السبت، 14 أغسطس 2010

الاختطاف الفكري

http://www.ahram.org.eg/256/2010/08/12/10/33675.aspx

الاختطاف الفكري
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
لقد عرفت البشرية ظاهرة التحول العقائدي أي انتقال الأفراد بل و الجماعات من عقيدة لأخرى منذ بداية تاريخ العقائد، لا تستثني من ذلك عقيدة واحدة سواء كانت سماوية أو دنيوية. و من هذه التحولات ما جري اختيارا باعتبار أن العقيدة الجديدة أكثر ملائمة لاحتياجات المرء العقلية و الانفعالية، و أنها -من وجهة نظر المتحول إليها- أكثر صوابا و استقامة، و قد يتبين له و لو بعد حين، أنه اتخذ قرارا خاطئا فيتراجع عنه عائدا إلي عقيدته القديمة أو إلي عقيدة أخري غير الاثنتين أو موليا ظهره للعقائد جميعا. و إلى جانب تلك التحولات الاختيارية؛ فثمة تحولات عقائدية جرت إجبارا أو إغواء أو غواية.
مثل تلك التحولات تجري علي قدم و ساق في بلدان العالم جميعا، و منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا، دون أن تثير لدي الجماهير العادية للجماعة "المهجورة" غضبا يصل إلي حد العنف المدمر و إن لم تكن بطبيعة الحال تلقي ترحيبا صاخبا من قبل الجماعة الجديدة.
تري لماذا يرفض أبناء العقائد الدينية خاصة في بلادنا التسليم بإمكانية أن يقدم فرد علي التحول من عقيدة لأخرى،رغم تقلص ظاهرة إعدام المرتدين عن الإسلام إلي حد كبير من الناحية العملية، و رغم اندثار ظاهرة تعذيب و حرق المهرطقين التي عرفتها أوروبا في العصور الوسطي؟ و لماذا ما زلنا في بلادنا نر الجماعات الدينية علي اختلافها تحس بالإهانة و الجرح إذا ما تركها أحد أبنائها متوجها إلي جماعة دينية أخري أو أولي ظهره للعقائد الدينية جميعا؟
لقد ترددت علي أسماعنا كثيرا في السنوات الأخيرة عبارة أن شخصا قد تم اختطافه حيث أجبر علي تغيير عقيدته. لقد كنا في زماننا حين نسمع أن فلانا قد اختطف نفهم أن المختطفين قد رصدوا تحركاته و حين واتتهم الفرصة قيدوه و دفعوه إلي سيارة و انطلقوا به إلي حيث يجبروه علي توقيع أوراق أو اعترافات أو ما إلي ذلك. و لا يستقيم هذا التصور فيما يتعلق بتغيير العقائد، و لعل التعبير الصحيح هو أن صاحبنا قد جري إغراءه أو غوايته لتغيير عقيدته. و الغواية إنما تعني تزيين الهدف المقصود بحيث يصبح أكثر إقناعا حتى لو كان الاتجاه صوبه يحمل الكثير من المخاطر؛ كما أن الإغراء يعني تقديم بديل أكثر جاذبية بحيث يقدم المرء علي أن يولي ظهره لما كان عليه متجها نحو ما يغريه، و لعل أشهر وسائل الإغراء تتمثل في الجنس و المال.
و رب من يتساءل: إن من يستخدمون تعبير "الاختطاف" من الناطقين بالعربية بل و العارفين بمرامي الألفاظ و معانيها، و هم يعرفون يقينا أن اختطافا بهذا المعني لم يحدث قط حتى وفقا لسردهم لتفاصيل ما جري، تري لماذا إذن نحجم عن استخدام التعبير الصحيح؟
إن السبب ببساطة هو أن الغواية أو الإغواء عبث بالعقل أو العواطف أو بهما معا، و من ثم فإن المرء الذي تمت غوايته أو إغراءه إنما أقدم في النهاية علي اتخاذ القرار "الخاطئ" بمحض إرادته. و بالتالي فإن القول بأن شخصا قد أمكن غوايته أو إغراءه بحيث أقدم علي تغيير عقيدته إنما يعني أحد احتمالين: الاحتمال الأول أن تلك العقيدة قابلة للتفنيد بشكل أو بآخر؛ و الاحتمال الثاني هو أن من أتباع هذه العقيدة من يقدم علي التخلي عنها تحت إغراء ملذات حسية دنيوية، مما يشكك في قدرة تلك العقيدة علي إشباع الاحتياجات الانفعالية و العقلية لأتباعها. و كلا الاحتمالين يحمل شبهة تعريض بالعقيدة يرفضه أتباعها؛ و الأفضل إذن أن يقال أن فلانا قد اختطف فأصبح مجبرا علي فعل و قول ما يمليه عليه خاطفوه؛ و من ثم فبمجرد تحرره و استعادته إرادته فسوف يعود فورا إلي عقيدته الصحيحة. و رغم ما يبدو للوهلة الأولي من أن تعبير"الاختطاف" قد يكون أقل وطأة من تعبير "الإغواء" أو "الغواية" من حيث شبهة التعريض بالعقيدة، إلا أنه لا ينفي ذلك التعريض تماما؛ فالصورة النموذجية للمؤمن الحق في كافة العقائد هو ذلك الذي لا يثنيه ألم أو تهديد عن التمسك بعقيدته حتى لو قدم حياته فداء لها، و لذلك فإنه لا يخلو تاريخ عقيدة من العقائد من قائمة من الشهداء تقدم تأكيدا عمليا علي ذلك.
خلاصة القول إذن أن من يقدم علي التخلي عن عقيدته إجبارا أو إغواء أو إغراءا هو في النهاية ليس بالمؤمن المثالي الذي يستحق فخر أبناء عقيدته الأولي التي أولاها ظهره بثمن مهما كان فهو ثمن بخس؛ و هو كذلك لا يستحق ترحيبا من أبناء عقيدته الجديدة التي توجه إليها طالما أن اختياره لها لم يكن نابعا من اقتناع حقيقي.
لقد جري تعميم تعبير "الاختطاف" بحيث أصبح يشمل أي واقعة "اختفاء" خاصة إذا ما كان المختفي أو المختفية من المنتمين للجماعة المسيحية، و يزداد الإلحاح علي تصوير ما قد يكن مجرد اختفاء طوعي باعتباره اختطافا، إذا ما كانت "المختفية" زوجة لكاهن. و لعله مما يستوقف النظر أن "المختطفة" تظل محتجبة عنا حتى بعد "تحريرها" كما لو كان قد تم اختطافها من جديد. إن واحدة من هؤلاء "المختطفات" لم تظهر إعلاميا بعد فك وثاقها لتعلن عن أسماء من اختطفوها، أو حتى لتعلن عمن أغووها أو هددوها أو من "لعبوا بعقلها"، أو علي الأقل أن تعلن أنه قد استبان لها الطريق الصحيح موضحة الأسباب التي دفعتها لفعل ما فعلته، و فضلا عن ذلك فإن أحدا لا يقدم اعتذارا لأحد عما حدث.
تري هل يرجع الأمر إلي طبيعة التنشئة الاجتماعية في بلادنا؟ أم إلي طبيعة المناخ الدولي و الإقليمي المحاط بنا؟ و هل الأمر قاصر في بلادنا علي أبناء عقيدة دون أخري؟ و هل تخرج دعاوي التكفير و اتهامات التنصير عن ذلك السياق؟ و هل الأمر قاصر علي الجماعات الدينية أم يشمل غيرها الجماعات الفكرية و السياسية أيضا؟ لعلنا نستطيع محاولة الاقتراب من فهم ذلك في مقال قادم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق