الثلاثاء، 10 أغسطس 2010

التوريث 2

التوريث (2-2)[1]
بدلا من نائب الرئيس علينا التمسك ببديهيات الديموقراطية
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
توقفنا في مقالنا السابق عند ملاحظة تجاهل وقائع انتقال السلطة في سوريا الشقيقة باعتابره يجسد ما يمكن أن ينجم عن التوريث من كوارث وطنية و ديموقراطية حيث تم تعديل الدستور ليتيسر تولي السيد الرئيس بشار الأسد منصب رئاسة الجمهورية خلفا لوالده السيد الرئيس حافظ الأسد في ظل وجود شكلي للأحزاب و قبضة فولاذية علي الشارع.
أمامنا إذن نموذج "ثوري" تم فيه انتقال السلطة بأسلوب يجسد ما تحذر منه المعارضة المصرية، و لكن السلطة الجديدة سارت علي نهج السلطة القديمة في الالتزام بثوابتها المعروفة من حيث إحكام السيطرة علي الشارع تحسبا لمحاولات الاختراق المشبوهة، و تحاشي المواجهة المسلحة مع العدو الإسرائيلي المحتل و إرجاء ذلك إلي الوقت المناسب الذي نحدده "نحن" و ليس الإسرائيليون.
تري ماذا لو شطح بنا الخيال و تصورنا مثلا –مجرد تصور- أن يعلن السيد جمال مبارك تبنيه للخط السياسي السوري بتفاصيله: إدانة تصرفات إسرائيل الوحشية، و ضرورة التصدي لها و لكن في الوقت المناسب، و الالتزام بالحد الأدني الذي تفرضه معاهدة السلام، مع ضرورة ضبط الشارع المصري تحسبا لمحاولات الاختراق الإسرائيلية المتوقعة.
أتراه سوف يجد آنذاك ترحيبا من قوي المعارضين للتوريث؟ علما بأن السيد جمال مبارك ما زال حتي اليوم متحفظا في الخوض في شأن العلاقات المصرية الإسرائيلية .
تري ألا ينبغي أن نتوقف قليلا لنناقش بداية ماذا نعني بمصطلح توريث الحكم؟ إنه يعني بالتحديد أن يكون شخص الحاكم القادم محدد سلفا، و يجري ذلك التحديد المسبق عادة وفقا لواحد من أسلوبين:
الأسلوب الأول: الأسلوب التقليدي السائد في النظم الملكية، حيث يكون الحكم حكرا علي أسرة بعينها و بالتالي تنتقل السلطة إلي ولي عهد معروف وفقا لتسلسل أسري محدد.
الأسلوب الثاني: أن يقوم الحاكم الراهن بتحديد و إعلان خليفته أو ولي عهده دون أن يكون بالضرورة من أفراد عائلته، و هو الأسلوب الأكثر حداثة في نظم التوريث.
و إيا كان الأسلوب المتبع فإن الجوهر يظل واحدا: أن يتم انتقال السلطة بعيدا عن التصويت العام بالمعني المعروف، و يتمثل الفارق بين التوريث و التداول الديموقراطي للسلطة في سمات ثلاث: السمة الأولي هي حرية المواطنين في تشكيل أحزابهم السياسية. و السمة الثانية الاحتكام في تداول السلطة إلي صندوق الانتخابات حيث يدلي المواطنون بأصواتهم، و السمة الثالثة مترتبة علي السمتين السابقتين و هي أن شخص الحاكم لا يمكن القطع به مسبقا قبل فرز الأصوات. و لا يعني ذلك بطبيعة الحال استبعاد إمكانية التنبؤ، بل واقتراب بعض التنبؤات العلمية من استباق نتيجة التصويت، و لكن يبقي كل ذلك في حدود التنبؤ إلي أن يتم فرز الأصوات.
لقد كان النظام الملكي السابق علي يوليو 52 في مصر نظاما يجمع بين الملكية الوراثية، و الوزارات المنتخبة، و رغم أن هذا النظام شبيه من حيث الشكل بالنظام البريطاني مثلا، إلا أنه اختلف عنه في أن الملك لم يكن "يملك ولا يحكم" بل كان يمارس سلطة الحاكم الفعلي في وجود رئيس الوزراء المنتخب، و لكي يمارس الملك تلك السلطة لم يكن أمامه إلا تعطيل الدستور و تزوير الانتخابات. و كان ذلك الوضع في مجمله هو الوضع الأنسب للسلطة الحقيقية في البلاد آنذاك أي سلطة الاحتلال الريطاني.
و لم يقف نظام يوليو عند الإطاحة بالملكية بل أطاح بالأحزاب أيضا، و استبدل بنظام الانتخاب نظاما مبتكرا هو "الاستفتاء"، و كرس عمليا فكرة "نائب الرئيس" الذي يعينه الرئيس. و كان انتقال السلطة في ظل نظام يوليو يتم عمليا بتولية "النائب" الذي سبق أن اختاره الرئيس. و لعله من الطبيعي ألا تسمح تلك الآلية بتبين أية ملامح لاختلاف بين توجهات النائب و توجهات الرئيس، بل عادة ما يعلن النائب بعد توليه أنه سائر علي درب سلفه، و رغم ذلك فإن ما يحدث فعلا أن التاريخ لا يعرف التكرار، و من ثم فإنه لا يوجد حتى في النظم الوراثية التقليدية تطابق كامل بين توجهات الحكام المتتالين و الأمثلة غنية عن البيان.
و قد حرص الرئيس مبارك إثر توليه السلطة بعد رئيسين من العمالقة حين سئل لأيهما تعتبر نفسه الأقرب، أجاب إجابة بالغة الدلالة "اسمي حسني مبارك" مؤكدا الحقيقة التاريخية الثابتة، التاريخ لا يعرف التكرار.
و لقد حرص الرئيس مبارك حتى الآن علي الأقل ألا يعين له نائبا، أي أن يختار لنا وليا للعهد، و هو موقف أقرب إلي الديموقراطية دون شك. غير أن ما يستوقف النظر حقا أن العديد من المثقفين الليبراليين ظلوا و ما زالوا يطالبون الرئيس بتعيين النائب أي ولي العهد أو الحاكم القادم، رغم حرصهم في نفس الوقت علي تأكيد إدانتهم لمبدأ توريث السلطة، متجاهلين أن ما يطالبون به و يرفضه الرئيس مبارك هو جوهر فكرة توريث السلطة.
و لو تمعنا في الموقف قليلا لبدا لنا أن المطالبين بتعيين ولي العهد إنما يتحفظون تحديدا علي أن يكون السيد جمال مبارك هو الرئيس القادم رغم أنهم يعلنون أنه لا اعتراض عليه شخصيا، و لكنه اعتراض علي المبدأ، و السؤال علي أي مبدأ يعترضون حقا؟ أهو حقا مبدأ التوريث؟
إن الموقف الأقرب لديموقراطية انتقال السلطة يقتضي المطالبة بالتمسك بأسسها: كفالة حرية تشكيل الأحزاب و النقابات و الجمعيات. كفالة حرية الصحافة. كفالة الحريات العامة. التأكيد علي شفافية الانتخابات و الاحتكام إلي صناديق الانتخاب. و قبل هذا كله الثقة في نضج الشعب المصري و قدرته علي التمييز و الاختيار، و في هذا الإطار مرحبا بجمال مبارك أو مهدي عاكف أو أيمن نور أو غير هؤلاء إذا ما اختارهم الشعب حقا و صدقا
[1] البديل، 3 مارس 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق