الجمعة، 9 ديسمبر 2011

صناع المستقبل لا يعرفون التشاؤم

الخوف من التفاؤل
قدري حفني

يفيض حوارنا اليومي مكتوبا أو منطوقا بنغمة متشائمة لا تخطئها عين و لا أذن, بحيث أصبحت تلك النغمة المتشائمة تكاد تكون بمثابة جواز المرور لبداية أية مناقشة بيننا و بين بعضنا بل حتى بيننا و بين أنفسنا, و كثيرا ما أري التشكك في عيون العديد من الأصدقاء و الأبناء حين "يكتشفون" أنني متفائل, فإذا ما صرحت لهم بما يؤكد شكوكهم تحولوا إلي التعجب و التساؤل و الاندهاش بل و الاستنكار: ألا يقلقك ما يجري؟ هل أنت راض عن واقعنا إذن؟
و أجد نفسي أؤكد أنني قلق بل و غاضب كأشد ما يكون القلق و الغضب, و لكن ما أعنيه بالتفاؤل شيء آخر بعيد تماما عن الرضا بالواقع. القلق الصحي كما تعلمنا في علم النفس شرط أساسي من شروط استمرار الحياة, و الوعي بسلبيات الواقع هو الشرط الأساسي لبزوغ و نمو الرغبة في التغيير, و بدون توافر هذين الشرطين تنعدم الحياة حقيقة لا مجازا. أما التفاؤل فإنه يعني اليقين بأن التغيير للأفضل ممكن و سيظل ممكنا, و أن الواقع الراهن مهما بدا مظلما فثمة نقاط مضيئة علينا أن نبحث عنها و ننميها, و أن الثمن المطلوب للتغيير مهما بدا مؤلما فإنه يهون بقدر إيجابية المستقبل المستهدف. يصدق ذلك علي المستوي الفردي كما يصدق علي المستوي السياسي. إن أخطر ما يمكن أن يهدد العمل السياسي هو تسلل عبارة "مفيش فايدة". و لنأخذ نموذجا من بعض ما يجري حولنا و في بلادنا.
ليس من شك في أننا عانينا طويلا و ما زلنا نعاني معاناة حقيقية من القيود المفروضة علي حرية تكوين الأحزاب, و حريات التعبير عن الرأي، و حريات الاحتجاج العلني علي العديد من الممارسات السلبية و علي رأسها التعذيب. ليست تلك القيود بالأمور المستجدة بالنسبة لنا أو لغيرنا, و لم يتوقف نضال الشعوب عبر التاريخ من أجل الحرية. و لننظر إلي النتائج: أين ذهب جلادو الأمس؟ و ما ذا كان مصير نخاسة العبيد و محاكم التفتيش و المكارثية و النازية. لقد طواهم التاريخ جميعا و دفعت الشعوب ثمنا باهظا في سبيل ذلك, و ليس من المتصور أن يختلف مسار اليوم عن مسار الأمس. إن انتهاكات الحرية لم تتلاشى, و لكن نضال الشعوب لم يذهب هباء.
و مظاهر المعاناة حولنا لا حصر لها, من الفساد, إلي الاستبداد, إلي مجازر الفلوجة و قبلها النجف و بعدها الموصل, إلي ما يجري في فلسطين, كل ذلك يدعو للألم و للغضب و للرفض, و لكنه لا يمكن أن يكون مبررا للتشاؤم, فالتشاؤم بوابة الاستسلام لكل شرور الظلم و الفساد, في حين أن التفاؤل هو المدخل الأساسي للتغلب علي كل الشرور, و لننظر إلي التاريخ.
لقد ساد التشاؤم و الظلام بلادنا بعد نكبة 1948, و رأي الفلسطينيون بعيونهم العدوان الصهيوني يلتهم أرضهم الفلسطينية, و لكن لم تلبث أن ظهرت مجموعة متفائلة من الشبان الفلسطينيين علي رأسهم أبو عمار لم يتملكهم اليأس و التشاؤم و أيقنوا أن القضاء علي الظلم ممكن, فكانت البداية المتواضعة لعمليات فتح الفدائية مع نهاية آخر ليالي ديسمبر عام 1964 وبزوغ فجر الأول من يناير 1965. و جاءت هزيمة يونيو 1967. و مع الهزيمة امتد العدوان الصهيوني ليلتهم ضمن ما التهم ما تبقي من فلسطين, و انتشرت النكات و الشعارات تروج لفكرة ألا فائدة ترجي من أي شيء, و لكن لم يهتز تفاؤل المقاومين الفلسطينيين بل ازداد تفاؤلهم و ازداد يقينهم بحقيقة أن للظلم نهاية لا بد و أن يصنعها المظلومون, فكانت معركة الكرامة مارس 1968 و توالت الأحداث و ما زالت. صراع مستمر بين ثقافة المقاومة و ثقافة الاستسلام. و هكذا كان شأننا في مصر أيضا لم نستسلم للتشاؤم إلي أن صنعنا النصر عام 1973. و هكذا كان و سيظل شأن الشعوب المقهورة عبر التاريخ.
التفاؤل إذن سمة المقاومين. هكذا يعلمنا التاريخ, و علم النفس أيضا. أما اليأس و التشاؤم فلا يفرز سوي الاستسلام إما بالصمت و الهروب خوفا, أو بالإرهاب و الانتحار يأسا. و لعل ذلك هو الخيط النفسي الرفيع بين العمل الفدائي و العمل الإرهابي.
إن الظلم و الفساد ظواهر قديمة قدم البشرية ومن ثم فقد شكلت إفرازها الثقافي المتمثل في "ثقافة الاستسلام " في مقابل "ثقافة المقاومة", و لا يخلو تاريخ جماعة بشرية من تصارع هاتين الثقافتين و إن كانت إحداها تشكل الطابع السائد في الفترة التاريخية المحددة.
لقد توافر لدعاة ثقافة الاستسلام ما لم يتوافر لدعاة ثقافة المقاومة من ثراء يكفل لهم تجنيد الكوادر الأكثر خبرة و تدريبا في مجال الإعلام و الحرب النفسية. و بفضل هؤلاء الخبراء المحترفين تطور شكل و مضمون ثقافة الاستسلام. لم يعد هناك مكان لتلك العبارات الساذجة القديمة التي تدعو بفجاجة إلي إيثار السلامة, و من ناحية أخري, لم يعد ممكنا إخفاء بشاعة ما يجري هنا و هناك من ظلم و فساد و استبداد. و أصبح علي خبراء ثقافة الاستسلام البحث عن حل متطور يكفل ترسيخا أعمق لثقافة الاستسلام, متحاشيا إخفاء بشاعة ما يجري, و يكفل في نفس الوقت "تسويق" تلك الثقافة لدي قطاعات أكبر من الجماهير المتعطشة للمعرفة و للعدل.
و كان الحل متمثلا في رفع أشد الشعارات ثورية, و عرض أبشع صور الظلم و الفساد و التدمير و الاستبداد, و تضخيم بشاعة تلك الصور, بل و اختلاق بعض الوقائع اختلاقا, و من ناحية أخري انتقاء أشد صور الإرهاب إثارة للنفور و الاشمئزاز و عرضها باعتبارها النماذج المثلي لمقاومة الظلم. و من خلال هذا التضخيم علي الجانبين ينغلق الطريق أمام أي بارقة للأمل, بل و يصبح أي حديث عن أمل مرتقب و ممكن, أو أي تلميح لإمكانية تخطي الواقع, غاية غير واقعية تحيطها الشبهات, بل جريمة لا تغتفر, و اتجاها معاكسا ينبغي سحقه و تدميره و السخرية منه, و جعله أضحوكة. و من ثم تعلو و تسود نغمة التشاؤم لينفتح باب الاستسلام علي مصراعيه. الاستسلام لكل الشرور من فساد و غزو و ظلم. الاستسلام بالصمت و الهروب خوفا أو الاستسلام بالإرهاب و الانتحار يأسا.


المصري اليوم, 30 نوفمبر 2004

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق