http://www.ahram.org.eg/256/2010/08/12/10/33675.aspx
الاختطاف الفكري
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
لقد عرفت البشرية ظاهرة التحول العقائدي أي انتقال الأفراد بل و الجماعات من عقيدة لأخرى منذ بداية تاريخ العقائد، لا تستثني من ذلك عقيدة واحدة سواء كانت سماوية أو دنيوية. و من هذه التحولات ما جري اختيارا باعتبار أن العقيدة الجديدة أكثر ملائمة لاحتياجات المرء العقلية و الانفعالية، و أنها -من وجهة نظر المتحول إليها- أكثر صوابا و استقامة، و قد يتبين له و لو بعد حين، أنه اتخذ قرارا خاطئا فيتراجع عنه عائدا إلي عقيدته القديمة أو إلي عقيدة أخري غير الاثنتين أو موليا ظهره للعقائد جميعا. و إلى جانب تلك التحولات الاختيارية؛ فثمة تحولات عقائدية جرت إجبارا أو إغواء أو غواية.
مثل تلك التحولات تجري علي قدم و ساق في بلدان العالم جميعا، و منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا، دون أن تثير لدي الجماهير العادية للجماعة "المهجورة" غضبا يصل إلي حد العنف المدمر و إن لم تكن بطبيعة الحال تلقي ترحيبا صاخبا من قبل الجماعة الجديدة.
تري لماذا يرفض أبناء العقائد الدينية خاصة في بلادنا التسليم بإمكانية أن يقدم فرد علي التحول من عقيدة لأخرى،رغم تقلص ظاهرة إعدام المرتدين عن الإسلام إلي حد كبير من الناحية العملية، و رغم اندثار ظاهرة تعذيب و حرق المهرطقين التي عرفتها أوروبا في العصور الوسطي؟ و لماذا ما زلنا في بلادنا نر الجماعات الدينية علي اختلافها تحس بالإهانة و الجرح إذا ما تركها أحد أبنائها متوجها إلي جماعة دينية أخري أو أولي ظهره للعقائد الدينية جميعا؟
لقد ترددت علي أسماعنا كثيرا في السنوات الأخيرة عبارة أن شخصا قد تم اختطافه حيث أجبر علي تغيير عقيدته. لقد كنا في زماننا حين نسمع أن فلانا قد اختطف نفهم أن المختطفين قد رصدوا تحركاته و حين واتتهم الفرصة قيدوه و دفعوه إلي سيارة و انطلقوا به إلي حيث يجبروه علي توقيع أوراق أو اعترافات أو ما إلي ذلك. و لا يستقيم هذا التصور فيما يتعلق بتغيير العقائد، و لعل التعبير الصحيح هو أن صاحبنا قد جري إغراءه أو غوايته لتغيير عقيدته. و الغواية إنما تعني تزيين الهدف المقصود بحيث يصبح أكثر إقناعا حتى لو كان الاتجاه صوبه يحمل الكثير من المخاطر؛ كما أن الإغراء يعني تقديم بديل أكثر جاذبية بحيث يقدم المرء علي أن يولي ظهره لما كان عليه متجها نحو ما يغريه، و لعل أشهر وسائل الإغراء تتمثل في الجنس و المال.
و رب من يتساءل: إن من يستخدمون تعبير "الاختطاف" من الناطقين بالعربية بل و العارفين بمرامي الألفاظ و معانيها، و هم يعرفون يقينا أن اختطافا بهذا المعني لم يحدث قط حتى وفقا لسردهم لتفاصيل ما جري، تري لماذا إذن نحجم عن استخدام التعبير الصحيح؟
إن السبب ببساطة هو أن الغواية أو الإغواء عبث بالعقل أو العواطف أو بهما معا، و من ثم فإن المرء الذي تمت غوايته أو إغراءه إنما أقدم في النهاية علي اتخاذ القرار "الخاطئ" بمحض إرادته. و بالتالي فإن القول بأن شخصا قد أمكن غوايته أو إغراءه بحيث أقدم علي تغيير عقيدته إنما يعني أحد احتمالين: الاحتمال الأول أن تلك العقيدة قابلة للتفنيد بشكل أو بآخر؛ و الاحتمال الثاني هو أن من أتباع هذه العقيدة من يقدم علي التخلي عنها تحت إغراء ملذات حسية دنيوية، مما يشكك في قدرة تلك العقيدة علي إشباع الاحتياجات الانفعالية و العقلية لأتباعها. و كلا الاحتمالين يحمل شبهة تعريض بالعقيدة يرفضه أتباعها؛ و الأفضل إذن أن يقال أن فلانا قد اختطف فأصبح مجبرا علي فعل و قول ما يمليه عليه خاطفوه؛ و من ثم فبمجرد تحرره و استعادته إرادته فسوف يعود فورا إلي عقيدته الصحيحة. و رغم ما يبدو للوهلة الأولي من أن تعبير"الاختطاف" قد يكون أقل وطأة من تعبير "الإغواء" أو "الغواية" من حيث شبهة التعريض بالعقيدة، إلا أنه لا ينفي ذلك التعريض تماما؛ فالصورة النموذجية للمؤمن الحق في كافة العقائد هو ذلك الذي لا يثنيه ألم أو تهديد عن التمسك بعقيدته حتى لو قدم حياته فداء لها، و لذلك فإنه لا يخلو تاريخ عقيدة من العقائد من قائمة من الشهداء تقدم تأكيدا عمليا علي ذلك.
خلاصة القول إذن أن من يقدم علي التخلي عن عقيدته إجبارا أو إغواء أو إغراءا هو في النهاية ليس بالمؤمن المثالي الذي يستحق فخر أبناء عقيدته الأولي التي أولاها ظهره بثمن مهما كان فهو ثمن بخس؛ و هو كذلك لا يستحق ترحيبا من أبناء عقيدته الجديدة التي توجه إليها طالما أن اختياره لها لم يكن نابعا من اقتناع حقيقي.
لقد جري تعميم تعبير "الاختطاف" بحيث أصبح يشمل أي واقعة "اختفاء" خاصة إذا ما كان المختفي أو المختفية من المنتمين للجماعة المسيحية، و يزداد الإلحاح علي تصوير ما قد يكن مجرد اختفاء طوعي باعتباره اختطافا، إذا ما كانت "المختفية" زوجة لكاهن. و لعله مما يستوقف النظر أن "المختطفة" تظل محتجبة عنا حتى بعد "تحريرها" كما لو كان قد تم اختطافها من جديد. إن واحدة من هؤلاء "المختطفات" لم تظهر إعلاميا بعد فك وثاقها لتعلن عن أسماء من اختطفوها، أو حتى لتعلن عمن أغووها أو هددوها أو من "لعبوا بعقلها"، أو علي الأقل أن تعلن أنه قد استبان لها الطريق الصحيح موضحة الأسباب التي دفعتها لفعل ما فعلته، و فضلا عن ذلك فإن أحدا لا يقدم اعتذارا لأحد عما حدث.
تري هل يرجع الأمر إلي طبيعة التنشئة الاجتماعية في بلادنا؟ أم إلي طبيعة المناخ الدولي و الإقليمي المحاط بنا؟ و هل الأمر قاصر في بلادنا علي أبناء عقيدة دون أخري؟ و هل تخرج دعاوي التكفير و اتهامات التنصير عن ذلك السياق؟ و هل الأمر قاصر علي الجماعات الدينية أم يشمل غيرها الجماعات الفكرية و السياسية أيضا؟ لعلنا نستطيع محاولة الاقتراب من فهم ذلك في مقال قادم.
السبت، 14 أغسطس 2010
الاتصال حاجة إنسانية 1
http://www.al-ahaly.com/index.php?option=com_content&view=article&id=2729:lr-1-4&catid=39:2010-02-27-09-21-49&Itemid=664
الاتصال ... حاجة إنسانية[1]
يتحول الفرد بدونه إلى مريض نفسي
(1-4)
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
يحاول الدكتور قدري حفني في دراسته الضافية "الاتصال و العولمة" تقصي جذور و حاجات الاتصال بين أفراد المجتمع و علاقة ذلك بالعولمة و ما تفرضه من أشكال اتصال جديدة. و في هذا الجزء من الدراسة يتتبع طرق الاتصال البدائية و أنواعها و كيف نشأت الحاجة لها، كما يفسر أسباب و ضرورات ظهور طرق الاتصال الحديثة، و يشير قدري قبل هذا و ذاك إلى أهمية الاتصال بين المجتمعات و أفرادها و ضرورات ذلك النفسية
الاتصال حاجة إنسانية قبل أن يكون ضرورة اجتماعيه · وتؤكد تجارب علم النفس، فضلا عن الخبرة الإنسانية العامة ، أن إغلاق منافذ الاتصال يؤدى بالفرد إلى معاناة نفسية - بل وبدنية - قاسية · وتؤدى تلك الحالة إذا ما استمرت إلى انهيار نفسي كامل يتحول معه الإنسان إلى كائن رخو فاقد تماما لجهاز مناعته النفسية إذا ما صح ذلك التعبير. ولو تركنا علماء النفس وتجاربهم جانبا ، ونظرنا في أنفسنا ، وإلى البشر من حولنا ، لوجدنا الصورة أكثر وضوحا· فالمرء مهما كانت انطوائيته ، ومهما كان عزوفه عن البشر، لابد وأن يضيق بوحدته بعد فترة تطول أو تقصر· ولابد وأن يبحث لنفسه عن”آخر” يأتنس به ، ويتفاعل معه · ولا بأس بعد ذلك من عودته إلى قوقعته من جديد·
وحتى في بعض حالات المرض العقلي المتطرفة ، وحين يتعذر على “المريض “ ممارسة الاتصال المتبادل بالآخرين ، فإنه يصطنع – أو يتوهم- لنفسه آخرين يقيم معهم من العلاقات الاتصالية ما يبدو لنا غريبا وشاذا · خلاصة القول إذن أن الحاجة إلى الاتصال حاجة إنسانية ، شأنها شأن حاجة الإنسان للطعام والشراب والنوم وما إلى ذلك من حاجات أساسية ·
ولعلنا لا نجاوز الحقيقة إذن إذا ما سلمنا بأن الإنسان يمارس الاتصال منذ بداية الوجود البشرى· ولعلنا لا نجاوز الحقيقة كذلك إذا ما سلمنا أيضا بأن ممارسة الاتصال باعتباره حاجة إنسانية كان سابقا على توصل الإنسان لأبجديات اللغة كما نعرفها اليوم، ولكن ترى كيف كان ذلك؟·
لقد كانت أولى أشكال الاتصال البدائي تتمثل في استخدام الإنسان للتعبيرات الجسمية كوسيلة لنقل انفعالاته وأحاسيسه إلى الآخر · وقد شملت تلك التعبيرات الجسيمة أجزاء الجسد جميعا :العيون ، الأنف ، الشفتين ، الذراعين ، اليدين ، الأصابع، الكتفين ، حركة الجسد ككل ··· إلى آخره · ومازالت لغتنا اليومية المنطوقة بل والمكتوبة أيضا تحمل آثارا من تلك اللغة القديمة ، لغة التعبيرات الجسمية · ويكفى أن نتأمل تعبيرات مثل : “ أوليته ظهري”· “فتح له ذراعيه”· “شمخ بأنفه”· “ربت عليه”· “قلب شفتيه”· “تمايل طربا”· “هز كتفيه” ··· إلى آخره ·
ولو تركنا جانبا لغتنا المنطوقة والمكتوبة لوجدنا دليلا آخر على عمق جذور تلك اللغة القديمة إذا ما تأملنا أساليب الاتصال لدى الطفل قبل اكتسابه اللغة · إن الأطفال يشبعون حاجاتهم الاتصالية منذ البداية بذلك الاستخدام الماهر التلقائي لتعبيرات الجسد · والطريف أن الكبار - وخاصة الأمهات - يستعيدون فورا قدرتهم المرهفة القديمة على “ قراءة” تلك التعبيرات الجسمية الصادرة عن أطفالهم ، وترجمتها ، والرد عليها · الأم “ تقرأ” نظرات طفلها ، وهمهماته ، وحركات رأسه · بل إنها كثيرا ما تستطيع أن تميز بدقة بالغة بين بكاء العتاب ، وبكاء الخوف ، وبكاء الجوع ، وبكاء الرغبة في النوم ، أو الحاجة إلي تغيير الملابس ، أو الرغبة في أن تحمله على ذراعيها ··· إلي آخره · ولكن ما أن يبدأ الطفل في النمو واكتساب اللغة ، حتى يعزف شيئا فشيئا عن الاعتماد على تلك اللغة القديمة · وعادة ما يشجعه الكبار على ذلك سواء بالتعبير له عن فرحتهم به وهو ينطق كلماته الأولى ، أو بتوجيهه مباشرة إلى ضرورة استخدام اللغة المنطوقة وإلا كفوا عن استقبال رسائله : “قل ما تريد··· تكلم ··· عبر بالكلمات ··· كف عن استخدام الإشارات “·
ولو حاولنا أن نصنف تلك اللغة القديمة وفقا للتصنيفات التي تعرفها علوم الاتصال الحديثة، لوجدنا أنها نوع من أنواع الاتصال الشخصي ، أو بعبارة أخرى أكثر أصالة “الاتصال وجها لوجه “ · ولا يفوتنا في هذا المقام أن نشير إلى تعبيرنا العامي الدارج “عيني في عينك “ بمعنى واجهني مباشرة لأعرف مدى صدق ما تنطق به ·
خلاصة القول إذن أن الاتصال الشخصي ، أو الاتصال وجها لوجه ، هو أقدم أنواع الاتصال من حيث السياق التاريخي سواء على مستوى المجتمع، أو على مستوى الفرد · ولكن ، ترى ما الذي حتم ظهور نمط آخر من أنماط الاتصال هو “ الاتصال الجماهيري “، بل وسيادته شيئا فشيئا ؟ هل يرجع ذلك إلى مجرد حداثته أو كفاءته؟ قد يكون كل ذلك صحيحا، ولكنه غير كاف وحده للتفسير · لابد من حتم اجتماعي جعل من انتشار الاتصال الجماهيري ضرورة اجتماعية ·
لماذا نشأ الاتصال الجماهيري؟
إن الضرورة الاجتماعية التي حتمت ظهور وانتشار الاتصال الجماهيري تتمثل - فيما نرى - في ثلاثة عوامل متكاملة: زيادة أعداد البشر، واتساع المعمورة، وتبلور ظاهرة السلطة المركزية ·
1 - زيادة أعداد البشر
إن فعالية الاتصال الشخصي - بحكم طبيعته - ترتبط بصغر حجم الجماعة التي يتم في إطارها الاتصال ، وإذا ما تجاوز حجم جماعة الاتصال حدا معينا تحول نمط الاتصال إلى الشكل الأقرب للجماهيري، أو تفتتت الجماعة إلى جماعات اتصالية أصغر تمارس الاتصال الشخصي ، ولسنا بحاجة للإشارة التفصيلية إلى تجارب علم النفس الاجتماعي في هذا الصدد ، بل يكفى أن نشير إلى ما نشاهده في حياتنا اليومية مما يؤكد ذلك·
لو تصورنا مجموعة من الأفراد يتوافدون على مكان ما لحضور حفل أو اجتماع معين، أو لأية مناسبة اجتماعية أخرى · سوف نلاحظ أن أوائل الحاضرين عادة ما يتحادثون “معا” في موضوع أو آخر · ومع تزايد عدد المتوافدين يتسع نطاق “الحديث معا” · بعبارة أخرى يتسع نطاق ممارسة الاتصال الشخصي · فإذا تجاوز حجم الجماعة حداً معينا لاحظنا أحد أمرين: قد تنقسم الجماعة إلى مجموعات أصغر أو “ شلل” يتحادث أفراد كل شلة مع بعضهم البعض في موضوع أو آخر. أما إذا كان ثمة موضوع هام يجذب اهتمام أفراد الجماعة جميعا -وقد يكون هذا الموضوع هو السبب المعلن لاجتماعهم- فإنهم عند بلوغ حجم الجماعة حدا معينا يكفون عن “الحديث معا”، ويبدءون في الانتظام وفقا لقواعد اتصالية معينة: يستمعون لمحاضرة مثلا، أو لموسيقى، أو لغير ذلك.
وتشير نتائج بحوث علم النفس الاجتماعي إلي أنه يصعب جداً إقامة تفاعل شخصي مباشر بين أفراد جماعة يزيد عدد أفرادها عن خمسة عشر فردا ، وكلما قل العدد عن ذلك كلما كان التفاعل أفضل· وإذا ما صدق ذلك على جماعة لا يتجاوز عدد أفرادها العشرين ، فكيف بنا إذا ما كنا بصدد الآلاف بل والملايين من البشر؟ كان لابد إذن لكي يتحقق اتصال فعال بين هذه الجماهير الغفيرة ، دون أن تتفتت إلى جماعات صغرى معزولة عن بعضها البعض ، كان لابد من ظهور نمط جديد من أنماط الاتصال إلى جانب النمط الأصيل للاتصال الشخصي ·
2 - أتساع المعمورة
إن أعداد البشر لم تتزايد فحسب، ولكن المساحة المعمورة المأهولة بهم قد ترامت أطرافها وتباعدت. ولم يعد ممكنا والأمر كذلك أن تفي الأنماط التقليدية الأصيلة للاتصال وعلى رأسها الاتصال الشخصي بإشباع الحاجة الاتصالية للتفاعل بين قاطني هذه المساحات المترامية الأطراف ·
إن الاتصال الشخصي بحكم طبيعته يقتضى أن يتواجد أفراد جماعة الاتصال معا بحيث يتبادلون التأثير الاتصالي ، ومع التقدم التكنولوجي لوسائل الاتصال (البريد - الهاتف - الراديو - التليفزيون - الفاكس - التلكس ·· إلى آخره) أصبح الاتصال غير المباشر أكثر إغراءا حتى لو توافر القرب المكاني نسبيا. فالأيسر مثلا أن أتصل بجاري تليفونيا بدلا من زيارته وما قد تتكلفه تلك الزيارة من جهد ووقت لكلينا · والأيسر بطبيعة الحال أن أبعث بخطاب إلى صديق أو قريب يقيم في الطرف الآخر من نفس المدينة بدلا من أن أتكلف مشقة الانتقال إليه.
خلاصة القول أن التباعد المكاني، بالإضافة إلى التقدم التكنولوجي قد ساهما - فضلا عن التزايد السكاني - في تشكيل الضرورة الاجتماعية التي حتمت ظهور وانتشار الاتصال الجماهيري ·
[1] الأهالي 11 أغسطس 2010
الاتصال ... حاجة إنسانية[1]
يتحول الفرد بدونه إلى مريض نفسي
(1-4)
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
يحاول الدكتور قدري حفني في دراسته الضافية "الاتصال و العولمة" تقصي جذور و حاجات الاتصال بين أفراد المجتمع و علاقة ذلك بالعولمة و ما تفرضه من أشكال اتصال جديدة. و في هذا الجزء من الدراسة يتتبع طرق الاتصال البدائية و أنواعها و كيف نشأت الحاجة لها، كما يفسر أسباب و ضرورات ظهور طرق الاتصال الحديثة، و يشير قدري قبل هذا و ذاك إلى أهمية الاتصال بين المجتمعات و أفرادها و ضرورات ذلك النفسية
الاتصال حاجة إنسانية قبل أن يكون ضرورة اجتماعيه · وتؤكد تجارب علم النفس، فضلا عن الخبرة الإنسانية العامة ، أن إغلاق منافذ الاتصال يؤدى بالفرد إلى معاناة نفسية - بل وبدنية - قاسية · وتؤدى تلك الحالة إذا ما استمرت إلى انهيار نفسي كامل يتحول معه الإنسان إلى كائن رخو فاقد تماما لجهاز مناعته النفسية إذا ما صح ذلك التعبير. ولو تركنا علماء النفس وتجاربهم جانبا ، ونظرنا في أنفسنا ، وإلى البشر من حولنا ، لوجدنا الصورة أكثر وضوحا· فالمرء مهما كانت انطوائيته ، ومهما كان عزوفه عن البشر، لابد وأن يضيق بوحدته بعد فترة تطول أو تقصر· ولابد وأن يبحث لنفسه عن”آخر” يأتنس به ، ويتفاعل معه · ولا بأس بعد ذلك من عودته إلى قوقعته من جديد·
وحتى في بعض حالات المرض العقلي المتطرفة ، وحين يتعذر على “المريض “ ممارسة الاتصال المتبادل بالآخرين ، فإنه يصطنع – أو يتوهم- لنفسه آخرين يقيم معهم من العلاقات الاتصالية ما يبدو لنا غريبا وشاذا · خلاصة القول إذن أن الحاجة إلى الاتصال حاجة إنسانية ، شأنها شأن حاجة الإنسان للطعام والشراب والنوم وما إلى ذلك من حاجات أساسية ·
ولعلنا لا نجاوز الحقيقة إذن إذا ما سلمنا بأن الإنسان يمارس الاتصال منذ بداية الوجود البشرى· ولعلنا لا نجاوز الحقيقة كذلك إذا ما سلمنا أيضا بأن ممارسة الاتصال باعتباره حاجة إنسانية كان سابقا على توصل الإنسان لأبجديات اللغة كما نعرفها اليوم، ولكن ترى كيف كان ذلك؟·
لقد كانت أولى أشكال الاتصال البدائي تتمثل في استخدام الإنسان للتعبيرات الجسمية كوسيلة لنقل انفعالاته وأحاسيسه إلى الآخر · وقد شملت تلك التعبيرات الجسيمة أجزاء الجسد جميعا :العيون ، الأنف ، الشفتين ، الذراعين ، اليدين ، الأصابع، الكتفين ، حركة الجسد ككل ··· إلى آخره · ومازالت لغتنا اليومية المنطوقة بل والمكتوبة أيضا تحمل آثارا من تلك اللغة القديمة ، لغة التعبيرات الجسمية · ويكفى أن نتأمل تعبيرات مثل : “ أوليته ظهري”· “فتح له ذراعيه”· “شمخ بأنفه”· “ربت عليه”· “قلب شفتيه”· “تمايل طربا”· “هز كتفيه” ··· إلى آخره ·
ولو تركنا جانبا لغتنا المنطوقة والمكتوبة لوجدنا دليلا آخر على عمق جذور تلك اللغة القديمة إذا ما تأملنا أساليب الاتصال لدى الطفل قبل اكتسابه اللغة · إن الأطفال يشبعون حاجاتهم الاتصالية منذ البداية بذلك الاستخدام الماهر التلقائي لتعبيرات الجسد · والطريف أن الكبار - وخاصة الأمهات - يستعيدون فورا قدرتهم المرهفة القديمة على “ قراءة” تلك التعبيرات الجسمية الصادرة عن أطفالهم ، وترجمتها ، والرد عليها · الأم “ تقرأ” نظرات طفلها ، وهمهماته ، وحركات رأسه · بل إنها كثيرا ما تستطيع أن تميز بدقة بالغة بين بكاء العتاب ، وبكاء الخوف ، وبكاء الجوع ، وبكاء الرغبة في النوم ، أو الحاجة إلي تغيير الملابس ، أو الرغبة في أن تحمله على ذراعيها ··· إلي آخره · ولكن ما أن يبدأ الطفل في النمو واكتساب اللغة ، حتى يعزف شيئا فشيئا عن الاعتماد على تلك اللغة القديمة · وعادة ما يشجعه الكبار على ذلك سواء بالتعبير له عن فرحتهم به وهو ينطق كلماته الأولى ، أو بتوجيهه مباشرة إلى ضرورة استخدام اللغة المنطوقة وإلا كفوا عن استقبال رسائله : “قل ما تريد··· تكلم ··· عبر بالكلمات ··· كف عن استخدام الإشارات “·
ولو حاولنا أن نصنف تلك اللغة القديمة وفقا للتصنيفات التي تعرفها علوم الاتصال الحديثة، لوجدنا أنها نوع من أنواع الاتصال الشخصي ، أو بعبارة أخرى أكثر أصالة “الاتصال وجها لوجه “ · ولا يفوتنا في هذا المقام أن نشير إلى تعبيرنا العامي الدارج “عيني في عينك “ بمعنى واجهني مباشرة لأعرف مدى صدق ما تنطق به ·
خلاصة القول إذن أن الاتصال الشخصي ، أو الاتصال وجها لوجه ، هو أقدم أنواع الاتصال من حيث السياق التاريخي سواء على مستوى المجتمع، أو على مستوى الفرد · ولكن ، ترى ما الذي حتم ظهور نمط آخر من أنماط الاتصال هو “ الاتصال الجماهيري “، بل وسيادته شيئا فشيئا ؟ هل يرجع ذلك إلى مجرد حداثته أو كفاءته؟ قد يكون كل ذلك صحيحا، ولكنه غير كاف وحده للتفسير · لابد من حتم اجتماعي جعل من انتشار الاتصال الجماهيري ضرورة اجتماعية ·
لماذا نشأ الاتصال الجماهيري؟
إن الضرورة الاجتماعية التي حتمت ظهور وانتشار الاتصال الجماهيري تتمثل - فيما نرى - في ثلاثة عوامل متكاملة: زيادة أعداد البشر، واتساع المعمورة، وتبلور ظاهرة السلطة المركزية ·
1 - زيادة أعداد البشر
إن فعالية الاتصال الشخصي - بحكم طبيعته - ترتبط بصغر حجم الجماعة التي يتم في إطارها الاتصال ، وإذا ما تجاوز حجم جماعة الاتصال حدا معينا تحول نمط الاتصال إلى الشكل الأقرب للجماهيري، أو تفتتت الجماعة إلى جماعات اتصالية أصغر تمارس الاتصال الشخصي ، ولسنا بحاجة للإشارة التفصيلية إلى تجارب علم النفس الاجتماعي في هذا الصدد ، بل يكفى أن نشير إلى ما نشاهده في حياتنا اليومية مما يؤكد ذلك·
لو تصورنا مجموعة من الأفراد يتوافدون على مكان ما لحضور حفل أو اجتماع معين، أو لأية مناسبة اجتماعية أخرى · سوف نلاحظ أن أوائل الحاضرين عادة ما يتحادثون “معا” في موضوع أو آخر · ومع تزايد عدد المتوافدين يتسع نطاق “الحديث معا” · بعبارة أخرى يتسع نطاق ممارسة الاتصال الشخصي · فإذا تجاوز حجم الجماعة حداً معينا لاحظنا أحد أمرين: قد تنقسم الجماعة إلى مجموعات أصغر أو “ شلل” يتحادث أفراد كل شلة مع بعضهم البعض في موضوع أو آخر. أما إذا كان ثمة موضوع هام يجذب اهتمام أفراد الجماعة جميعا -وقد يكون هذا الموضوع هو السبب المعلن لاجتماعهم- فإنهم عند بلوغ حجم الجماعة حدا معينا يكفون عن “الحديث معا”، ويبدءون في الانتظام وفقا لقواعد اتصالية معينة: يستمعون لمحاضرة مثلا، أو لموسيقى، أو لغير ذلك.
وتشير نتائج بحوث علم النفس الاجتماعي إلي أنه يصعب جداً إقامة تفاعل شخصي مباشر بين أفراد جماعة يزيد عدد أفرادها عن خمسة عشر فردا ، وكلما قل العدد عن ذلك كلما كان التفاعل أفضل· وإذا ما صدق ذلك على جماعة لا يتجاوز عدد أفرادها العشرين ، فكيف بنا إذا ما كنا بصدد الآلاف بل والملايين من البشر؟ كان لابد إذن لكي يتحقق اتصال فعال بين هذه الجماهير الغفيرة ، دون أن تتفتت إلى جماعات صغرى معزولة عن بعضها البعض ، كان لابد من ظهور نمط جديد من أنماط الاتصال إلى جانب النمط الأصيل للاتصال الشخصي ·
2 - أتساع المعمورة
إن أعداد البشر لم تتزايد فحسب، ولكن المساحة المعمورة المأهولة بهم قد ترامت أطرافها وتباعدت. ولم يعد ممكنا والأمر كذلك أن تفي الأنماط التقليدية الأصيلة للاتصال وعلى رأسها الاتصال الشخصي بإشباع الحاجة الاتصالية للتفاعل بين قاطني هذه المساحات المترامية الأطراف ·
إن الاتصال الشخصي بحكم طبيعته يقتضى أن يتواجد أفراد جماعة الاتصال معا بحيث يتبادلون التأثير الاتصالي ، ومع التقدم التكنولوجي لوسائل الاتصال (البريد - الهاتف - الراديو - التليفزيون - الفاكس - التلكس ·· إلى آخره) أصبح الاتصال غير المباشر أكثر إغراءا حتى لو توافر القرب المكاني نسبيا. فالأيسر مثلا أن أتصل بجاري تليفونيا بدلا من زيارته وما قد تتكلفه تلك الزيارة من جهد ووقت لكلينا · والأيسر بطبيعة الحال أن أبعث بخطاب إلى صديق أو قريب يقيم في الطرف الآخر من نفس المدينة بدلا من أن أتكلف مشقة الانتقال إليه.
خلاصة القول أن التباعد المكاني، بالإضافة إلى التقدم التكنولوجي قد ساهما - فضلا عن التزايد السكاني - في تشكيل الضرورة الاجتماعية التي حتمت ظهور وانتشار الاتصال الجماهيري ·
[1] الأهالي 11 أغسطس 2010
الثلاثاء، 10 أغسطس 2010
جمال مبارك و سندوتش المكرونة و علم النفس السياسي
جمال مبارك و سندوتش المكرونة و علم النفس السياسي[1]
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
عزيزي الأستاذ إبراهيم عيسي
أود بداية أن أهنئكم بصدور الدستور اليومي. إن صدور جريدة جديدة أمر مبهج, فإذا كانت هذه الجريدة مصرية معارضة للنظام القائم فإنه أمر مثير للفخر و الاعتزاز و التفاؤل باعتباره إضافة إلي إنجازات المصريين الديمقراطية, فإذا كانت تلك الجريدة هي الدستور صاحبة النبرة الحادة العالية الصادمة فإن الأمر يصبح شهادة للمصريين شعبا و سلطة و معارضة علي قدرتهم علي تقديم نموذج ديمقراطي ما زال يداعب أحلام العديد من الشعوب المحيطة بنا و التي لا تكف أجهزتها الإعلامية عن الصراخ احتجاجا علي استسلام المصريين لتلك السلطة القاهرة التي تكتم الأنفاس.
لا أعني بذلك علي الإطلاق أن نموذجنا الديمقراطي قد بلغ غاية المني, فما زلنا نتململ من ذلك الاختراع العجيب المسمي بلجنة الأحزاب, و ما زلنا نتطلع إلي تصفية المعتقلات و تقديم المتهمين إلي محاكمات عادلة, و ما زلنا نرقب بقلق إحالة بعض الصحفيين إلي المحاكمة, و لكنا نرصد في نفس الوقت استمرار الدستور و أخواتها من صحف المعارضة في الصدور حاملة ما تحمله من تعريض برموز السلطة مما لا نجد له نظيرا و لا شبيها في بلد عربي آخر إذا ما استثنينا حصرا لبنان و فلسطين.
من هذا المنطلق أرجو أن يتسع صدركم لتعليق علي مقالكم المعنون "سندوتش مكرونة" المنشور في العدد 109 الصادر في 2 إبريل 2007. لقد خصصتم مقالكم للحديث عن السيد جمال مبارك و ليس من شك في أن أحدا ليس فوق مستوي النقد, كما أنه ليس لأحد أن يحدد لغيره الأسلوب الذي ينبغي أن يتبعه للتعبير عن وجهة نظره؛ و دافعي للتعليق هو تطرقكم لعدد من القضايا التي تحظي بأهمية منهجية في علم النفس السياسي خاصة في مجال دراسة خصائص و سمات القائد و بالتحديد طبيعة العلاقة بين القائد و الجماعة.
و أود بداية أن أقرر أن أحدا لا يمكن أن يختلف معكم فيما ذكرتم من توصيف, فرغم أنني لا أعرف السيد جمال مبارك شخصيا و لم أشهد له لقاءا جماهيريا أو حوارا اللهم إلا علي شاشات التلفزيون, فإن أحدا لا يمكن أن يدعي أنه خطيب مفوه تلهب كلماته مشاعر الجماهير, كما أن أحدا لا يمكن أن يزعم أنه قد عاني من شظف العيش, و لذلك فإن حديثي ليس بحال عن شخص جمال مبارك الذي لا أعرف عنه إلا القليل, و لكنه حديث في علم النفس السياسي الذي أزعم أنني ربما أعرف عنه قدرا يسمح لي بالحديث.
لقد أشرتم في مقالكم و بحق إلي أن السيد جمال مبارك "لا توجد عنده هذه الهالة الزعامية" و أنه لم يكن يوما "خطيبا و لا زعيما" و أنه "لا يعرف عربيات الفول و الطعمية ... و لم يأكل سندوتش مكرونة في وسط البلد"؛ و لكنكم انتهيتم من تلك المقدمات إلي أن "هذا الرجل لا يعرف مصر فكيف نسمح له أن يحكمها", باعتبار أن "الهالة الزعامية" و "العصامية" تعد شروطا ضرورية لتولي القيادة, فضلا عن أن المعايشة المباشرة هي السبيل الوحيد لمعرفة معاناة الجماهير
و أرجو أن تسمح لي بتوضيح أن قضية الكاريزما أو الحضور أو "الطلة" أو القبول أو الذكاء الانفعالي و كلها مفاهيم متداخلة تصب في القدرة علي التأثير المباشر في الجماهير؛ و قد أصبحت تلك القدرة و تنميتها تشكل مجالا علميا متخصصا من مجالات علم النفس السياسي يتخذ اسما علميا وقورا هو "إعداد و تدريب القادة أو الدعاة" و يطلق عليه بعض الإعلاميين تعبيرا خشنا مباشرا هو "صناعة الزعماء", و لعل نظرة إلي بعض الكتابات الأمريكية المتعلقة بمنطقتنا تحديدا تكشف عن آليات يقال أنها اتبعت بالفعل في هذا الصدد لخلق زعماء جماهيريين و "تلميع" صورهم, و تفرق نتائج البحوث العلمية في مجال علم النفس السياسي تفرقة واضحة بين "القائد السياسي" و "الزعيم الجماهيري" بل قد تمضي التفرقة إلي حد إبراز التناقض بين الدورين حيث يفترض أن يعتمد القائد السياسي علي التحليل المنطقي القابل للنقد و التفنيد في حين يقوم خطاب الزعيم الجماهيري أو الداعية الكاريزمي علي تعطيل تلك القدرة علي النقد و التركيز علي الإثارة الانفعالية الساخنة. و رغم أن كلا الدورين مطلوب, و أنه في ظروف نادرة قد يقوم فرد واحد بالدورين معا, فإن "كاريزما" القائد السياسي قد تلعب دورا سلبيا في قيادته للجماعة إذ قد تدفعه إلي اتخاذ قرارات متسرعة هوجاء حرصا علي صورته الكاريزمية لدي الجماهير, فضلا عن أنها قد تغريه بالتأله و العياذ بالله .
القضية الثانية التي لمسها مقالكم أن المعايشة اليومية المباشرة هي السبيل الوحيد لمعرفة معاناة الآخرين, و قد يكون ذلك صحيحا فيما يتعلق بالعواطف المتبادلة بين شخصين و التي عبر عنها الشاعر بقوله: لا يعرف الشوق إلا من يكابده و لا الصبابة إلا من يعانيها, أما تعميم ذلك بحيث تصبح المعاناة المباشرة المعاشة شرطا لمعرفة معاناة الآخرين بل و تبني ما يصلح لهم من سياسات؛ فأظن أنه يجافي الوقائع التاريخية فضلا عن مجافاته للحقائق العلمية التي تجاوزت منذ زمن بعيد حصر المعرفة في الأحاسيس و الخبرات المباشرة؛ فالفرد مهما اتسعت خبراته المباشرة لا يستطيع بحال أن يدعي أنه قد عايش خبرات فئات مجتمعه كلها, و من ناحية أخري فليس صحيحا أنه كلما ابتعدت نشأة الفرد أو تنشئته عن فقراء مجتمعه كان أكثر تباعدا عن فهم مصالحهم و التعبير عنها, و لست بحاجة لسرد ما يجل عن الحصر من أمثلة في هذا الصدد, و يظل المحك دائما هو طبيعة الأفكار التي يتبناها ذلك الفرد و يدافع عنها, أو بعبارة أخري مفردات برنامجه السياسي
تري هل يعني ذلك دفاعا عن جمال مبارك أو حكما لصالحه؟ لا أظن ذلك مطلقا؛ فجمال مبارك باعتباره من قيادات الحزب الوطني مسئول مع أعضاء حزبه عن صياغة البرنامج السياسي للحزب, و أيضا عن السياسات العملية للحزب, و ليس في ذلك ما يستعصى علي النقد, بل لعل نقدا من هذا النوع يلعب دورا تنويريا تثقيفيا أظنه المهمة الأولي للمعارضة السياسية.
[1] الدستور, الخميس 5 ابريل 2007
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
عزيزي الأستاذ إبراهيم عيسي
أود بداية أن أهنئكم بصدور الدستور اليومي. إن صدور جريدة جديدة أمر مبهج, فإذا كانت هذه الجريدة مصرية معارضة للنظام القائم فإنه أمر مثير للفخر و الاعتزاز و التفاؤل باعتباره إضافة إلي إنجازات المصريين الديمقراطية, فإذا كانت تلك الجريدة هي الدستور صاحبة النبرة الحادة العالية الصادمة فإن الأمر يصبح شهادة للمصريين شعبا و سلطة و معارضة علي قدرتهم علي تقديم نموذج ديمقراطي ما زال يداعب أحلام العديد من الشعوب المحيطة بنا و التي لا تكف أجهزتها الإعلامية عن الصراخ احتجاجا علي استسلام المصريين لتلك السلطة القاهرة التي تكتم الأنفاس.
لا أعني بذلك علي الإطلاق أن نموذجنا الديمقراطي قد بلغ غاية المني, فما زلنا نتململ من ذلك الاختراع العجيب المسمي بلجنة الأحزاب, و ما زلنا نتطلع إلي تصفية المعتقلات و تقديم المتهمين إلي محاكمات عادلة, و ما زلنا نرقب بقلق إحالة بعض الصحفيين إلي المحاكمة, و لكنا نرصد في نفس الوقت استمرار الدستور و أخواتها من صحف المعارضة في الصدور حاملة ما تحمله من تعريض برموز السلطة مما لا نجد له نظيرا و لا شبيها في بلد عربي آخر إذا ما استثنينا حصرا لبنان و فلسطين.
من هذا المنطلق أرجو أن يتسع صدركم لتعليق علي مقالكم المعنون "سندوتش مكرونة" المنشور في العدد 109 الصادر في 2 إبريل 2007. لقد خصصتم مقالكم للحديث عن السيد جمال مبارك و ليس من شك في أن أحدا ليس فوق مستوي النقد, كما أنه ليس لأحد أن يحدد لغيره الأسلوب الذي ينبغي أن يتبعه للتعبير عن وجهة نظره؛ و دافعي للتعليق هو تطرقكم لعدد من القضايا التي تحظي بأهمية منهجية في علم النفس السياسي خاصة في مجال دراسة خصائص و سمات القائد و بالتحديد طبيعة العلاقة بين القائد و الجماعة.
و أود بداية أن أقرر أن أحدا لا يمكن أن يختلف معكم فيما ذكرتم من توصيف, فرغم أنني لا أعرف السيد جمال مبارك شخصيا و لم أشهد له لقاءا جماهيريا أو حوارا اللهم إلا علي شاشات التلفزيون, فإن أحدا لا يمكن أن يدعي أنه خطيب مفوه تلهب كلماته مشاعر الجماهير, كما أن أحدا لا يمكن أن يزعم أنه قد عاني من شظف العيش, و لذلك فإن حديثي ليس بحال عن شخص جمال مبارك الذي لا أعرف عنه إلا القليل, و لكنه حديث في علم النفس السياسي الذي أزعم أنني ربما أعرف عنه قدرا يسمح لي بالحديث.
لقد أشرتم في مقالكم و بحق إلي أن السيد جمال مبارك "لا توجد عنده هذه الهالة الزعامية" و أنه لم يكن يوما "خطيبا و لا زعيما" و أنه "لا يعرف عربيات الفول و الطعمية ... و لم يأكل سندوتش مكرونة في وسط البلد"؛ و لكنكم انتهيتم من تلك المقدمات إلي أن "هذا الرجل لا يعرف مصر فكيف نسمح له أن يحكمها", باعتبار أن "الهالة الزعامية" و "العصامية" تعد شروطا ضرورية لتولي القيادة, فضلا عن أن المعايشة المباشرة هي السبيل الوحيد لمعرفة معاناة الجماهير
و أرجو أن تسمح لي بتوضيح أن قضية الكاريزما أو الحضور أو "الطلة" أو القبول أو الذكاء الانفعالي و كلها مفاهيم متداخلة تصب في القدرة علي التأثير المباشر في الجماهير؛ و قد أصبحت تلك القدرة و تنميتها تشكل مجالا علميا متخصصا من مجالات علم النفس السياسي يتخذ اسما علميا وقورا هو "إعداد و تدريب القادة أو الدعاة" و يطلق عليه بعض الإعلاميين تعبيرا خشنا مباشرا هو "صناعة الزعماء", و لعل نظرة إلي بعض الكتابات الأمريكية المتعلقة بمنطقتنا تحديدا تكشف عن آليات يقال أنها اتبعت بالفعل في هذا الصدد لخلق زعماء جماهيريين و "تلميع" صورهم, و تفرق نتائج البحوث العلمية في مجال علم النفس السياسي تفرقة واضحة بين "القائد السياسي" و "الزعيم الجماهيري" بل قد تمضي التفرقة إلي حد إبراز التناقض بين الدورين حيث يفترض أن يعتمد القائد السياسي علي التحليل المنطقي القابل للنقد و التفنيد في حين يقوم خطاب الزعيم الجماهيري أو الداعية الكاريزمي علي تعطيل تلك القدرة علي النقد و التركيز علي الإثارة الانفعالية الساخنة. و رغم أن كلا الدورين مطلوب, و أنه في ظروف نادرة قد يقوم فرد واحد بالدورين معا, فإن "كاريزما" القائد السياسي قد تلعب دورا سلبيا في قيادته للجماعة إذ قد تدفعه إلي اتخاذ قرارات متسرعة هوجاء حرصا علي صورته الكاريزمية لدي الجماهير, فضلا عن أنها قد تغريه بالتأله و العياذ بالله .
القضية الثانية التي لمسها مقالكم أن المعايشة اليومية المباشرة هي السبيل الوحيد لمعرفة معاناة الآخرين, و قد يكون ذلك صحيحا فيما يتعلق بالعواطف المتبادلة بين شخصين و التي عبر عنها الشاعر بقوله: لا يعرف الشوق إلا من يكابده و لا الصبابة إلا من يعانيها, أما تعميم ذلك بحيث تصبح المعاناة المباشرة المعاشة شرطا لمعرفة معاناة الآخرين بل و تبني ما يصلح لهم من سياسات؛ فأظن أنه يجافي الوقائع التاريخية فضلا عن مجافاته للحقائق العلمية التي تجاوزت منذ زمن بعيد حصر المعرفة في الأحاسيس و الخبرات المباشرة؛ فالفرد مهما اتسعت خبراته المباشرة لا يستطيع بحال أن يدعي أنه قد عايش خبرات فئات مجتمعه كلها, و من ناحية أخري فليس صحيحا أنه كلما ابتعدت نشأة الفرد أو تنشئته عن فقراء مجتمعه كان أكثر تباعدا عن فهم مصالحهم و التعبير عنها, و لست بحاجة لسرد ما يجل عن الحصر من أمثلة في هذا الصدد, و يظل المحك دائما هو طبيعة الأفكار التي يتبناها ذلك الفرد و يدافع عنها, أو بعبارة أخري مفردات برنامجه السياسي
تري هل يعني ذلك دفاعا عن جمال مبارك أو حكما لصالحه؟ لا أظن ذلك مطلقا؛ فجمال مبارك باعتباره من قيادات الحزب الوطني مسئول مع أعضاء حزبه عن صياغة البرنامج السياسي للحزب, و أيضا عن السياسات العملية للحزب, و ليس في ذلك ما يستعصى علي النقد, بل لعل نقدا من هذا النوع يلعب دورا تنويريا تثقيفيا أظنه المهمة الأولي للمعارضة السياسية.
[1] الدستور, الخميس 5 ابريل 2007
التوريث 2
التوريث (2-2)[1]
بدلا من نائب الرئيس علينا التمسك ببديهيات الديموقراطية
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
توقفنا في مقالنا السابق عند ملاحظة تجاهل وقائع انتقال السلطة في سوريا الشقيقة باعتابره يجسد ما يمكن أن ينجم عن التوريث من كوارث وطنية و ديموقراطية حيث تم تعديل الدستور ليتيسر تولي السيد الرئيس بشار الأسد منصب رئاسة الجمهورية خلفا لوالده السيد الرئيس حافظ الأسد في ظل وجود شكلي للأحزاب و قبضة فولاذية علي الشارع.
أمامنا إذن نموذج "ثوري" تم فيه انتقال السلطة بأسلوب يجسد ما تحذر منه المعارضة المصرية، و لكن السلطة الجديدة سارت علي نهج السلطة القديمة في الالتزام بثوابتها المعروفة من حيث إحكام السيطرة علي الشارع تحسبا لمحاولات الاختراق المشبوهة، و تحاشي المواجهة المسلحة مع العدو الإسرائيلي المحتل و إرجاء ذلك إلي الوقت المناسب الذي نحدده "نحن" و ليس الإسرائيليون.
تري ماذا لو شطح بنا الخيال و تصورنا مثلا –مجرد تصور- أن يعلن السيد جمال مبارك تبنيه للخط السياسي السوري بتفاصيله: إدانة تصرفات إسرائيل الوحشية، و ضرورة التصدي لها و لكن في الوقت المناسب، و الالتزام بالحد الأدني الذي تفرضه معاهدة السلام، مع ضرورة ضبط الشارع المصري تحسبا لمحاولات الاختراق الإسرائيلية المتوقعة.
أتراه سوف يجد آنذاك ترحيبا من قوي المعارضين للتوريث؟ علما بأن السيد جمال مبارك ما زال حتي اليوم متحفظا في الخوض في شأن العلاقات المصرية الإسرائيلية .
تري ألا ينبغي أن نتوقف قليلا لنناقش بداية ماذا نعني بمصطلح توريث الحكم؟ إنه يعني بالتحديد أن يكون شخص الحاكم القادم محدد سلفا، و يجري ذلك التحديد المسبق عادة وفقا لواحد من أسلوبين:
الأسلوب الأول: الأسلوب التقليدي السائد في النظم الملكية، حيث يكون الحكم حكرا علي أسرة بعينها و بالتالي تنتقل السلطة إلي ولي عهد معروف وفقا لتسلسل أسري محدد.
الأسلوب الثاني: أن يقوم الحاكم الراهن بتحديد و إعلان خليفته أو ولي عهده دون أن يكون بالضرورة من أفراد عائلته، و هو الأسلوب الأكثر حداثة في نظم التوريث.
و إيا كان الأسلوب المتبع فإن الجوهر يظل واحدا: أن يتم انتقال السلطة بعيدا عن التصويت العام بالمعني المعروف، و يتمثل الفارق بين التوريث و التداول الديموقراطي للسلطة في سمات ثلاث: السمة الأولي هي حرية المواطنين في تشكيل أحزابهم السياسية. و السمة الثانية الاحتكام في تداول السلطة إلي صندوق الانتخابات حيث يدلي المواطنون بأصواتهم، و السمة الثالثة مترتبة علي السمتين السابقتين و هي أن شخص الحاكم لا يمكن القطع به مسبقا قبل فرز الأصوات. و لا يعني ذلك بطبيعة الحال استبعاد إمكانية التنبؤ، بل واقتراب بعض التنبؤات العلمية من استباق نتيجة التصويت، و لكن يبقي كل ذلك في حدود التنبؤ إلي أن يتم فرز الأصوات.
لقد كان النظام الملكي السابق علي يوليو 52 في مصر نظاما يجمع بين الملكية الوراثية، و الوزارات المنتخبة، و رغم أن هذا النظام شبيه من حيث الشكل بالنظام البريطاني مثلا، إلا أنه اختلف عنه في أن الملك لم يكن "يملك ولا يحكم" بل كان يمارس سلطة الحاكم الفعلي في وجود رئيس الوزراء المنتخب، و لكي يمارس الملك تلك السلطة لم يكن أمامه إلا تعطيل الدستور و تزوير الانتخابات. و كان ذلك الوضع في مجمله هو الوضع الأنسب للسلطة الحقيقية في البلاد آنذاك أي سلطة الاحتلال الريطاني.
و لم يقف نظام يوليو عند الإطاحة بالملكية بل أطاح بالأحزاب أيضا، و استبدل بنظام الانتخاب نظاما مبتكرا هو "الاستفتاء"، و كرس عمليا فكرة "نائب الرئيس" الذي يعينه الرئيس. و كان انتقال السلطة في ظل نظام يوليو يتم عمليا بتولية "النائب" الذي سبق أن اختاره الرئيس. و لعله من الطبيعي ألا تسمح تلك الآلية بتبين أية ملامح لاختلاف بين توجهات النائب و توجهات الرئيس، بل عادة ما يعلن النائب بعد توليه أنه سائر علي درب سلفه، و رغم ذلك فإن ما يحدث فعلا أن التاريخ لا يعرف التكرار، و من ثم فإنه لا يوجد حتى في النظم الوراثية التقليدية تطابق كامل بين توجهات الحكام المتتالين و الأمثلة غنية عن البيان.
و قد حرص الرئيس مبارك إثر توليه السلطة بعد رئيسين من العمالقة حين سئل لأيهما تعتبر نفسه الأقرب، أجاب إجابة بالغة الدلالة "اسمي حسني مبارك" مؤكدا الحقيقة التاريخية الثابتة، التاريخ لا يعرف التكرار.
و لقد حرص الرئيس مبارك حتى الآن علي الأقل ألا يعين له نائبا، أي أن يختار لنا وليا للعهد، و هو موقف أقرب إلي الديموقراطية دون شك. غير أن ما يستوقف النظر حقا أن العديد من المثقفين الليبراليين ظلوا و ما زالوا يطالبون الرئيس بتعيين النائب أي ولي العهد أو الحاكم القادم، رغم حرصهم في نفس الوقت علي تأكيد إدانتهم لمبدأ توريث السلطة، متجاهلين أن ما يطالبون به و يرفضه الرئيس مبارك هو جوهر فكرة توريث السلطة.
و لو تمعنا في الموقف قليلا لبدا لنا أن المطالبين بتعيين ولي العهد إنما يتحفظون تحديدا علي أن يكون السيد جمال مبارك هو الرئيس القادم رغم أنهم يعلنون أنه لا اعتراض عليه شخصيا، و لكنه اعتراض علي المبدأ، و السؤال علي أي مبدأ يعترضون حقا؟ أهو حقا مبدأ التوريث؟
إن الموقف الأقرب لديموقراطية انتقال السلطة يقتضي المطالبة بالتمسك بأسسها: كفالة حرية تشكيل الأحزاب و النقابات و الجمعيات. كفالة حرية الصحافة. كفالة الحريات العامة. التأكيد علي شفافية الانتخابات و الاحتكام إلي صناديق الانتخاب. و قبل هذا كله الثقة في نضج الشعب المصري و قدرته علي التمييز و الاختيار، و في هذا الإطار مرحبا بجمال مبارك أو مهدي عاكف أو أيمن نور أو غير هؤلاء إذا ما اختارهم الشعب حقا و صدقا
[1] البديل، 3 مارس 2008
بدلا من نائب الرئيس علينا التمسك ببديهيات الديموقراطية
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
توقفنا في مقالنا السابق عند ملاحظة تجاهل وقائع انتقال السلطة في سوريا الشقيقة باعتابره يجسد ما يمكن أن ينجم عن التوريث من كوارث وطنية و ديموقراطية حيث تم تعديل الدستور ليتيسر تولي السيد الرئيس بشار الأسد منصب رئاسة الجمهورية خلفا لوالده السيد الرئيس حافظ الأسد في ظل وجود شكلي للأحزاب و قبضة فولاذية علي الشارع.
أمامنا إذن نموذج "ثوري" تم فيه انتقال السلطة بأسلوب يجسد ما تحذر منه المعارضة المصرية، و لكن السلطة الجديدة سارت علي نهج السلطة القديمة في الالتزام بثوابتها المعروفة من حيث إحكام السيطرة علي الشارع تحسبا لمحاولات الاختراق المشبوهة، و تحاشي المواجهة المسلحة مع العدو الإسرائيلي المحتل و إرجاء ذلك إلي الوقت المناسب الذي نحدده "نحن" و ليس الإسرائيليون.
تري ماذا لو شطح بنا الخيال و تصورنا مثلا –مجرد تصور- أن يعلن السيد جمال مبارك تبنيه للخط السياسي السوري بتفاصيله: إدانة تصرفات إسرائيل الوحشية، و ضرورة التصدي لها و لكن في الوقت المناسب، و الالتزام بالحد الأدني الذي تفرضه معاهدة السلام، مع ضرورة ضبط الشارع المصري تحسبا لمحاولات الاختراق الإسرائيلية المتوقعة.
أتراه سوف يجد آنذاك ترحيبا من قوي المعارضين للتوريث؟ علما بأن السيد جمال مبارك ما زال حتي اليوم متحفظا في الخوض في شأن العلاقات المصرية الإسرائيلية .
تري ألا ينبغي أن نتوقف قليلا لنناقش بداية ماذا نعني بمصطلح توريث الحكم؟ إنه يعني بالتحديد أن يكون شخص الحاكم القادم محدد سلفا، و يجري ذلك التحديد المسبق عادة وفقا لواحد من أسلوبين:
الأسلوب الأول: الأسلوب التقليدي السائد في النظم الملكية، حيث يكون الحكم حكرا علي أسرة بعينها و بالتالي تنتقل السلطة إلي ولي عهد معروف وفقا لتسلسل أسري محدد.
الأسلوب الثاني: أن يقوم الحاكم الراهن بتحديد و إعلان خليفته أو ولي عهده دون أن يكون بالضرورة من أفراد عائلته، و هو الأسلوب الأكثر حداثة في نظم التوريث.
و إيا كان الأسلوب المتبع فإن الجوهر يظل واحدا: أن يتم انتقال السلطة بعيدا عن التصويت العام بالمعني المعروف، و يتمثل الفارق بين التوريث و التداول الديموقراطي للسلطة في سمات ثلاث: السمة الأولي هي حرية المواطنين في تشكيل أحزابهم السياسية. و السمة الثانية الاحتكام في تداول السلطة إلي صندوق الانتخابات حيث يدلي المواطنون بأصواتهم، و السمة الثالثة مترتبة علي السمتين السابقتين و هي أن شخص الحاكم لا يمكن القطع به مسبقا قبل فرز الأصوات. و لا يعني ذلك بطبيعة الحال استبعاد إمكانية التنبؤ، بل واقتراب بعض التنبؤات العلمية من استباق نتيجة التصويت، و لكن يبقي كل ذلك في حدود التنبؤ إلي أن يتم فرز الأصوات.
لقد كان النظام الملكي السابق علي يوليو 52 في مصر نظاما يجمع بين الملكية الوراثية، و الوزارات المنتخبة، و رغم أن هذا النظام شبيه من حيث الشكل بالنظام البريطاني مثلا، إلا أنه اختلف عنه في أن الملك لم يكن "يملك ولا يحكم" بل كان يمارس سلطة الحاكم الفعلي في وجود رئيس الوزراء المنتخب، و لكي يمارس الملك تلك السلطة لم يكن أمامه إلا تعطيل الدستور و تزوير الانتخابات. و كان ذلك الوضع في مجمله هو الوضع الأنسب للسلطة الحقيقية في البلاد آنذاك أي سلطة الاحتلال الريطاني.
و لم يقف نظام يوليو عند الإطاحة بالملكية بل أطاح بالأحزاب أيضا، و استبدل بنظام الانتخاب نظاما مبتكرا هو "الاستفتاء"، و كرس عمليا فكرة "نائب الرئيس" الذي يعينه الرئيس. و كان انتقال السلطة في ظل نظام يوليو يتم عمليا بتولية "النائب" الذي سبق أن اختاره الرئيس. و لعله من الطبيعي ألا تسمح تلك الآلية بتبين أية ملامح لاختلاف بين توجهات النائب و توجهات الرئيس، بل عادة ما يعلن النائب بعد توليه أنه سائر علي درب سلفه، و رغم ذلك فإن ما يحدث فعلا أن التاريخ لا يعرف التكرار، و من ثم فإنه لا يوجد حتى في النظم الوراثية التقليدية تطابق كامل بين توجهات الحكام المتتالين و الأمثلة غنية عن البيان.
و قد حرص الرئيس مبارك إثر توليه السلطة بعد رئيسين من العمالقة حين سئل لأيهما تعتبر نفسه الأقرب، أجاب إجابة بالغة الدلالة "اسمي حسني مبارك" مؤكدا الحقيقة التاريخية الثابتة، التاريخ لا يعرف التكرار.
و لقد حرص الرئيس مبارك حتى الآن علي الأقل ألا يعين له نائبا، أي أن يختار لنا وليا للعهد، و هو موقف أقرب إلي الديموقراطية دون شك. غير أن ما يستوقف النظر حقا أن العديد من المثقفين الليبراليين ظلوا و ما زالوا يطالبون الرئيس بتعيين النائب أي ولي العهد أو الحاكم القادم، رغم حرصهم في نفس الوقت علي تأكيد إدانتهم لمبدأ توريث السلطة، متجاهلين أن ما يطالبون به و يرفضه الرئيس مبارك هو جوهر فكرة توريث السلطة.
و لو تمعنا في الموقف قليلا لبدا لنا أن المطالبين بتعيين ولي العهد إنما يتحفظون تحديدا علي أن يكون السيد جمال مبارك هو الرئيس القادم رغم أنهم يعلنون أنه لا اعتراض عليه شخصيا، و لكنه اعتراض علي المبدأ، و السؤال علي أي مبدأ يعترضون حقا؟ أهو حقا مبدأ التوريث؟
إن الموقف الأقرب لديموقراطية انتقال السلطة يقتضي المطالبة بالتمسك بأسسها: كفالة حرية تشكيل الأحزاب و النقابات و الجمعيات. كفالة حرية الصحافة. كفالة الحريات العامة. التأكيد علي شفافية الانتخابات و الاحتكام إلي صناديق الانتخاب. و قبل هذا كله الثقة في نضج الشعب المصري و قدرته علي التمييز و الاختيار، و في هذا الإطار مرحبا بجمال مبارك أو مهدي عاكف أو أيمن نور أو غير هؤلاء إذا ما اختارهم الشعب حقا و صدقا
[1] البديل، 3 مارس 2008
التوريث1
التوريث (1-2)[1]
مازال الرئيس ممتنعا عن تعيين السيد النائب المرتقب
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
لم تعرف البشرية عبر تاريخها الطويل سوي أساليب محدودة لانتقال السلطة: إما بالعنف، أو بالوراثة، أو بالانتخاب. و ما زالت تلك الأساليب الثلاثة قائمة حتى اليوم و إن تعددت صورها، و يعد نظام الانتخاب العام بالشكل الذي نعرفه اليوم أحدث تلك الأساليب حيث لم تعرفه البشرية إلا مؤخرا بعد أن ظلت طويلا لا تعرف سوي نظام انتقال السلطة إما بالعنف أو بالوراثة. لقد تطورت النظم الانتخابية رغم حداثتها النسبية و اتخذت الانتخابات صورا شتي لسنا في مجال استعراضها كما تدخلت منجزات العلوم الاجتماعية و خاصة في مجال تكنولوجيا الإحصاء و قياس الاتجاهات في تطوير تلك النظم سواء في الدعاية الانتخابية أو في حساب الأصوات أو في التنبؤ بالنتائج.
و لم يقتصر التطوير علي النظم الانتخابية وحدها. فرغم أن أسلوب توريث السلطة التقليدي ما زال قائما في عديد من الدول التي تأخذ بالنظام الملكي، فحتى إذا ما أطيح بالأسرة المالكة فيما يعرف بالانقلابات "داخل القصر"، فإن أصحاب السلطة الجديدة لا يجدون حرجا في إعلان تمسكهم بنظام التوريث التقليدي كما حدث مثلا في دولة قطر، و هو ما يحسب لهم في ميزان الوضوح و المكاشفة.
إلا أنه مع قيام الثورات و الانقلابات العسكرية التي أطاحت ببعض النظم الملكية التقليدية، واجه من أمسكوا بزمام السلطة الجديدة في تلك المجتمعات موقفا حرجا: هل يأخذون فورا بالنظام الانتخابي الذي يحتمل أن يزيحهم عن مقاعد السلطة قبل أن يستقروا عليها تماما؟ أم يعلنوا تمسكهم بأسلوب توريث السلطة و هو الأسلوب الذي أعلنوا إدانتهم له و ثورتهم عليه؟ و لم يكن بد و الأمر كذلك من ابتكار أو تطوير نظام التوريث ليلائم النظم "الثورية" الوليدة. و كانت أبرز آليات التوريث الجديدة أليتان متكاملتان: إختيار الرئيس عن طريق الاستفتاء دون منافس، و اختيار "نائب الرئيس" الذي يعادل "ولي العهد" في النظم الملكية الوراثية التقليدية؛ و من ثم نصبح حيال ما يمكن أن نطلق عليه نظام "التوريث الاستفتائي".
لقد عرفنا عبر تاريخنا القديم من عصور الفراعنة عبورا بالفتح العربي فالفتح العثماني حتي نهاية الخلافة العثمانية أنواعا عديدة من تداول السلطة: عرفنا التوريث، و عرفنا انتقال السلطة للأقدر علي الاستيلاء عليها بالقوة، و عرفنا أيضا بيعة النخبة أو ذوي الحل و العقد، و عرفنا تفويض الحاكم لمجموعة يراها الأصلح لاختيارالقائد القادم من بينهم؛ و لكنا لم نعرف حاكما تم اختياره لمدة محدودة من خلال تصويت المواطنين جميعا دون تمييز إلا بعد زمن من غروب شمس الخلافة العثمانية. و انحصر ذلك التصويت العام في اختيار أعضاء البرلمان و رئيس مجلس الوزراء في حين ظل انتقال قمة الحكم الملكي وراثيا حتي إعلان النظام الجمهوري و تبني أسلوب الاستفتاء حيث يقوم الحزب الثوري الحاكم بتسمية المرشح لرياسة الجمهورية و يصدق علي ذلك الترشيح ممثلو الشعب في البرلمان ثم يطرح الاسم للاستفتاء، و يقوم الرئيس بعد توليه بتعيين نائبه الذي يرشحه الحزب بعد ذلك للاستفتاء لتولي رئاسة الجمهورية و هكذا دواليك.
و انكسرت تلك الحلقة بعد تولي الرئيس مبارك و عزوفه حتي الآن عن تحديد نائب الرئيس، أو الرئيس القادم وفقا لما كانت تجري عليه الأمور قبل ذلك.و بدأ القلق يعتور البعض مطالبين الرئيس بضرورة تسمية النائب/الرئيس القادم، و لما طال الانتظار و لم يستجب الرئيس، تحول قلق البعض إلي خوف و تساؤل: ماذا بعد مبارك؟ كيف يمكن أن نترك للمجهول دون أن يحدد لنا السيد الرئيس خلفه. و تجاهل الجميع أو تناسوا أن أحدا في الدول الديموقراطية الراسخة يمكن أن يطرح مثل ذلك التساؤل، و أن منصب نائب الرئيس الذي يكون منتخبا عادة في تلك الدول لا علاقة له البتة بتولي السلطة خلفا للرئيس الحالي، و أن مهمته الأساسية مهمة مؤقتة تماما تنتهي بانتخاب رئيس جديد، و أن هذا الرئيس الجديد لا يمكن معرفته يقينا إلا بعد انتهاء الانتخابات تماما.
و استمر الرئيس مبارك ممتنعا عن تعيين السيد النائب المرتقب، و بدا للبعض أنه لا بد و أن يكون للأمر خبيئ غير معلن و هو تهيئة المسرح لتولي السيد جمال مبارك السلطة بشكل يبدو ديموقراطيا و ذلك بترشيحه من الحزب الوطني الحاكم في مواجهة أحزاب معارضة ضعيفة. و الذي يستوقف النظر حقا أن جميع الأطراف بلا استثناء سواء كانوا في قمة السلطة أو من الحكومة أو الحزب الحاكم أو أحزاب المعارضة، أو جماعات المجتمع الأهلي، أو المثقفين و المفكرين علي اختلاف مشاربهم، الجميع يتفقون علي رفض و استهجان فكرة التوريث.
غير أنه مما يستوقف النظر أن الجميع في غمار إدانتهم للتوريث و لما يمكن أن ينجم عنه من كوارث قومية و ديموقراطية، تجاهلوا تدعيم حججهم بالإشارة إلي نموذج يجسد ما يخشونه و يحذرون منه، و هو وقائع انتقال السلطة في سوريا الشقيقة.
و لعل مكمن الحرج في الإشارة إلي هذا النموذج بشكل واضح مباشر هو ما تحظي به الشقيقة سوريا من تقدير و حب لدي المعارضين المصريين للتوريث نظرا لموقفها المعارض لاتفاقيات كامب دافيد، و تصدرها قوي "الصمود و التصدي" ثم قوي "الممانعة" و كونها ملاذ للقوي الثورية العربية الفلسطينية و اللبنانية المناهضة للاستسلام. رغم ما يتسم به موقفها حيال إسرائيل من انضباط و صبر و حكمة لم ينل منه التعرض لقصف الطيران الإسرائيلي لموقع داخل الحدود السورية، و كفل هدوءا تاما علي الحدود السورية الإسرائيلية التي لم تشهد حتي ما شهدته الحدود المصرية و الأردنية من حوادث تهور فردي "مجنون" لجندي سوري يطلق النار عبر الحدود، ثم ينتحر أو ينحر بعد ذلك
[1] البديل، 24 فبراير 2008
مازال الرئيس ممتنعا عن تعيين السيد النائب المرتقب
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
لم تعرف البشرية عبر تاريخها الطويل سوي أساليب محدودة لانتقال السلطة: إما بالعنف، أو بالوراثة، أو بالانتخاب. و ما زالت تلك الأساليب الثلاثة قائمة حتى اليوم و إن تعددت صورها، و يعد نظام الانتخاب العام بالشكل الذي نعرفه اليوم أحدث تلك الأساليب حيث لم تعرفه البشرية إلا مؤخرا بعد أن ظلت طويلا لا تعرف سوي نظام انتقال السلطة إما بالعنف أو بالوراثة. لقد تطورت النظم الانتخابية رغم حداثتها النسبية و اتخذت الانتخابات صورا شتي لسنا في مجال استعراضها كما تدخلت منجزات العلوم الاجتماعية و خاصة في مجال تكنولوجيا الإحصاء و قياس الاتجاهات في تطوير تلك النظم سواء في الدعاية الانتخابية أو في حساب الأصوات أو في التنبؤ بالنتائج.
و لم يقتصر التطوير علي النظم الانتخابية وحدها. فرغم أن أسلوب توريث السلطة التقليدي ما زال قائما في عديد من الدول التي تأخذ بالنظام الملكي، فحتى إذا ما أطيح بالأسرة المالكة فيما يعرف بالانقلابات "داخل القصر"، فإن أصحاب السلطة الجديدة لا يجدون حرجا في إعلان تمسكهم بنظام التوريث التقليدي كما حدث مثلا في دولة قطر، و هو ما يحسب لهم في ميزان الوضوح و المكاشفة.
إلا أنه مع قيام الثورات و الانقلابات العسكرية التي أطاحت ببعض النظم الملكية التقليدية، واجه من أمسكوا بزمام السلطة الجديدة في تلك المجتمعات موقفا حرجا: هل يأخذون فورا بالنظام الانتخابي الذي يحتمل أن يزيحهم عن مقاعد السلطة قبل أن يستقروا عليها تماما؟ أم يعلنوا تمسكهم بأسلوب توريث السلطة و هو الأسلوب الذي أعلنوا إدانتهم له و ثورتهم عليه؟ و لم يكن بد و الأمر كذلك من ابتكار أو تطوير نظام التوريث ليلائم النظم "الثورية" الوليدة. و كانت أبرز آليات التوريث الجديدة أليتان متكاملتان: إختيار الرئيس عن طريق الاستفتاء دون منافس، و اختيار "نائب الرئيس" الذي يعادل "ولي العهد" في النظم الملكية الوراثية التقليدية؛ و من ثم نصبح حيال ما يمكن أن نطلق عليه نظام "التوريث الاستفتائي".
لقد عرفنا عبر تاريخنا القديم من عصور الفراعنة عبورا بالفتح العربي فالفتح العثماني حتي نهاية الخلافة العثمانية أنواعا عديدة من تداول السلطة: عرفنا التوريث، و عرفنا انتقال السلطة للأقدر علي الاستيلاء عليها بالقوة، و عرفنا أيضا بيعة النخبة أو ذوي الحل و العقد، و عرفنا تفويض الحاكم لمجموعة يراها الأصلح لاختيارالقائد القادم من بينهم؛ و لكنا لم نعرف حاكما تم اختياره لمدة محدودة من خلال تصويت المواطنين جميعا دون تمييز إلا بعد زمن من غروب شمس الخلافة العثمانية. و انحصر ذلك التصويت العام في اختيار أعضاء البرلمان و رئيس مجلس الوزراء في حين ظل انتقال قمة الحكم الملكي وراثيا حتي إعلان النظام الجمهوري و تبني أسلوب الاستفتاء حيث يقوم الحزب الثوري الحاكم بتسمية المرشح لرياسة الجمهورية و يصدق علي ذلك الترشيح ممثلو الشعب في البرلمان ثم يطرح الاسم للاستفتاء، و يقوم الرئيس بعد توليه بتعيين نائبه الذي يرشحه الحزب بعد ذلك للاستفتاء لتولي رئاسة الجمهورية و هكذا دواليك.
و انكسرت تلك الحلقة بعد تولي الرئيس مبارك و عزوفه حتي الآن عن تحديد نائب الرئيس، أو الرئيس القادم وفقا لما كانت تجري عليه الأمور قبل ذلك.و بدأ القلق يعتور البعض مطالبين الرئيس بضرورة تسمية النائب/الرئيس القادم، و لما طال الانتظار و لم يستجب الرئيس، تحول قلق البعض إلي خوف و تساؤل: ماذا بعد مبارك؟ كيف يمكن أن نترك للمجهول دون أن يحدد لنا السيد الرئيس خلفه. و تجاهل الجميع أو تناسوا أن أحدا في الدول الديموقراطية الراسخة يمكن أن يطرح مثل ذلك التساؤل، و أن منصب نائب الرئيس الذي يكون منتخبا عادة في تلك الدول لا علاقة له البتة بتولي السلطة خلفا للرئيس الحالي، و أن مهمته الأساسية مهمة مؤقتة تماما تنتهي بانتخاب رئيس جديد، و أن هذا الرئيس الجديد لا يمكن معرفته يقينا إلا بعد انتهاء الانتخابات تماما.
و استمر الرئيس مبارك ممتنعا عن تعيين السيد النائب المرتقب، و بدا للبعض أنه لا بد و أن يكون للأمر خبيئ غير معلن و هو تهيئة المسرح لتولي السيد جمال مبارك السلطة بشكل يبدو ديموقراطيا و ذلك بترشيحه من الحزب الوطني الحاكم في مواجهة أحزاب معارضة ضعيفة. و الذي يستوقف النظر حقا أن جميع الأطراف بلا استثناء سواء كانوا في قمة السلطة أو من الحكومة أو الحزب الحاكم أو أحزاب المعارضة، أو جماعات المجتمع الأهلي، أو المثقفين و المفكرين علي اختلاف مشاربهم، الجميع يتفقون علي رفض و استهجان فكرة التوريث.
غير أنه مما يستوقف النظر أن الجميع في غمار إدانتهم للتوريث و لما يمكن أن ينجم عنه من كوارث قومية و ديموقراطية، تجاهلوا تدعيم حججهم بالإشارة إلي نموذج يجسد ما يخشونه و يحذرون منه، و هو وقائع انتقال السلطة في سوريا الشقيقة.
و لعل مكمن الحرج في الإشارة إلي هذا النموذج بشكل واضح مباشر هو ما تحظي به الشقيقة سوريا من تقدير و حب لدي المعارضين المصريين للتوريث نظرا لموقفها المعارض لاتفاقيات كامب دافيد، و تصدرها قوي "الصمود و التصدي" ثم قوي "الممانعة" و كونها ملاذ للقوي الثورية العربية الفلسطينية و اللبنانية المناهضة للاستسلام. رغم ما يتسم به موقفها حيال إسرائيل من انضباط و صبر و حكمة لم ينل منه التعرض لقصف الطيران الإسرائيلي لموقع داخل الحدود السورية، و كفل هدوءا تاما علي الحدود السورية الإسرائيلية التي لم تشهد حتي ما شهدته الحدود المصرية و الأردنية من حوادث تهور فردي "مجنون" لجندي سوري يطلق النار عبر الحدود، ثم ينتحر أو ينحر بعد ذلك
[1] البديل، 24 فبراير 2008
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)