي أصدر كتابا ذاع صيته و تجاوزت أعداد طبعاته الحد المألوف, و كان عنوانه "الهروب من الحرية". لقد استوقفت فروم ظاهرة التفاف غالبية مواطنيه من أبناء الشعب الألماني حول هتلر الدكتاتور العنصري الذي لم يخف يوما عنصريته أو دكتاتوريته. و هاجر فروم من وطنه الأصلي ميمما صوب الولايات المتحدة الأمريكية حصن الحرية و ملاذ الأحرار, و لم يمض زمن طويل و إذا به يكتشف نفس الظاهرة تفصح عن نفسها جلية في أعماق من تعامل معهم من الأمريكيين. و توصل فروم إلي أن المجتمع في مرحلة معينة من مراحل تطوره السياسي الاجتماعي الاقتصادي يشكل أبناءه و ينشئهم علي النفور من الحرية, بحيث يضيقون بحريتهم أشد الضيق, و يسعون ما وسعهم الجهد لاكتشاف "البطل" الذي يتيح لهم التخلص من أغلالها, فيسارعون إلي الالتفاف حوله و السير وراءه و الانصياع لتوجيهاته دون تفكير أو تردد.
ربما بدا الأمر للوهلة الأولي متناقضا يصعب التسليم به, فالدول و الجماعات جميعا و بلا استثناء واحد و مهما كانت بشاعة وحشيتها, تعلن أنها محبة للحرية ساعية لتحقيقها. و لو نظرنا في بلادنا لوجدنا كافة التيارات السياسية المشروعة و غير المشروعة من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار تعلن جميعا أن الحرية هي الهدف المقدس و النهائي الذي تسعي إليه.
فلنقترب قليلا من شعارات الدعوة للحرية في بلادنا و لدي غيرنا أيضا، لنكتشف أن ثمة كلمة ثابتة تلتصق بغالبية تلك الشعارات. إنها كلمة "و لكن". نحن مع الحرية طبعا و لكن لسنا مع الفوضى. الحرية كل الحرية للشعب و لكن لا حرية لأعداء الشعب. الحرية للوطنيين الحقيقيين و لكن لا حرية للعملاء و المندسين. كل الحرية للأفكار البناءة الشريفة و لكن لا حرية للأفكار الهدامة المستوردة. كل الحرية لأنصار التقدم و لكن لا حرية للرجعيين أنصار التخلف. الحرية قيمة مقدسة و لكن في حدود الالتزام بثوابتنا الدينية و الوطنية. الحرية كل الحرية للمتدينين الطيبين المتمسكين بأوامر الله، و لا حرية لغيرهم من الكفرة و المنحلين. و حتي داخل التيارات الليبرالية تجد من يقول كل الحرية لأنصار الحرية و لكن لا حرية لأعدائها أنصار الحكم المطلق. قد تبدو كل تلك الشعارات براقة حتي نصل إلي تلك الكلمة المفتاحية "و لكن", فإذا ما تساءلنا و كيف يمكن التفرقة؟ من الذي يستطيع الفرز و التمييز؟ كان جوهر الإجابة أن صاحب الشعار هو المرجعية الأولي و الأخيرة للتمييز بين العملاء و الوطنيين, بين الأفكار البناءة و الهدامة, بين التقدميين و الرجعيين, بين الثوابت و المتغيرات الدينية و الوطنية.
خلاصة القول
إن إدانة التعذيب و التصدي له واجب مقدس، و لكن اجتثاث الجذور أو تجفيف المنابع الثقافية المغذية له ينبغي أن تكون فرض عين علي الجميع، بحيث نجرد أنفسنا قبل غيرنا من نزعات تقديس العنف و تقديس الطاعة، و أن نؤكد لأنفسنا و لغيرنا أنه لا استثناءات في إدانة التعذيب إيا كات نوعية الجرائم
إنها معركة صعبة تحتاج إلي نفس طويل.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)