السبت، 14 أغسطس 2010

الاتصال حاجة إنسانية 1

http://www.al-ahaly.com/index.php?option=com_content&view=article&id=2729:lr-1-4&catid=39:2010-02-27-09-21-49&Itemid=664

الاتصال ... حاجة إنسانية[1]
يتحول الفرد بدونه إلى مريض نفسي
(1-4)
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
يحاول الدكتور قدري حفني في دراسته الضافية "الاتصال و العولمة" تقصي جذور و حاجات الاتصال بين أفراد المجتمع و علاقة ذلك بالعولمة و ما تفرضه من أشكال اتصال جديدة. و في هذا الجزء من الدراسة يتتبع طرق الاتصال البدائية و أنواعها و كيف نشأت الحاجة لها، كما يفسر أسباب و ضرورات ظهور طرق الاتصال الحديثة، و يشير قدري قبل هذا و ذاك إلى أهمية الاتصال بين المجتمعات و أفرادها و ضرورات ذلك النفسية
الاتصال حاجة إنسانية قبل أن يكون ضرورة اجتماعيه · وتؤكد تجارب علم النفس، فضلا عن الخبرة الإنسانية العامة ، أن إغلاق منافذ الاتصال يؤدى بالفرد إلى معاناة نفسية - بل وبدنية - قاسية · وتؤدى تلك الحالة إذا ما استمرت إلى انهيار نفسي كامل يتحول معه الإنسان إلى كائن رخو فاقد تماما لجهاز مناعته النفسية إذا ما صح ذلك التعبير. ولو تركنا علماء النفس وتجاربهم جانبا ، ونظرنا في أنفسنا ، وإلى البشر من حولنا ، لوجدنا الصورة أكثر وضوحا· فالمرء مهما كانت انطوائيته ، ومهما كان عزوفه عن البشر، لابد وأن يضيق بوحدته بعد فترة تطول أو تقصر· ولابد وأن يبحث لنفسه عن”آخر” يأتنس به ، ويتفاعل معه · ولا بأس بعد ذلك من عودته إلى قوقعته من جديد·
وحتى في بعض حالات المرض العقلي المتطرفة ، وحين يتعذر على “المريض “ ممارسة الاتصال المتبادل بالآخرين ، فإنه يصطنع – أو يتوهم- لنفسه آخرين يقيم معهم من العلاقات الاتصالية ما يبدو لنا غريبا وشاذا · خلاصة القول إذن أن الحاجة إلى الاتصال حاجة إنسانية ، شأنها شأن حاجة الإنسان للطعام والشراب والنوم وما إلى ذلك من حاجات أساسية ·
ولعلنا لا نجاوز الحقيقة إذن إذا ما سلمنا بأن الإنسان يمارس الاتصال منذ بداية الوجود البشرى· ولعلنا لا نجاوز الحقيقة كذلك إذا ما سلمنا أيضا بأن ممارسة الاتصال باعتباره حاجة إنسانية كان سابقا على توصل الإنسان لأبجديات اللغة كما نعرفها اليوم، ولكن ترى كيف كان ذلك؟·
لقد كانت أولى أشكال الاتصال البدائي تتمثل في استخدام الإنسان للتعبيرات الجسمية كوسيلة لنقل انفعالاته وأحاسيسه إلى الآخر · وقد شملت تلك التعبيرات الجسيمة أجزاء الجسد جميعا :العيون ، الأنف ، الشفتين ، الذراعين ، اليدين ، الأصابع، الكتفين ، حركة الجسد ككل ··· إلى آخره · ومازالت لغتنا اليومية المنطوقة بل والمكتوبة أيضا تحمل آثارا من تلك اللغة القديمة ، لغة التعبيرات الجسمية · ويكفى أن نتأمل تعبيرات مثل : “ أوليته ظهري”· “فتح له ذراعيه”· “شمخ بأنفه”· “ربت عليه”· “قلب شفتيه”· “تمايل طربا”· “هز كتفيه” ··· إلى آخره ·
ولو تركنا جانبا لغتنا المنطوقة والمكتوبة لوجدنا دليلا آخر على عمق جذور تلك اللغة القديمة إذا ما تأملنا أساليب الاتصال لدى الطفل قبل اكتسابه اللغة · إن الأطفال يشبعون حاجاتهم الاتصالية منذ البداية بذلك الاستخدام الماهر التلقائي لتعبيرات الجسد · والطريف أن الكبار - وخاصة الأمهات - يستعيدون فورا قدرتهم المرهفة القديمة على “ قراءة” تلك التعبيرات الجسمية الصادرة عن أطفالهم ، وترجمتها ، والرد عليها · الأم “ تقرأ” نظرات طفلها ، وهمهماته ، وحركات رأسه · بل إنها كثيرا ما تستطيع أن تميز بدقة بالغة بين بكاء العتاب ، وبكاء الخوف ، وبكاء الجوع ، وبكاء الرغبة في النوم ، أو الحاجة إلي تغيير الملابس ، أو الرغبة في أن تحمله على ذراعيها ··· إلي آخره · ولكن ما أن يبدأ الطفل في النمو واكتساب اللغة ، حتى يعزف شيئا فشيئا عن الاعتماد على تلك اللغة القديمة · وعادة ما يشجعه الكبار على ذلك سواء بالتعبير له عن فرحتهم به وهو ينطق كلماته الأولى ، أو بتوجيهه مباشرة إلى ضرورة استخدام اللغة المنطوقة وإلا كفوا عن استقبال رسائله : “قل ما تريد··· تكلم ··· عبر بالكلمات ··· كف عن استخدام الإشارات “·
ولو حاولنا أن نصنف تلك اللغة القديمة وفقا للتصنيفات التي تعرفها علوم الاتصال الحديثة، لوجدنا أنها نوع من أنواع الاتصال الشخصي ، أو بعبارة أخرى أكثر أصالة “الاتصال وجها لوجه “ · ولا يفوتنا في هذا المقام أن نشير إلى تعبيرنا العامي الدارج “عيني في عينك “ بمعنى واجهني مباشرة لأعرف مدى صدق ما تنطق به ·
خلاصة القول إذن أن الاتصال الشخصي ، أو الاتصال وجها لوجه ، هو أقدم أنواع الاتصال من حيث السياق التاريخي سواء على مستوى المجتمع، أو على مستوى الفرد · ولكن ، ترى ما الذي حتم ظهور نمط آخر من أنماط الاتصال هو “ الاتصال الجماهيري “، بل وسيادته شيئا فشيئا ؟ هل يرجع ذلك إلى مجرد حداثته أو كفاءته؟ قد يكون كل ذلك صحيحا، ولكنه غير كاف وحده للتفسير · لابد من حتم اجتماعي جعل من انتشار الاتصال الجماهيري ضرورة اجتماعية ·
لماذا نشأ الاتصال الجماهيري؟
إن الضرورة الاجتماعية التي حتمت ظهور وانتشار الاتصال الجماهيري تتمثل - فيما نرى - في ثلاثة عوامل متكاملة: زيادة أعداد البشر، واتساع المعمورة، وتبلور ظاهرة السلطة المركزية ·
1 - زيادة أعداد البشر
إن فعالية الاتصال الشخصي - بحكم طبيعته - ترتبط بصغر حجم الجماعة التي يتم في إطارها الاتصال ، وإذا ما تجاوز حجم جماعة الاتصال حدا معينا تحول نمط الاتصال إلى الشكل الأقرب للجماهيري، أو تفتتت الجماعة إلى جماعات اتصالية أصغر تمارس الاتصال الشخصي ، ولسنا بحاجة للإشارة التفصيلية إلى تجارب علم النفس الاجتماعي في هذا الصدد ، بل يكفى أن نشير إلى ما نشاهده في حياتنا اليومية مما يؤكد ذلك·
لو تصورنا مجموعة من الأفراد يتوافدون على مكان ما لحضور حفل أو اجتماع معين، أو لأية مناسبة اجتماعية أخرى · سوف نلاحظ أن أوائل الحاضرين عادة ما يتحادثون “معا” في موضوع أو آخر · ومع تزايد عدد المتوافدين يتسع نطاق “الحديث معا” · بعبارة أخرى يتسع نطاق ممارسة الاتصال الشخصي · فإذا تجاوز حجم الجماعة حداً معينا لاحظنا أحد أمرين: قد تنقسم الجماعة إلى مجموعات أصغر أو “ شلل” يتحادث أفراد كل شلة مع بعضهم البعض في موضوع أو آخر. أما إذا كان ثمة موضوع هام يجذب اهتمام أفراد الجماعة جميعا -وقد يكون هذا الموضوع هو السبب المعلن لاجتماعهم- فإنهم عند بلوغ حجم الجماعة حدا معينا يكفون عن “الحديث معا”، ويبدءون في الانتظام وفقا لقواعد اتصالية معينة: يستمعون لمحاضرة مثلا، أو لموسيقى، أو لغير ذلك.
وتشير نتائج بحوث علم النفس الاجتماعي إلي أنه يصعب جداً إقامة تفاعل شخصي مباشر بين أفراد جماعة يزيد عدد أفرادها عن خمسة عشر فردا ، وكلما قل العدد عن ذلك كلما كان التفاعل أفضل· وإذا ما صدق ذلك على جماعة لا يتجاوز عدد أفرادها العشرين ، فكيف بنا إذا ما كنا بصدد الآلاف بل والملايين من البشر؟ كان لابد إذن لكي يتحقق اتصال فعال بين هذه الجماهير الغفيرة ، دون أن تتفتت إلى جماعات صغرى معزولة عن بعضها البعض ، كان لابد من ظهور نمط جديد من أنماط الاتصال إلى جانب النمط الأصيل للاتصال الشخصي ·
2 - أتساع المعمورة
إن أعداد البشر لم تتزايد فحسب، ولكن المساحة المعمورة المأهولة بهم قد ترامت أطرافها وتباعدت. ولم يعد ممكنا والأمر كذلك أن تفي الأنماط التقليدية الأصيلة للاتصال وعلى رأسها الاتصال الشخصي بإشباع الحاجة الاتصالية للتفاعل بين قاطني هذه المساحات المترامية الأطراف ·
إن الاتصال الشخصي بحكم طبيعته يقتضى أن يتواجد أفراد جماعة الاتصال معا بحيث يتبادلون التأثير الاتصالي ، ومع التقدم التكنولوجي لوسائل الاتصال (البريد - الهاتف - الراديو - التليفزيون - الفاكس - التلكس ·· إلى آخره) أصبح الاتصال غير المباشر أكثر إغراءا حتى لو توافر القرب المكاني نسبيا. فالأيسر مثلا أن أتصل بجاري تليفونيا بدلا من زيارته وما قد تتكلفه تلك الزيارة من جهد ووقت لكلينا · والأيسر بطبيعة الحال أن أبعث بخطاب إلى صديق أو قريب يقيم في الطرف الآخر من نفس المدينة بدلا من أن أتكلف مشقة الانتقال إليه.
خلاصة القول أن التباعد المكاني، بالإضافة إلى التقدم التكنولوجي قد ساهما - فضلا عن التزايد السكاني - في تشكيل الضرورة الاجتماعية التي حتمت ظهور وانتشار الاتصال الجماهيري ·
[1] الأهالي 11 أغسطس 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق