الثلاثاء، 10 أغسطس 2010

جمال مبارك و سندوتش المكرونة و علم النفس السياسي

جمال مبارك و سندوتش المكرونة و علم النفس السياسي[1]
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
عزيزي الأستاذ إبراهيم عيسي
أود بداية أن أهنئكم بصدور الدستور اليومي. إن صدور جريدة جديدة أمر مبهج, فإذا كانت هذه الجريدة مصرية معارضة للنظام القائم فإنه أمر مثير للفخر و الاعتزاز و التفاؤل باعتباره إضافة إلي إنجازات المصريين الديمقراطية, فإذا كانت تلك الجريدة هي الدستور صاحبة النبرة الحادة العالية الصادمة فإن الأمر يصبح شهادة للمصريين شعبا و سلطة و معارضة علي قدرتهم علي تقديم نموذج ديمقراطي ما زال يداعب أحلام العديد من الشعوب المحيطة بنا و التي لا تكف أجهزتها الإعلامية عن الصراخ احتجاجا علي استسلام المصريين لتلك السلطة القاهرة التي تكتم الأنفاس.
لا أعني بذلك علي الإطلاق أن نموذجنا الديمقراطي قد بلغ غاية المني, فما زلنا نتململ من ذلك الاختراع العجيب المسمي بلجنة الأحزاب, و ما زلنا نتطلع إلي تصفية المعتقلات و تقديم المتهمين إلي محاكمات عادلة, و ما زلنا نرقب بقلق إحالة بعض الصحفيين إلي المحاكمة, و لكنا نرصد في نفس الوقت استمرار الدستور و أخواتها من صحف المعارضة في الصدور حاملة ما تحمله من تعريض برموز السلطة مما لا نجد له نظيرا و لا شبيها في بلد عربي آخر إذا ما استثنينا حصرا لبنان و فلسطين.
من هذا المنطلق أرجو أن يتسع صدركم لتعليق علي مقالكم المعنون "سندوتش مكرونة" المنشور في العدد 109 الصادر في 2 إبريل 2007. لقد خصصتم مقالكم للحديث عن السيد جمال مبارك و ليس من شك في أن أحدا ليس فوق مستوي النقد, كما أنه ليس لأحد أن يحدد لغيره الأسلوب الذي ينبغي أن يتبعه للتعبير عن وجهة نظره؛ و دافعي للتعليق هو تطرقكم لعدد من القضايا التي تحظي بأهمية منهجية في علم النفس السياسي خاصة في مجال دراسة خصائص و سمات القائد و بالتحديد طبيعة العلاقة بين القائد و الجماعة.
و أود بداية أن أقرر أن أحدا لا يمكن أن يختلف معكم فيما ذكرتم من توصيف, فرغم أنني لا أعرف السيد جمال مبارك شخصيا و لم أشهد له لقاءا جماهيريا أو حوارا اللهم إلا علي شاشات التلفزيون, فإن أحدا لا يمكن أن يدعي أنه خطيب مفوه تلهب كلماته مشاعر الجماهير, كما أن أحدا لا يمكن أن يزعم أنه قد عاني من شظف العيش, و لذلك فإن حديثي ليس بحال عن شخص جمال مبارك الذي لا أعرف عنه إلا القليل, و لكنه حديث في علم النفس السياسي الذي أزعم أنني ربما أعرف عنه قدرا يسمح لي بالحديث.
لقد أشرتم في مقالكم و بحق إلي أن السيد جمال مبارك "لا توجد عنده هذه الهالة الزعامية" و أنه لم يكن يوما "خطيبا و لا زعيما" و أنه "لا يعرف عربيات الفول و الطعمية ... و لم يأكل سندوتش مكرونة في وسط البلد"؛ و لكنكم انتهيتم من تلك المقدمات إلي أن "هذا الرجل لا يعرف مصر فكيف نسمح له أن يحكمها", باعتبار أن "الهالة الزعامية" و "العصامية" تعد شروطا ضرورية لتولي القيادة, فضلا عن أن المعايشة المباشرة هي السبيل الوحيد لمعرفة معاناة الجماهير
و أرجو أن تسمح لي بتوضيح أن قضية الكاريزما أو الحضور أو "الطلة" أو القبول أو الذكاء الانفعالي و كلها مفاهيم متداخلة تصب في القدرة علي التأثير المباشر في الجماهير؛ و قد أصبحت تلك القدرة و تنميتها تشكل مجالا علميا متخصصا من مجالات علم النفس السياسي يتخذ اسما علميا وقورا هو "إعداد و تدريب القادة أو الدعاة" و يطلق عليه بعض الإعلاميين تعبيرا خشنا مباشرا هو "صناعة الزعماء", و لعل نظرة إلي بعض الكتابات الأمريكية المتعلقة بمنطقتنا تحديدا تكشف عن آليات يقال أنها اتبعت بالفعل في هذا الصدد لخلق زعماء جماهيريين و "تلميع" صورهم, و تفرق نتائج البحوث العلمية في مجال علم النفس السياسي تفرقة واضحة بين "القائد السياسي" و "الزعيم الجماهيري" بل قد تمضي التفرقة إلي حد إبراز التناقض بين الدورين حيث يفترض أن يعتمد القائد السياسي علي التحليل المنطقي القابل للنقد و التفنيد في حين يقوم خطاب الزعيم الجماهيري أو الداعية الكاريزمي علي تعطيل تلك القدرة علي النقد و التركيز علي الإثارة الانفعالية الساخنة. و رغم أن كلا الدورين مطلوب, و أنه في ظروف نادرة قد يقوم فرد واحد بالدورين معا, فإن "كاريزما" القائد السياسي قد تلعب دورا سلبيا في قيادته للجماعة إذ قد تدفعه إلي اتخاذ قرارات متسرعة هوجاء حرصا علي صورته الكاريزمية لدي الجماهير, فضلا عن أنها قد تغريه بالتأله و العياذ بالله .
القضية الثانية التي لمسها مقالكم أن المعايشة اليومية المباشرة هي السبيل الوحيد لمعرفة معاناة الآخرين, و قد يكون ذلك صحيحا فيما يتعلق بالعواطف المتبادلة بين شخصين و التي عبر عنها الشاعر بقوله: لا يعرف الشوق إلا من يكابده و لا الصبابة إلا من يعانيها, أما تعميم ذلك بحيث تصبح المعاناة المباشرة المعاشة شرطا لمعرفة معاناة الآخرين بل و تبني ما يصلح لهم من سياسات؛ فأظن أنه يجافي الوقائع التاريخية فضلا عن مجافاته للحقائق العلمية التي تجاوزت منذ زمن بعيد حصر المعرفة في الأحاسيس و الخبرات المباشرة؛ فالفرد مهما اتسعت خبراته المباشرة لا يستطيع بحال أن يدعي أنه قد عايش خبرات فئات مجتمعه كلها, و من ناحية أخري فليس صحيحا أنه كلما ابتعدت نشأة الفرد أو تنشئته عن فقراء مجتمعه كان أكثر تباعدا عن فهم مصالحهم و التعبير عنها, و لست بحاجة لسرد ما يجل عن الحصر من أمثلة في هذا الصدد, و يظل المحك دائما هو طبيعة الأفكار التي يتبناها ذلك الفرد و يدافع عنها, أو بعبارة أخري مفردات برنامجه السياسي
تري هل يعني ذلك دفاعا عن جمال مبارك أو حكما لصالحه؟ لا أظن ذلك مطلقا؛ فجمال مبارك باعتباره من قيادات الحزب الوطني مسئول مع أعضاء حزبه عن صياغة البرنامج السياسي للحزب, و أيضا عن السياسات العملية للحزب, و ليس في ذلك ما يستعصى علي النقد, بل لعل نقدا من هذا النوع يلعب دورا تنويريا تثقيفيا أظنه المهمة الأولي للمعارضة السياسية.
[1] الدستور, الخميس 5 ابريل 2007

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق