السبت، 17 مارس 2012

المناضل محجوب عمر

رحل اليوم الصديق المناضل محجوب عمر الذي كان نموذجا إنسانيا نضاليا فريدا
و لجيل جديد ربما منهم من لا يعرفه أهديهم تلك الكلمات


أخبار الأدب 1 فبراير 2004
أوراق عمرها أكثر من نصف قرن
محجوب عمر الذي تم تعميده ثلاث مرات!
قدري حفني
حين شرعت في الكتابة عن محجوب عمر أحسست بصعوبة ما أنا مقدم عليه, و تذكرت موقفا مشابها لمحجوب حين كان عليه أن بقدمني لمجموعة منتقاة من المناضلين الفلسطينيين في مركز التخطيط ببيروت في أوائل عام 1977 لأحدثهم عن سيكلوجية الصابرا الإسرائيليين, حينئذ تردد محجوب قليلا و قال في مستهل تقديمه لي ما معناه أنه يصعب علي المرء أن يتحدث عن نفسه. و كرر نفس المعني بعد سنوات و هو بصدد تقديمي متحدثا إلي وفد التفاوض الفلسطيني الذي استضافته القاهرة في منتصف مايو 1992. و الآن أجد نفسي في الموقف ذاته إذ أكتشف أنها المرة الأولي التي أحاول فيها الكتابة عن محجوب بعد ما يزيد عن الأربعين عاما من العلاقة الممتدة التي تضافر فيها ما هو شخصي بنا هو فكري بما هو سياسي, بحيث تصبح الكتابة عنه كتابة عن الذات و هو أمر بالغ الصعوبة بالنسبة لي كما هو بالنسبة لمحجوب. و لكني سأحاول.
تري هل يمكن لإنسان تم تعميده مرات ثلاث أن يظل هو ذات الإنسان. نعم إنه الأخ الدكتور محجوب عمر. في بداية الثلاثينيات تم تعميد الطفل رؤوف نظمي ميخائيل في إحدى كنائس مصر القبطية الأرثوذكسية, و كان تعميدا بالماء. و لم تلبث الحركة الثورية المصرية أن عمدت بالدم "الرفيق محجوب" في معسكرات التعذيب في الخمسينيات و الستينيات حيث سالت دماء فريد حداد و شهدي عطية و محمد عثمان و عبد القادر مفتاح و لويس اسحق و غيرهم. ثم كان التعميد الثالث ببارود البندقية الفلسطينية في أواخر الستينيات و خلال السبعينيات حيث عمدت الثورة الفلسطينية "الأخ الدكتور محجوب عمر". لقد تطورت رؤي محجوب الفكرية عبر سنوات العمر بل و لعلها تباينت, و لكن ظل الجوهر ثابتًا, جوهر محجوب الإنسان.
عرفت "الرفيق محجوب" في معسكر تعذيب أوردي ليمان أبو زعبل في أواخر الخمسينيات. و يعرف من مروا بمثل تلك الخبرة القاسية كيف يتعرى فيها الإنسان, ليس من ملابسه فقط, بل يتعرى نفسيا بحيث يصبح شفافا تماما. و أستطيع القول أن علاقتنا الإنسانية قد بدأت حين رأي كل منا الآخر في لحظة الشفافية هذه, و استمرت و مازالت مستمرة عبر السنوات.
خرجنا من المعتقل مولين ظهورنا للعمل السياسي التنظيمي السري, دون أن تنقطع صلاتنا بهموم الوطن و قضاياه, و بدأ كلانا ممارسته المهنية. عدت أخصائيا نفسيا بوزارة الصناعة و عين محجوب طبيبا بمستشفي دمباط التابع لوزارة الصحة المصرية. و لم تمض سنوات قليلة حتى واجهتنا لحظة مكاشفة جديدة.لحظة كارثة يونيو 1967, كانت لحظة صدمة شبيهة بصدمة التعذيب. عشتها مع محجوب و عدد من الأصدقاء, لحظة مراجعة للذات شملت كل شيء تقريبا. استغرق بعضنا في جلد قاس للذات استمر فيه و استمرأه ربما حتى يومنا هذا, و أولي بعضنا ظهره كلية للعمل العام بل و لكل ما هو عام, و تباينت اختيارات البعض لشكل إسهامهم في العمل الوطني, و كان خياري الشخصي أن أحاول فهم العدو الإسرائيلي فهما علميا من خلال تخصصي في علم النفس, أما محجوب فقد اختار اختيارا آخر, اختار مواجهة العدو و الاشتباك معه مباشرة و كان أن سافر إلي الجزائر طبيبا لينضم إلي صفوف فتح طبيبا مقاتلا و نموذجا ثوريا. حينئذ جمع محجوب ملابسه "المدنية" و وضعها في حقيبة و بعث بها إلي محملا أياي مهمة أن أسلمها إلي أسرته تاركا لي صياغة الرسالة المناسبة. لقد حرص محجوب أن يتم تعميده للمرة الثالثة بعد أن يخلع ملابسه, و إن كان قد خلعها هذه المرة بإرادته ليحيا حياة المقاتلين شكلا و مضمونا. و كانت مهمتي في إبلاغ الأسرة مهمة صعبة. ما أن فتح مراد شقيق محجوب الحقيبة و اكتشف أن بها كافة الملابس التي أخذها محجوب معه حتى كاد أن ينهار باكيا. لقد استنتج أن مكروها قد حل بنظمي و استغرق الأمر وقتا لكي أخبره أن نظمي –أي محجوب- بخير و أن كل ما هناك أنه قد التحق بصفوف فتح. ما زلت أذكر نظرة الشك في عينيه و هو يتساءل "هل في فتح لا يرتدون قمصانا و بنطلونات؟" و أخذت أحاول أن أشرح له أن محجوب لم يلتحق بفتح بوصفه سياسيا أو طبيبا فحسب و لكن باعتباره من القوات أي من "العسكر". لا أظنه قد اقتنع و لكنه علي الأقل قد اطمأن أو بدا لي كذلك.
و بدأت سلسلة متبادلة من الخطابات المطولة بيني و بين محجوب, نناقش فيها كل شيء. كنت أنصحه بألا يتخلى عن حرفته كطبيب لصالح العمل الثوري, و كان ينصحني بالاستمرار في محاولة فهم العدو الإسرائيلي معترضا علي تعبير كنت أستخدمه في وصف ما أقوم به من دراسة بأنه ليس إلا نوع من "الهروب الثوري". أظن أنني حاولت و ما زلت أعمل بنصيحته و لكني أشك في أنه أخذ نصيحتي مأخذ الجد.
و اندمج "الأخ الدكتور محجوب عمر" في صفوف مقاتلي فتح, و روي لي من عرفوه في أغوار الأردن ما يكاد أن يكون تكرارا لصورة "الرفيق محجوب" في زنازين سجن الواحات الخارجة, و لصورة "الدكتور رؤوف نظمي" الطبيب بإحدي المستشفيات الحكومية المصرية. الإقدام علي الخدمة العامة دون تفلسف أو تأفف مهما كانت طبيعة تلك الخدمة. فكما كان يصر علي تولي مسئوليات تنظيف الزنزانة الجماعية التي يقيم فيها, كان لا يجد حرجا وهو الطبيب المسئول في المستشفي الحكومي من أن يقوم بنفسه بعد الليمون الذي يورده المتعهد ليضمن شخصيا عدم تلاعبه في أغذية المرضي, لذلك لم أندهش حين روي لي أحد الأصدقاء الفلسطينيين كيف أن واحدة من المريضات ذهبت إلي عيادة منظمة فتح بإحدي مناطق الأردن لتجد شخصا منهمكا في تنظيف حجرة العيادة و تطلب منه مقابلة الطبيب فيرجوها الانتظار, و تنتظر السيدة, و ينتهي التنظيف, ليستدير لها "الأخ الدكتور محجوب" يسألها عن شكواها. و نكاد المرأة أن تصرخ و قد ظنت أن واحدا من عمال النظافة يحاول انتحال شخصية الطبيب.
و تمضي الأيام و ينتقل "الأخ الدكتور محجوب" مع قوات الثورة الفلسطينية إلي لبنان, و تكون أول طائرة أركبها في حياتي هي تلك المتجهة إلي بيروت في أوائل 1977 و تكررت الزيارات لألتقي من خلال "الأخ الدكتور محجوب عمر" بالعديد من المناضلين الفلسطينيين. ابوعمار, و الشهيد أبوجهاد, و الشهيد أبو الهول (هايل عبدالحميد) و حمدان (يحيي عاشور), و أبوفادي(منير شفيق), و الشهيد جواد أبوشعر, و محمد المدني, و جمعة غالي, و الياس شوفاني و غيرهم كثير. و ما زلت أحتفظ ضمن أوراقي ببطاقة هوية تحمل صورتي و رقم 301 صادرة بتاريخ 25 يناير 1980 موقعة من محجوب عمر عن مركز التخطيط الفلسطيني. و في حقيقة الأمر لم أكن في حاجة لتلك الهوية, كان يكفي أن أكون صديقا لمحجوب لكي تنفتح أمامي قلوب و عقول بل و بيوت الفلسطينيين, ليس في بيروت وحدها, بل في صنعاء, و عمان, و مدريد, و نيويورك أيضا.
لا أزعم أنني كنت علي اتفاق فكري دائم مع محجوب. لقد تباينت رؤانا في كثير من المواقف السياسية, و طالما تجادلنا و اشتد الجدل, بل و لم نصل في بعض الأحيان إلي اتفاق. و لكن لم يكن لجدالنا مهما بلغ عمقه و اشتدت حساسية القضايا التي يتناولها, أن يطمس تلك العلاقة التي بدأت في لحظة شفافية تحت سياط الجلادين, و لا أن يحولها إلي مجرد مجاملات شكلية باردة حفاظا علي الشكل و التاريخ المشترك. و من ناحية أخري فلم يكن حرص كلانا علي تلك العلاقة الشخصية الفريدة مبررا بحال للخوف من فتح أوسع نوافذ الحوار بيننا. كان كلانا دائما علي ثقة من وطنية الآخر و صدق مشاعره. ألم بر كلانا الآخر في لحظة صدق شفافة صهرنا فيها الألم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق