الجمعة، 9 ديسمبر 2011

التفاؤل و التشاؤم و الثورية

التفاؤل و التشاؤم و الثورية
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
كنا في معسكر التعذيب في أوري ليمان أبو زعبل نساق صباحا إلي "العمل" و هو تعبير يشير في السجون إلي ممارسة تكسير الأحجار في الجبل و تبدآ الطوابير في التأهب للتحرك نحو الجبل بعد سماع صيحة "صابك عمل"
أذكر واحدا من الزملاء الذين كانوا يعملون قبل الاعتقال بمهنة التعليم. كان فنانا مرهفا، أميل للتفاؤل؛ لكنه كان يبحث عمن يؤكد له صحة تفاؤله و توقعه بأن الغمة لا بد منتهية، وكنت أراه أياما يستلقي إلي جواري بعد إغلاق أبواب العنبر مرتاحا هادئا أقرب للسكينة و التفاؤل، و في ليال أخري أراه حزينا مكتئبا متشائما؛ و اتضح لي أنه في ليالي تفاؤله و سكينته يكون قد التقي أثناء "العمل" بزميل متفائل نقل إليه أن ما نمر به هو ما يطلق عليه بلغة السجون "تكديرة"؛ و أن التكديرة لا تستمر إلا لفترة محدودة محددة سلفا، و أن تلك الفترة توشك أن تنتهي؛ فيعود صاحبنا ليقضي ليلته متفائلا بقرب انقشاع الغمة؛ أما في ليالي الحزن و الاكتئاب فقد كان صاحبنا يلتقي أثناء "العمل" بزميل شديد التشاؤم يؤكد له مستندا إلي وقائع يحفل بها تاريخ النازية و الفاشية أنه لا نهاية للتعذيب إلا حين يقرر النظام الفاشي الحاكم التخلص منا بالقتل، و أن ذلك القتل الجماعي ليس بالمهمة الصعبة، فما أيسر إطلاق الرصاص السجناء بزعم أنهم حاول التمرد أو الهرب، فيعود صاحينا و قد ملأه الغم موقنا أن نهايته وشيكة.
كانت تلك الأحاديث الليلية الهامسة المتشائمة ترهقني كثيرا، فالتشاؤم يشبه الأمراض المعدية. و فكرت في انتهاز فرصة خلال "العمل" لحل هذا الإشكال المرهق، و تصادف جلوسي يوما في دائرة تكسير الأحجار بين الزميلين "المتشائم" و "المتفائل" لأدير حوارا هامسا بينهما. و نجح "المتشائم" في إفحام "المتفائل" و تفنيد حججه، مما دفع بالأخير إلي القول بأنه حتى إذا كانت النهاية مأساوية بالفعل – و هو مجرد احتمال- و أنه لا سبيل البتة لتلافيها، فما الذي يمنع من إتاحة الفرصة لزميل بائس أن يتعلق بأذيال الأمل ليقضي ليلة هادئة، و ساق عدة أبيات من الشعر لشاعر قديم ما زالت عالقة بذاكرتي:
مني إن تكن حقا تكن أحسن المني * * * و إلا فقد عشنا بها زمانا رغدا
و ظل المتشائمون علي تشاؤمهم و كذلك المتفائلون، و إن كان ثمة ملاحظة ينبغي الالتفات إليها و هي أن تشاؤم المتشائمين لم يكن يتجاوز مستقبلهم الشخصي بمعني أنهم يتوقعون أن يقدم "الفاشيست" علي قتلهم، أو أن يظلوا قيد السجن إلي نهاية حياتهم، و لكن ذلك التشاؤم لم يمتد أبدا إلي جوهر القضية؛ فالاشتراكية منتصرة حتما في النهاية طال الزمن أو قصر. سواء كانوا أحياء أو قضوا تحت سياط التعذيب. و كانت تلك الظاهرة تكاد تشمل كافة الساعين للتغيير الاجتماعي السياسي إيا كانت توجهاتهم.
و قد شغلني طويلا و ما زال موضوع العلاقة بين التشاؤم و الثورية. تري هل صحيح أن المتفائل يعجز عن رؤية السلبيات، و بالتالي ينصرف عن محاولة التغيير؟ هل صحيح أن التغيير الثوري الحقيقي لا يمكن أن يصدر إلا عن جماعة مغرقة التشاؤم لا تري إلا ما هو سلبي؟
كتبت يوما عن هذا المعني مشيرا إلي أن حوارنا اليومي مكتوبا أو منطوقا يفيض بنغمة متشائمة لا تخطئها عين و لا أذن، بحيث أصبحت تلك النغمة المتشائمة تكاد تكون بمثابة جواز المرور لبداية أية مناقشة بيننا و بين بعضنا بل حتى بيننا و بين أنفسنا، و كثيرا ما أري التشكك في عيون العديد من الأصدقاء و الأبناء حين يشمون رائحة التفاؤل فيما أكتب أو أقول، فإذا ما صرحت لهم بما يؤكد شكوكهم تحولوا إلي التعجب و التساؤل و الاندهاش بل و الاستنكار: ألا يقلقك ما يجري؟ هل أنت راض عن واقعنا إذن؟
و أجد نفسي أؤكد أنني قلق بل و غاضب كأشد ما يكون القلق و الغضب، و لكن ما أعنيه بالتفاؤل شيء آخر بعيد تماما عن الرضا بالواقع. القلق الصحي كما تعلمنا في علم النفس شرط أساسي من شروط استمرار الحياة، و الوعي بسلبيات الواقع هو الشرط الأساسي لبزوغ و نمو الرغبة في التغيير، و بدون توافر هذين الشرطين تنعدم الحياة حقيقة لا مجازا. أما التفاؤل فإنه يعني اليقين بأن التغيير للأفضل ممكن و سيظل ممكنا، و أن الواقع الراهن مهما بدا مظلما فثمة نقاط مضيئة علينا أن نبحث عنها و ننميها، و أن الثمن المطلوب للتغيير مهما بدا مؤلما فإنه يهون بقدر إيجابية المستقبل المستهدف. يصدق ذلك علي المستوي الفردي كما يصدق علي المستوي السياسي. إن أخطر ما يمكن أن يهدد العمل السياسي هو تسلل عبارة "مفيش فايدة". و لنأخذ نموذجا من بعض ما يجري حولنا و في بلادنا.
ليس من شك في أننا عانينا طويلا و ما زلنا نعاني معاناة حقيقية من القيود المفروضة علي حرية تكوين الأحزاب، و حريات التعبير عن الرأي، و حريات الاحتجاج العلني علي العديد من الممارسات السلبية و علي رأسها التعذيب. ليست تلك القيود بالأمور المستجدة بالنسبة لنا أو لغيرنا، و لم يتوقف نضال الشعوب عبر التاريخ من أجل الحرية. و لننظر إلي النتائج: أين ذهب جلادو الأمس؟ و ما ذا كان مصير نخاسة العبيد و محاكم التفتيش و المكارثية و النازية. لقد طواهم التاريخ جميعا و دفعت الشعوب ثمنا باهظا في سبيل ذلك، و ليس من المتصور أن يختلف مسار اليوم عن مسار الأمس. إن انتهاكات الحرية لم تتلاشى، و لكن نضال الشعوب لم يذهب هباء.
و مظاهر المعاناة حولنا لا حصر لها، من الفساد، إلي الاستبداد، إلي مجازر العراق، و مآسي فلسطين، كل ذلك يدعو للألم و للغضب و للرفض، و لكنه لا يمكن أن يكون مبررا للتشاؤم، فالتشاؤم بوابة الاستسلام لكل شرور الظلم و الفساد، في حين أن التفاؤل هو المدخل الأساسي للتغلب علي كل الشرور، و لننظر إلي التاريخ.
لقد ساد التشاؤم و الظلام بلادنا بعد نكبة 1948، و رأي الفلسطينيون بعيونهم العدوان الصهيوني يلتهم أرضهم الفلسطينية، و لكن لم تلبث أن ظهرت مجموعة متفائلة من الشبان الفلسطينيين علي رأسهم أبو عمار لم يتملكهم اليأس و التشاؤم و أيقنوا أن القضاء علي الظلم ممكن، فكانت البداية المتواضعة لعمليات فتح الفدائية مع نهاية آخر ليالي ديسمبر عام 1964 وبزوغ فجر الأول من يناير 1965. و جاءت هزيمة يونيو 1967. و مع الهزيمة امتد العدوان الصهيوني ليلتهم ضمن ما التهم ما تبقي من فلسطين، و انتشرت النكات و الشعارات تروج لفكرة ألا فائدة ترجي من أي شيء، و لكن لم يهتز تفاؤل المقاومين الفلسطينيين بل ازداد تفاؤلهم و ازداد يقينهم بحقيقة أن للظلم نهاية لا بد و أن يصنعها المظلومون، فكانت معركة الكرامة مارس 1968 و توالت الأحداث و ما زالت. صراع مستمر بين ثقافة المقاومة و ثقافة الاستسلام. و هكذا كان شأننا في مصر أيضا لم نستسلم للتشاؤم إلي أن صنعنا النصر عام 1973. و هكذا كان و سيظل شأن الشعوب المقهورة عبر التاريخ.
التفاؤل إذن سمة المقاومين. هكذا يعلمنا التاريخ، و علم النفس أيضا. أما اليأس و التشاؤم فلا يفرز سوي الاستسلام إما بالصمت و الهروب خوفا، أو بالإرهاب و الانتحار يأسا. و لعل ذلك هو الخيط النفسي الرفيع بين العمل الفدائي و العمل الإرهابي.

جريدة الأهالي 26 أغسطس 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق