الجمعة، 9 ديسمبر 2011

التفاؤل و التشاؤم و الثورية

التفاؤل و التشاؤم و الثورية
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
كنا في معسكر التعذيب في أوري ليمان أبو زعبل نساق صباحا إلي "العمل" و هو تعبير يشير في السجون إلي ممارسة تكسير الأحجار في الجبل و تبدآ الطوابير في التأهب للتحرك نحو الجبل بعد سماع صيحة "صابك عمل"
أذكر واحدا من الزملاء الذين كانوا يعملون قبل الاعتقال بمهنة التعليم. كان فنانا مرهفا، أميل للتفاؤل؛ لكنه كان يبحث عمن يؤكد له صحة تفاؤله و توقعه بأن الغمة لا بد منتهية، وكنت أراه أياما يستلقي إلي جواري بعد إغلاق أبواب العنبر مرتاحا هادئا أقرب للسكينة و التفاؤل، و في ليال أخري أراه حزينا مكتئبا متشائما؛ و اتضح لي أنه في ليالي تفاؤله و سكينته يكون قد التقي أثناء "العمل" بزميل متفائل نقل إليه أن ما نمر به هو ما يطلق عليه بلغة السجون "تكديرة"؛ و أن التكديرة لا تستمر إلا لفترة محدودة محددة سلفا، و أن تلك الفترة توشك أن تنتهي؛ فيعود صاحبنا ليقضي ليلته متفائلا بقرب انقشاع الغمة؛ أما في ليالي الحزن و الاكتئاب فقد كان صاحبنا يلتقي أثناء "العمل" بزميل شديد التشاؤم يؤكد له مستندا إلي وقائع يحفل بها تاريخ النازية و الفاشية أنه لا نهاية للتعذيب إلا حين يقرر النظام الفاشي الحاكم التخلص منا بالقتل، و أن ذلك القتل الجماعي ليس بالمهمة الصعبة، فما أيسر إطلاق الرصاص السجناء بزعم أنهم حاول التمرد أو الهرب، فيعود صاحينا و قد ملأه الغم موقنا أن نهايته وشيكة.
كانت تلك الأحاديث الليلية الهامسة المتشائمة ترهقني كثيرا، فالتشاؤم يشبه الأمراض المعدية. و فكرت في انتهاز فرصة خلال "العمل" لحل هذا الإشكال المرهق، و تصادف جلوسي يوما في دائرة تكسير الأحجار بين الزميلين "المتشائم" و "المتفائل" لأدير حوارا هامسا بينهما. و نجح "المتشائم" في إفحام "المتفائل" و تفنيد حججه، مما دفع بالأخير إلي القول بأنه حتى إذا كانت النهاية مأساوية بالفعل – و هو مجرد احتمال- و أنه لا سبيل البتة لتلافيها، فما الذي يمنع من إتاحة الفرصة لزميل بائس أن يتعلق بأذيال الأمل ليقضي ليلة هادئة، و ساق عدة أبيات من الشعر لشاعر قديم ما زالت عالقة بذاكرتي:
مني إن تكن حقا تكن أحسن المني * * * و إلا فقد عشنا بها زمانا رغدا
و ظل المتشائمون علي تشاؤمهم و كذلك المتفائلون، و إن كان ثمة ملاحظة ينبغي الالتفات إليها و هي أن تشاؤم المتشائمين لم يكن يتجاوز مستقبلهم الشخصي بمعني أنهم يتوقعون أن يقدم "الفاشيست" علي قتلهم، أو أن يظلوا قيد السجن إلي نهاية حياتهم، و لكن ذلك التشاؤم لم يمتد أبدا إلي جوهر القضية؛ فالاشتراكية منتصرة حتما في النهاية طال الزمن أو قصر. سواء كانوا أحياء أو قضوا تحت سياط التعذيب. و كانت تلك الظاهرة تكاد تشمل كافة الساعين للتغيير الاجتماعي السياسي إيا كانت توجهاتهم.
و قد شغلني طويلا و ما زال موضوع العلاقة بين التشاؤم و الثورية. تري هل صحيح أن المتفائل يعجز عن رؤية السلبيات، و بالتالي ينصرف عن محاولة التغيير؟ هل صحيح أن التغيير الثوري الحقيقي لا يمكن أن يصدر إلا عن جماعة مغرقة التشاؤم لا تري إلا ما هو سلبي؟
كتبت يوما عن هذا المعني مشيرا إلي أن حوارنا اليومي مكتوبا أو منطوقا يفيض بنغمة متشائمة لا تخطئها عين و لا أذن، بحيث أصبحت تلك النغمة المتشائمة تكاد تكون بمثابة جواز المرور لبداية أية مناقشة بيننا و بين بعضنا بل حتى بيننا و بين أنفسنا، و كثيرا ما أري التشكك في عيون العديد من الأصدقاء و الأبناء حين يشمون رائحة التفاؤل فيما أكتب أو أقول، فإذا ما صرحت لهم بما يؤكد شكوكهم تحولوا إلي التعجب و التساؤل و الاندهاش بل و الاستنكار: ألا يقلقك ما يجري؟ هل أنت راض عن واقعنا إذن؟
و أجد نفسي أؤكد أنني قلق بل و غاضب كأشد ما يكون القلق و الغضب، و لكن ما أعنيه بالتفاؤل شيء آخر بعيد تماما عن الرضا بالواقع. القلق الصحي كما تعلمنا في علم النفس شرط أساسي من شروط استمرار الحياة، و الوعي بسلبيات الواقع هو الشرط الأساسي لبزوغ و نمو الرغبة في التغيير، و بدون توافر هذين الشرطين تنعدم الحياة حقيقة لا مجازا. أما التفاؤل فإنه يعني اليقين بأن التغيير للأفضل ممكن و سيظل ممكنا، و أن الواقع الراهن مهما بدا مظلما فثمة نقاط مضيئة علينا أن نبحث عنها و ننميها، و أن الثمن المطلوب للتغيير مهما بدا مؤلما فإنه يهون بقدر إيجابية المستقبل المستهدف. يصدق ذلك علي المستوي الفردي كما يصدق علي المستوي السياسي. إن أخطر ما يمكن أن يهدد العمل السياسي هو تسلل عبارة "مفيش فايدة". و لنأخذ نموذجا من بعض ما يجري حولنا و في بلادنا.
ليس من شك في أننا عانينا طويلا و ما زلنا نعاني معاناة حقيقية من القيود المفروضة علي حرية تكوين الأحزاب، و حريات التعبير عن الرأي، و حريات الاحتجاج العلني علي العديد من الممارسات السلبية و علي رأسها التعذيب. ليست تلك القيود بالأمور المستجدة بالنسبة لنا أو لغيرنا، و لم يتوقف نضال الشعوب عبر التاريخ من أجل الحرية. و لننظر إلي النتائج: أين ذهب جلادو الأمس؟ و ما ذا كان مصير نخاسة العبيد و محاكم التفتيش و المكارثية و النازية. لقد طواهم التاريخ جميعا و دفعت الشعوب ثمنا باهظا في سبيل ذلك، و ليس من المتصور أن يختلف مسار اليوم عن مسار الأمس. إن انتهاكات الحرية لم تتلاشى، و لكن نضال الشعوب لم يذهب هباء.
و مظاهر المعاناة حولنا لا حصر لها، من الفساد، إلي الاستبداد، إلي مجازر العراق، و مآسي فلسطين، كل ذلك يدعو للألم و للغضب و للرفض، و لكنه لا يمكن أن يكون مبررا للتشاؤم، فالتشاؤم بوابة الاستسلام لكل شرور الظلم و الفساد، في حين أن التفاؤل هو المدخل الأساسي للتغلب علي كل الشرور، و لننظر إلي التاريخ.
لقد ساد التشاؤم و الظلام بلادنا بعد نكبة 1948، و رأي الفلسطينيون بعيونهم العدوان الصهيوني يلتهم أرضهم الفلسطينية، و لكن لم تلبث أن ظهرت مجموعة متفائلة من الشبان الفلسطينيين علي رأسهم أبو عمار لم يتملكهم اليأس و التشاؤم و أيقنوا أن القضاء علي الظلم ممكن، فكانت البداية المتواضعة لعمليات فتح الفدائية مع نهاية آخر ليالي ديسمبر عام 1964 وبزوغ فجر الأول من يناير 1965. و جاءت هزيمة يونيو 1967. و مع الهزيمة امتد العدوان الصهيوني ليلتهم ضمن ما التهم ما تبقي من فلسطين، و انتشرت النكات و الشعارات تروج لفكرة ألا فائدة ترجي من أي شيء، و لكن لم يهتز تفاؤل المقاومين الفلسطينيين بل ازداد تفاؤلهم و ازداد يقينهم بحقيقة أن للظلم نهاية لا بد و أن يصنعها المظلومون، فكانت معركة الكرامة مارس 1968 و توالت الأحداث و ما زالت. صراع مستمر بين ثقافة المقاومة و ثقافة الاستسلام. و هكذا كان شأننا في مصر أيضا لم نستسلم للتشاؤم إلي أن صنعنا النصر عام 1973. و هكذا كان و سيظل شأن الشعوب المقهورة عبر التاريخ.
التفاؤل إذن سمة المقاومين. هكذا يعلمنا التاريخ، و علم النفس أيضا. أما اليأس و التشاؤم فلا يفرز سوي الاستسلام إما بالصمت و الهروب خوفا، أو بالإرهاب و الانتحار يأسا. و لعل ذلك هو الخيط النفسي الرفيع بين العمل الفدائي و العمل الإرهابي.

جريدة الأهالي 26 أغسطس 2009

الدعوة للتشاؤم لا تعني سوي الاستسلام

الدعوة للتشاؤم لا تعني سوي الاستسلام
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
انتهي عام 2007، و هل علينا عام 2008، و توالت الكتابات و تسابق الإعلاميون المصريون في قنوات التلفزيون العربية و المصرية و صحف "القطاع الخاص" و العديد من كتاب صحف "القطاع العام" فيما يكاد يكون مباراة في الندب القومي يزايد فيها كل علي الآخر في إبراز المصائب و الكوارث التي حلت بمصر تحديدا خلال العام المنصرم و كيف أن العام القادم سوف يكون أشد قتامة و سوادا، و أنه لا توجد بارقة أمل في نهاية النفق.
و قد عدت بذاكرتي إلي ما سمعنا و رأينا في بدايات الأعوام السابقة فوجدت أنه لم يختلف كثيرا و لا حتي قليلا: انتقاء الأحداث الأكثر مأساوية، و التوقعات الأشد تشاؤما، و الميل إلي إغفال أية نقاط ضوء أو إنجازات، و إذا لم يكن بد من إشارة تفرض نفسها هنا أو هناك لإنجاز ما فلا بد من إلحاقها بتأكيد أن ذلك الذي قد يبدو لبعض السذج إنجازا ليس في حقيقته سوي شرك شرير، أو تمويه محكم، أو تراجع مؤقت، و الجميع يؤكد بيقين لا يتزعزع أن الانهيار قادم لا محالة، و أن الفوضي علي الأبواب، و ليس من فائدة ترجي من أي شيء: لا أمل في إصلاح ما هو قائم، و لا إمكانية لتغييره، و لا أمل يرجى في للتجمعات السياسية القائمة سواء كانت محظورة أو قانونية أو تحت التأسيس أو حتى تحت الأرض، و لا أمل في أية قوي خارجية سواء كان مصدرها بن لادن أو جورج بوش الصغير أو الكبير. الطريق مغلق أمام الجميع دون استثناء. لا مستقبل للنضال المسلح و لا للإرهاب و لا للحلول السلمية أو التفاوض، و لا سبيل لمقاومة الفساد المستشري، و يصبح مضمون الرسالة الإعلامية في النهاية: لا أمل و لا مهرب.
و إذا ما تساءلت: تري و ماذا بعد؟ لم تخرج سوي يزفرة حارة أو تنهيدة عميقة، فإذا ما تجرأت فألمحت و لو من بعيد إلي أنه قد يحتمل –مجرد احتمال- أن يكون هناك أمل و لو بعيد حتى و إن لم يطل بنا العمر لنشهد تحقيقه، تحولت الزفرات و التنهدات إلي نظرات تتراوح بين الشك في قوي المتحدث العقلية و التشكيك في نواياه و انتماءاته السياسية؛ فإذا ما تجاوزت عن ذلك و ألححت في السؤال كانت الإجابة في النهاية قائمة من الينبغيات الموجهة للحكومة و ليس للجماهير، مع تذكيرك بأن السلطة لن تنفذ تلك الروشتة.
ليس من سبيل لدي هؤلاء لتجاوز السلبيات اعتمادا علي إنجازات حققها النضال السياسي الجماهيري تمثلت في تمكن الجماهير المصرية بالفعل من انتزاع المزيد من حقوقها في التظاهر و الاحتجاج العلني، و إقدام بعض الفئات العمالية بل و الموظفين علي ممارسة حق الإضراب بعد أن كفله قانون العمل، و استجابة السلطة - رغم عنادها التقليدي- للضغوط المدنية في مجالات كان مجرد الاقتراب منها يبدو في حكم المستحيل مثل التفاوض علنا مع المضربين و المعتصمين، و حق الأم المصرية المتزوجة من أجنبي في نقل جنسيتها المصرية لأبنائها، و إدخال تعديلات بشأن ضوابط بناء الكنائس، و احتفال الدولة علنا بعيد الميلاد المجيد، و اعتبار أن جرائم التعذيب لا تسقط بالتقادم.
خلاصة القول
لقد أصبح الأمل مجرد الأمل في نظر الكثيرين يبدو معادلا للتسليم بكل ما يحمله الواقع من سلبيات، و أصبح الإمعان في التشاؤم دليلا علي الثورية و رفض السلبيات، و نسي هؤلاء أو لعلهم تناسوا حقيقة أن ما يجمع بين عبدالناصر و لينين و حسن البنا و سعد زغلول و كمال أتاتورك و ياسر عرفات و غاندي و السادات وجيفارا و أمثالهم، أنهم أدركوا سلبيات الواقع من وجهة نظرهم، و كانوا في نفس الوقت علي يقين من إمكانية تغييره. لقد كانوا متفائلين، و لذلك فقد تمكنوا من الإسهام في تغيير دفة التاريخ بصرف النظر عن رؤيتنا لمدي صواب حركتهم.
التفاؤل كما تؤكده دراسات علم النفس السياسي، بعيد تماما عن مجرد القناعة والرضا بالواقع، إنه نظرة للمستقبل تقوم علي اليقين بأن التغيير للأفضل ممكن و سيظل ممكنا، و أن الواقع الراهن مهما بدا مظلما فثمة نقاط مضيئة علينا أن نبحث عنها و ننميها، و أن الثمن المطلوب للتغيير مهما بدا مؤلما فإنه يهون بقدر إيجابية المستقبل المستهدف.
انتشار مرض الإيدز كارثة و لكن تطور أساليب مقاومته و الوقاية منه حقيقة, زلزال آسيا كارثة إنسانية مروعة و لكن تكاتف دول العالم في جهود الإنقاذ الإنسانية حقيقة كذلك, الاحتلال الإسرائيلي و ممارساته البشعة حيال الشعب الفلسطيني مأساة و لكن استمرار الصمود و انفتاح خيارات أساليب المقاومة أمام القوي الوطنية الفلسطينية حقيقة, وجود قاعدة العيديد في قطر كمركز قيادة لقوات الاحتلال الأمريكي في العراق مصيبة ولكن استمرار المقاومة بكافة أشكالها في العراق حقيقة. القيود المفروضة علي الحرية و الليبرالية في عالمنا العربي خطر حقيقي و لكن ما نشهده في مصر تحديدا من اتساع مساحة الاحتجاج المدني و تنوع أساليبه يمثل حقيقة مصرية و أملا عربيا, و المقام لا يتسع للمزيد.
إن دعوة الجمهور للتشاؤم لا تعني سوي دعوته للاستسلام. للهرب. للانتحار. للإرهاب.

جريدة البديل 8 يناير 2008

صناع المستقبل لا يعرفون التشاؤم

الخوف من التفاؤل
قدري حفني

يفيض حوارنا اليومي مكتوبا أو منطوقا بنغمة متشائمة لا تخطئها عين و لا أذن, بحيث أصبحت تلك النغمة المتشائمة تكاد تكون بمثابة جواز المرور لبداية أية مناقشة بيننا و بين بعضنا بل حتى بيننا و بين أنفسنا, و كثيرا ما أري التشكك في عيون العديد من الأصدقاء و الأبناء حين "يكتشفون" أنني متفائل, فإذا ما صرحت لهم بما يؤكد شكوكهم تحولوا إلي التعجب و التساؤل و الاندهاش بل و الاستنكار: ألا يقلقك ما يجري؟ هل أنت راض عن واقعنا إذن؟
و أجد نفسي أؤكد أنني قلق بل و غاضب كأشد ما يكون القلق و الغضب, و لكن ما أعنيه بالتفاؤل شيء آخر بعيد تماما عن الرضا بالواقع. القلق الصحي كما تعلمنا في علم النفس شرط أساسي من شروط استمرار الحياة, و الوعي بسلبيات الواقع هو الشرط الأساسي لبزوغ و نمو الرغبة في التغيير, و بدون توافر هذين الشرطين تنعدم الحياة حقيقة لا مجازا. أما التفاؤل فإنه يعني اليقين بأن التغيير للأفضل ممكن و سيظل ممكنا, و أن الواقع الراهن مهما بدا مظلما فثمة نقاط مضيئة علينا أن نبحث عنها و ننميها, و أن الثمن المطلوب للتغيير مهما بدا مؤلما فإنه يهون بقدر إيجابية المستقبل المستهدف. يصدق ذلك علي المستوي الفردي كما يصدق علي المستوي السياسي. إن أخطر ما يمكن أن يهدد العمل السياسي هو تسلل عبارة "مفيش فايدة". و لنأخذ نموذجا من بعض ما يجري حولنا و في بلادنا.
ليس من شك في أننا عانينا طويلا و ما زلنا نعاني معاناة حقيقية من القيود المفروضة علي حرية تكوين الأحزاب, و حريات التعبير عن الرأي، و حريات الاحتجاج العلني علي العديد من الممارسات السلبية و علي رأسها التعذيب. ليست تلك القيود بالأمور المستجدة بالنسبة لنا أو لغيرنا, و لم يتوقف نضال الشعوب عبر التاريخ من أجل الحرية. و لننظر إلي النتائج: أين ذهب جلادو الأمس؟ و ما ذا كان مصير نخاسة العبيد و محاكم التفتيش و المكارثية و النازية. لقد طواهم التاريخ جميعا و دفعت الشعوب ثمنا باهظا في سبيل ذلك, و ليس من المتصور أن يختلف مسار اليوم عن مسار الأمس. إن انتهاكات الحرية لم تتلاشى, و لكن نضال الشعوب لم يذهب هباء.
و مظاهر المعاناة حولنا لا حصر لها, من الفساد, إلي الاستبداد, إلي مجازر الفلوجة و قبلها النجف و بعدها الموصل, إلي ما يجري في فلسطين, كل ذلك يدعو للألم و للغضب و للرفض, و لكنه لا يمكن أن يكون مبررا للتشاؤم, فالتشاؤم بوابة الاستسلام لكل شرور الظلم و الفساد, في حين أن التفاؤل هو المدخل الأساسي للتغلب علي كل الشرور, و لننظر إلي التاريخ.
لقد ساد التشاؤم و الظلام بلادنا بعد نكبة 1948, و رأي الفلسطينيون بعيونهم العدوان الصهيوني يلتهم أرضهم الفلسطينية, و لكن لم تلبث أن ظهرت مجموعة متفائلة من الشبان الفلسطينيين علي رأسهم أبو عمار لم يتملكهم اليأس و التشاؤم و أيقنوا أن القضاء علي الظلم ممكن, فكانت البداية المتواضعة لعمليات فتح الفدائية مع نهاية آخر ليالي ديسمبر عام 1964 وبزوغ فجر الأول من يناير 1965. و جاءت هزيمة يونيو 1967. و مع الهزيمة امتد العدوان الصهيوني ليلتهم ضمن ما التهم ما تبقي من فلسطين, و انتشرت النكات و الشعارات تروج لفكرة ألا فائدة ترجي من أي شيء, و لكن لم يهتز تفاؤل المقاومين الفلسطينيين بل ازداد تفاؤلهم و ازداد يقينهم بحقيقة أن للظلم نهاية لا بد و أن يصنعها المظلومون, فكانت معركة الكرامة مارس 1968 و توالت الأحداث و ما زالت. صراع مستمر بين ثقافة المقاومة و ثقافة الاستسلام. و هكذا كان شأننا في مصر أيضا لم نستسلم للتشاؤم إلي أن صنعنا النصر عام 1973. و هكذا كان و سيظل شأن الشعوب المقهورة عبر التاريخ.
التفاؤل إذن سمة المقاومين. هكذا يعلمنا التاريخ, و علم النفس أيضا. أما اليأس و التشاؤم فلا يفرز سوي الاستسلام إما بالصمت و الهروب خوفا, أو بالإرهاب و الانتحار يأسا. و لعل ذلك هو الخيط النفسي الرفيع بين العمل الفدائي و العمل الإرهابي.
إن الظلم و الفساد ظواهر قديمة قدم البشرية ومن ثم فقد شكلت إفرازها الثقافي المتمثل في "ثقافة الاستسلام " في مقابل "ثقافة المقاومة", و لا يخلو تاريخ جماعة بشرية من تصارع هاتين الثقافتين و إن كانت إحداها تشكل الطابع السائد في الفترة التاريخية المحددة.
لقد توافر لدعاة ثقافة الاستسلام ما لم يتوافر لدعاة ثقافة المقاومة من ثراء يكفل لهم تجنيد الكوادر الأكثر خبرة و تدريبا في مجال الإعلام و الحرب النفسية. و بفضل هؤلاء الخبراء المحترفين تطور شكل و مضمون ثقافة الاستسلام. لم يعد هناك مكان لتلك العبارات الساذجة القديمة التي تدعو بفجاجة إلي إيثار السلامة, و من ناحية أخري, لم يعد ممكنا إخفاء بشاعة ما يجري هنا و هناك من ظلم و فساد و استبداد. و أصبح علي خبراء ثقافة الاستسلام البحث عن حل متطور يكفل ترسيخا أعمق لثقافة الاستسلام, متحاشيا إخفاء بشاعة ما يجري, و يكفل في نفس الوقت "تسويق" تلك الثقافة لدي قطاعات أكبر من الجماهير المتعطشة للمعرفة و للعدل.
و كان الحل متمثلا في رفع أشد الشعارات ثورية, و عرض أبشع صور الظلم و الفساد و التدمير و الاستبداد, و تضخيم بشاعة تلك الصور, بل و اختلاق بعض الوقائع اختلاقا, و من ناحية أخري انتقاء أشد صور الإرهاب إثارة للنفور و الاشمئزاز و عرضها باعتبارها النماذج المثلي لمقاومة الظلم. و من خلال هذا التضخيم علي الجانبين ينغلق الطريق أمام أي بارقة للأمل, بل و يصبح أي حديث عن أمل مرتقب و ممكن, أو أي تلميح لإمكانية تخطي الواقع, غاية غير واقعية تحيطها الشبهات, بل جريمة لا تغتفر, و اتجاها معاكسا ينبغي سحقه و تدميره و السخرية منه, و جعله أضحوكة. و من ثم تعلو و تسود نغمة التشاؤم لينفتح باب الاستسلام علي مصراعيه. الاستسلام لكل الشرور من فساد و غزو و ظلم. الاستسلام بالصمت و الهروب خوفا أو الاستسلام بالإرهاب و الانتحار يأسا.


المصري اليوم, 30 نوفمبر 2004

الثلاثاء، 6 ديسمبر 2011

التعذيب و ثقافة المجتمع

التعذيب و ثقافة المجتمع
د. قدري حفني
مقدمة
قبل أن أمسك بالقلم، تساءلت: تري أنلتقي تحت مظلة الدفاع عن حقوق الإنسان لنجدد إدانتنا لجرائم التعذيب فحسب؟ و بدا لي –رغم ضرورة و أهمية بل و قدسية تلك الإدانة- أنني لا أستطيع أن أقدم جديدا، فأمامي العديد من المواثيق الدولية و الإقليمية و الوطنية و الدينية التي تجرم التعذيب، و أمامي آلاف الصفحات التي تسجل جرائم التعذيب، و شهادات الضحايا، و محاولات الجلادين التبرؤ مما اقترفوه، و محاولات من أصدروا الأوامر التنصل من مشاركتهم في تلك الجرائم. تري أي جديد أستطيع أن أقدمه بعد ذلك كله؟ و كدت أتوقف لولا أن خطر لي أمران:
الأمرالأول أنني شخصيا كنت يوما –بل أياما- واحدا من ضحايا التعذيب، و لعل "شهادة من الداخل" رغم أنها شهادة مجروحة، قد تكون ذات معني في مثل هذا اللقاء.
و الأمر الثاني أنني من واقع تخصصي في علم النفس السياسي، و استغراقي في قضايا الصراع العربي الاسرائيلي و توابعه من صراع عربي عربي و فلسطيني فلسطيني، استوقفتني ظاهرة فريدة تمثلت في انتقال التعذيب من الأقبية المظلمة، و الزنزانات الرطبة، و محاولات التخفي خلف الأسوار العالية، و السعي الحثيث إلي إنكار اقتراف تلك الجرائم بل استنكارها و التبرؤ منها، إلي تعذيب أشد بشاعة يحرص مرتكبوه علي اقتراف جرائمهم في وضح النهار، و عوضا عن تسجيلها رغما عنهم تلصصا، و تسريبها خلسة، يقوم الجلادون أنفسهم بتسجيل ما ارتكبوه و إذاعته علنا لمن لم تتح لهم مشاهدته، متفاخرين بما اقترفوه باعتباره بطولات تنم عن مدي تمسكهم بالمبادئ الأخلاقية و الوطنية بل و الدينية الرفيعة.
استوقفني كذلك نوع منتشر من التعذيب "الخاص". تعذيب يمارسه من يقدرون عليه حيال من يستطيعون تعذيبهم من خدم و أطفال و نساء و منافسين إلي آخر قائمة طويلة من المستهدفين، و لا يجد مقترفوا هذا النوع من التعذيب أية غضاضة في الاعتراف بما يقترفونه لخلصائهم باعتباره لا يعدو أن يكون تأديبا أو تقويما بل ولا يجدون غضاضة في اعتبار القوانين التي تدين هذا النوع من التعذيب تدخلا في الخصوصيات بل و قد يعتبرونها دعوة للانحلال و التسيب و خروجا علي صحيح الدين.
إنها أنواع من "التعذيب الجماهيري" إذا ما صح مثل هذا التعبير. تعذيب تم إعداد الجماهير للحفاوة به و التشجيع عليه بل و ممارسته ما استطاعوا إلي ذلك سبيلا، و أظنه الأشد خطورة و الأكثر تدميرا إذا ما قورن بذلك "التعذيب الحكومي" التقليدي الذي ألفناه رغم أن "السلطة" بمعناها الواسع تعد عاملا مشتركا في أنواع التعذيب جميعا باعتبار أن الجلاد إيا كانت صفته يعد ممثلا لسلطة ما بالنسبة للضحية.
التعذيب الحكومي: خبرة ذاتية
كانت أذهان أبناء جيلي تنصرف عادة عند الحديث عن التعذيب إلي قيام ممثلي النظام الحاكم بتعذيب المعتقلين السياسيين من الإخوان المسلمين و الشيوعيين، و كانت ردود أنصار النظام آنذاك تتراوح بين الإنكار التام لوقوع شيء من هذا القبيل، أو التقليل من حجمه و اعتباره من قبيل التجاوزات الاستثنائية، أو التماس الأعذار لمن يقدمون عليه مضطرين لحماية "أمن الوطن" أو "صحيح الدين".
و قد كان مستحيلا آنذاك اللجوء إلي القضاء للنظر في جرائم التعذيب باعتبارها –أي تلك الجرائم- من أعمال السيادة، إلي أن تضمن الدستور الحالي نصا يقضي باعتبار "كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور والقانون جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم،وتكفل الدولة تعويضا عادلا لمن وقع عليه الاعتداء. ( مادة 57 )
لقد تنقلت بين معتقلات القلعة و أوردي ليمان أبو زعبل و الفيوم و السجن الحربي، حيث تعددت ألوان التعذيب الفردي و الجماعي بين الضرب و الجلد و تكسير الحجارة إلي التجويع و العزل و التهديد فضلا عن الإهانات اللفظية، و ظل الحرمان من الزيارات مستمرا في كل الأحوال.
لقد كتب عن ذلك الكثيرون و ليس لدي مزيد من التفاصيل التي يمكن إضافتها. ما يعنيني في هذا المقام الإشارة إلي أن التعذيب في تلك المعسكرات خاصة في أوردي ليمان أبو زعبل كان أشبه بالتعذيب الذي كنت قد قرأت عنه في معسكرات هتلر النازية فيما عدا أفران الغاز الشهيرة. كان تعذيبا لا يستهدف الحصول علي اعترافات أو معلومات، بل مجرد سحق شخصية الضحية. يجري وفق خطة مبرمجة تحول بين الضحية و أية توقعات بحيث لا يعرف تحديدا متي ستكون الضربة القادمة و لا علي أي جزء من جسده ستقع و لا ما هو مبررها المباشر. انعدام التوقعات و من ثم انعدام المعني. عملية مبرمجة مخططة كما لو كنا حيال تجربة معملية لخلق حالة متطرفة من حالات "الاغتراب"، و قد انهار البعض بالفعل و سقطوا في هوة الاضطراب العقلي الصريح.
كان النظام في الأوردي شأن بقية معسكرات التعذيب يقضي بحظر تبادل الحديث بين المعتقلين و بعضهم البعض خاصة بعد إغلاق العنابر عليهم مع نهاية “العمل" وهو التعبير الرسمي عن القيام بتكسير البازلت في الجبل، و اعتاد الجميع الحديث همسا، فإذا ما ارتفع الهمس و لو قليلا، كانت صيحة الحارس "امنع الغاغة " تعد نذيرا بأن عقابا جماعيا إضافيا يتهدد نزلاء هذا العنبر في الصباح، و رغم ذلك فقد ظل التواصل الهامس مستمرا حتى خلال "العمل".
لا خصوصية في السجون و معسكرات التعذيب، و إذا كان انتهاك الخصوصية يعد جريمة يعاقب عليها القانون فإن انتفاء تلك الخصوصية بالنسبة لنزلاء السجون و المعتقلات تصبح هي القاعدة التي تعرض من يخرج عليها بعقاب إضافي. في معسكر التعذيب يكون المرء مرئيا طوال الليل و النهار، و لعلي لم أحس بصدق المقولة الوجودية الشهيرة "الجحيم في عيون الآخين" قدر ما أحسست بصدقها في تلك الأيام. ثمة عيون ترقبك دائما. لا تتلصص و لا تتخفي بل تمارس "حقها" في اقتحامك جهارا نهارا آناء الليل و أطراف النهار. حتي حين يغلق عليك باب "العنبر" فإن ثمة ثقب بالباب تغطيه من الخارج "سقاطة" معدنية متحركة تتيح للحارس الجلاد أن يرفعها وقت يشاء ليطل علي ضحاياه. إنها "العين ذات الجفن المعدنية" . و لا يعد السجن "الانفرادي" خروجا علي هذه القاعدة، فالسجين في هذه الحالة لا يكون منفردا رغم أنه يكون معزولا عن الجماعة؛ فالجلاد المراقب معه دائما و بتركيز أكبر، فليس ثمة ما يشغله سواه. الفارق هو عزلة السجين عن رفاقه. إن إطلاق تعبير "التأديب" علي زنازين السجن الانفرادي ليس مصادفة. إنه أحد الأساليب المفضلة لدي الجلادين لتأديب الضحية بحرمانه من الإئتناس بجماعة الانتماء حتي خلال خضوع تلك الجماعة للتعذيب الجماعي، و يزداد التأثير بطبيعة الحال إذا ما كان السجن الانفرادي مصحوبا بتعذيب انفرادي أيضا حيث يفتقد الضحية الاحساس بأن ثمة من يشاركونه العذاب مما قد يزيد من تحمله من خلال ثقافة جماعية يتساند من خلالها الضحايا. و لقد مررت بخبرة الحبس الانفرادي أكثر من مرة.
أما عن الجلادين، لقد شهدت معسكرات التعذيب المصرية ما عرف بين المعتقلين باسم "فرقة اللواء همت" التي كانت تضم جنودا و ضباطا و صف ضباط من العاملين في السجون يتخصصون في التعذيب الجماعي أو ما يطلق عليه تعبير "التكديرة". سمعت ممن سبقوني إلي الأوردي و بالتالي كانوا أول من استقبلتهم فرقة اللواء همت أن الجلادين قد انهالوا عليهم بالعصي و هم يصرخون طالبين منهم سب آل البيت، مكررين آخر خبرة لهم و كانت تعذيب المعتقلين من الإخوان المسلمين؛ و حين صرخ فيهم قائدهم منبها "دول شيوعيين كفرة" تحولت الصرخات فورا إلي "قولوا لا إله إلا الله يا كفرة". إنهم لم يتلقوا أي نوع من التهيئة الفكرية كما هو الحال مثلا بالنسبة للجلادين في الدول العقائدية، كل ما تلقوه تدريب متقن علي التفاني في الطاعة، و تنفيذ الأوامر فورا دون تفكير.
القبول الجماهيري للتعذيب
لعله من الملفت و إن كان مفهوما أن كافة ممارسات التعذيب مهما كانت بشاعتها تتم تحت غطاء فكري بالغ الجاذبية و الرقي بل انها تتم في كثير من الأحيان مغلفة بغلاف ديني أو وطني. و تعد عملية التغليف هذه أمرا لا غني عنه لتحقيق عدد من الأهداف علي رأسها ضمان الحد الأدني المطلوب من حماس الجلادين لممارسة فظائعهم فضلا عن محاولة كسب رأي عام مساند لتلك الجرائم، و هو ما حدث بالفعل في أحيان كثيرة حيث كان التعذيب فى نظر الجماهير في العصور الوسطي يبدو أمراً "عادياً" وكان يطلقون عليه تسمية أنيقة هي "الاستجواب القضائي". وقد أحتاج الأمر دهورا طويلة نزلت خلالها رسالات من السماء واندلعت ثورات على الأرض ونشبت حروب ضروس وأقيمت حضارات وإمبراطوريات كبري و اندثرت أخري ، احتاج الأمر كل ذلك من أجل إقرار حقوق الإنسان وحرياته ، ومن ضمنها حقه فى احترام كرامته الإنسانية وسلامة جسده وقواه العقلية والنفسية، و رغم ذلك فما زلنا نشهد –كما أشرنا- الكثير من مظاهر التعبير عن حفاوة بل و "سعادة" الجماهير بمشاهدة أو بمعرفة حجم العذاب الذي لحق بالخونة و بالمعارضين المارقين.
و لعله من الملفت للنظر أنه لا محل في القانون لتجريم ذلك الاستمتاع و تلك السعادة بمشاهدة وقائع التعذيب و القتل، رغم أنها فيما نري تعد الظاهرة الأولي بالاهتمام، بل و التجريم؛ فانتشار ممارسة التعذيب لا يمكن أن يتراجع بشكل أساسي إلا إذا أصبح سلوكا مرفوضا بحق و بعمق و بدون استثناء من القطاع الغالب من أبناء المجتمع. و لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بتجفيف منابع ذلك القبول الدفين أو المعلن لممارسة التعذيب بكشف زيف الشعارات و المبررات الدينية أو الوطنية أو الاجتماعية لتعذيب الآخرين مهما كانت جرائمهم الوطنية أو الأخلاقية أو الدينية. إن عملية إعداد و تهيئة الجماهير للقبول بممارسة التعذيب إنما تستند إلي ثقافة تقوم علي ركنين: تقديس العنف، و تقديس الطاعة، و لا سبيل لمواجهة حقيقية و فعالة لهذه الجريمة دون محاولة القضاء علي جذورها، و خلخلة أركانها، و هي ليست بالمحاولة السهلة.
صناعة تقديس العنف
يعد التعذيب نمطا خاصا من أنماط العنف، و يستعمل تعبير "التعذيب" عادة لوصف اي عملية تنزل آلاما جسدية او نفسية بإنسان ما وبصورة متعمدة و منظمة كوسيلة لإستخراج معلومات او الحصول على إعتراف او لغرض التخويف والترعيب او كشكل من اشكال العقوبة او وسيلة للسيطرة على مجموعة معينة تشكل خطرا على السلطة المركزية. ويستعمل التعذيب في كثير من الأحيان لفرض مجموعة من القيم و المعتقدات التي تعتبرها الجهة القائمة بالتعذيب قيما أخلاقية، و تشير المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب إلي أن التعذيب هو "الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أيا كان نوعه، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية".
نخلص من ذلك إلي أن غالبية أنواع العنف و منها ممارسة التعذيب تعد من أنواع السلوك المكتسب، و من ثم فإنه لا يمكن التنبؤ باستعداد الفرد لممارسة التعذيب إلا في حدود ضيقة لا تتعدي اكتشاف المصابين بمرض السادية sadism ، و علي أي حال فإن هؤلاء المرضي لا يمثلون سوي نسبة ضئيلة جدا من السكان و ممن يمارسون التعذيب أيضا.
إن اكتساب الفرد للقدرة علي ممارسة التعذيب تتم من خلال عملية تدريب اجتماعي يغرس قيمة تقديس العنف بتأكيد أن الشخص القوي مرهوب الجانب القادر علي إلحاق الأذي بالآخرين هو الشخص "المحترم" في مقابل أن الشخص الهادئ المسالم الذي يلتزم بالقانون و يلجأ إليه للشكوي و رد الاعتداء شخص ضعيف لا يستحق الاحترام. و لكن يبقي سؤال: لماذا تجد ثقافة العنف دعما و تشجيعا لا تجده ثقافة السلام و الاحتكام للقانون و إدانة التعذيب؟
تؤكد دراسات علم النفس الإعلامي أن رواج سلعة معينة لا يتوقف علي مجرد الإعلان عن وجودها و عرض مزاياها بل أن الرواج الأمثل إنما يتحقق بقيام ثقافة مساندة للسلعة تضمن لها دوام و تصاعد الطلب عليها. و يتطلب خلق مثل تلك الثقافة تشكيلا لخريطة الوعي بما تتضمنه من معايير و قيم و اتجاهات بحيث يصبح الطلب علي تلك السلعة جزءا لا يتجزأ من نسيج تلك الثقافة. يصدق ذلك علي صناعة السياحة بقدر صدقه علي صناعة السينما و السجائر و جراحات التجميل و كذلك الأسلحة.
و لعلنا لا نضيف جديدا إذا ما ذكرنا أن صناعة السلاح تعد من أضخم مجالات الصناعة و أكثرها ربحية, و لذلك فمن الطبيعي أن تسعي تلك الصناعة لدعم الثقافة التي تساندها و تساعد علي ترويجها, و أن تجند لنشر تلك الثقافة –أي ثقافة الحرب- تراثا ضخما من مختلف العلوم الإنسانية علي رأسها الإعلام و علم النفس بل و التاريخ أحيانا.
و لقد أصدر الصحفي البريطاني جدوين باروز عام 2002 كتابا هاما بعنوان "صناعة السلاح" استخدم فيه تعبير "المجموعة القذرة" مشيرا إلي قائمة الدول التي تتصدر صناعة و تصدير السلاح؛ و تتربع الولايات المتحدة على رأسها, تليها روسيا, ثم فرنسا, ثم بريطانيا, وألمانيا ، ثم هولندا, حيث تستأثر تلك الدول الست بتصدير 85% من السلاح في العالم و تحتل إسرائيل المرتبة الثانية عشرة في تلك القائمة, ومن المثير للانتباه أن الدول الأربعة التي تتصدر تلك القائمة أعضاء دائمين في مجلس الأمن المسئول عن "السلام العالمي"، و أن الدول العربية تتصدر قائمة مستوردي تلك الأسلحة.
و هكذا شهدنا و ما زلنا نشهد عبر سنوات طوال آلاف الأفلام و الكتب و دواوين الشعر, بل و الدراسات "العلمية" التي تصب جميعا في تقديس العنف و اعتباره جوهر الطبيعة الإنسانية و السبيل الأوحد للحصول علي الكرامة و الاحترام و الحفاظ علي الحقوق، و من ثم لم يعد أمام الدول و الجماعات بل و الأفراد مهرب من غواية التهيؤ لممارسة العنف، ثم ممارسته ما أمكن ذلك.
و لقد امتدت تلك الغواية لتضرب بجذورها في عمليات التنشئة الاجتماعية التى مارسناها و نمارسها كأمهات وأباء، كمربين وتربويين، كإعلاميين ومسئولين، نمارسها في بيوتنا، ومدارسنا، ومساجدنا وكنائسنا ونوادينا ومكاتبنا. تمارسها صحافتنا واذاعتنا وتليفزيوننا. نمارسها جميعاً دون استثناء. ومن لم يستطع منا ممارستها بالفعل مارسها بالقول، ومن لم يستطع القول مارسها بالصمت ولعله الأشد خطراً.
و قد أدت بنا تلك الممارسة إلى حيث لا يجد المرء أمامه لمواجهة مواقف الحياة إلا واحداً من سبيلين لا ثالث لهما: إما التصدى بالعنف لإزالة ما يحول ببينه وبين ما يريد، ذلك إذا ما استطاع؛ فإذا ما لم يستطع ممارسة دور الجلاد وكان الآخر أقوى من امكاناته، لم يعد أمامه إلا السبيل الآخر وهو الاستسلام دون شروط و تقبل دور الضحية المستضعفة. و هو في الحالتين ملتزم بالطاعة و الانصياع: الطاعة شرط لإتقان التدريب علي العنف، و هي أمر مفروغ من حتميته في حالة الاستسلام.
تقديس الطاعة
يلعب الاستعداد المفرط للطاعة – أو ما يطلق عليه تعبير "المسايرة"- حتي فيما يخالف القانون دورا هاما في إقدام الجلادين علي ممارسة التعذيب، فهم يستجيبون لأوامر رؤسائهم استجابة تتسم بقدر كبير من الخضوع، ولا يناقشون هذه الأوامر ولا حتي يفكرون فيها، بل يطيعون رؤساءهم طاعة عمياء وينفذون أوامرهم بالتعذيب دون تردد، وغالبا ما يكون هؤلاء المسايرون من الذين يسهل إقناعهم واستهواؤهم والإيحاء لهم بأن ما يفعلونه فيه مصلحة للبلد أو للبشرية أو لقضية ما.
لقد اهتم علماء النفس الاجتماعي بمحاولة التماس تفسير لسلوك أولئك الذين يقدمون علي التعذيب بالتنقيب في تاريخ حياتهم و ما مر بهم من أحداث، و لكنهم لم يعثروا علي شيئ له دلالة، فالعديد من الأفراد الذين كانوا يبدون عاديين بل و أقرب إلي الطيبة، قد تصدر عنهم أفظع أنواع السلوك الوحشي في مواقف بعينها، و خلص العلماء إلي أن الأمر إنما هو أمر مكتسب يجري الإعداد له و التدريب عليه من خلال المؤسسات الاجتماعية.
أجرى عالم النفس الاجتماعي فيليب زيمباردو Philip Zimbardo عام 1973 تجربة عرفت باسم تجربة سجن ستانفورد، نسبة إلي جامعة ستانفورد الأمريكية الشهيرة التي كان يعمل بها، و كانت التجربة ممولة من البحرية الأمريكية لمعرفة أسباب الصراع بين المسجونين و الحراس، و كان المفترض أن مهنة السجان تغري الساديون بالتقدم لها و من ثم فقد كانت المهمة الموكولة لزيمباردو التوصل إلي سبيل لاستبعاد الساديين من كشوف المقبولين لشغل تلك الوظائف؛ غير أن زيمباردو فضل القيام بدراسة تجريبية لاختبار احتمال آخر مؤداه أن تكون بيئة السجن في حد ذاتها هي منبع تلك الظاهرة، و ذلك في ضوء نظرية امن نظريات علم النفس الاجتماعي تعرف بنظرية الأدوار بمعني أن الأدوار التي يسند المجتمع للأفراد أداءها هي التي تشكل أداء أولئك الأفراد.
قام زيمباردو بالإعلان في إحدى الصحف عن حاجة جامعة ستانفورد لمتطوعين ذكور لإجراء دراسة نفسية عن "حياة السجن" مقابل 15 دولار للمتطوع يوميا، و تم اختيار 24 متطوعا من الطلاب الجامعيين تأكد أنهم وفقا لنتائج المقاييس النفسية عاديون أسوياء، ثم قام بتقسيمهم إلى مجموعتين على نحو عشوائي بحيث يلعب نصفهم دور المسجونين والنصف الثاني دور الحراس، و ذلك بعد أن تم تحويل بدروم جامعة ستانفورد إلي ما يشبه السجن الحقيقي بزنازينه و أبوابه و فنائه فضلا عن ثياب و شارات السجانين المتمايزة عن المسجونين إلي آخره. وزيادة في فعالية التجربة قام البوليس بالاتفاق مع الجامعة بإلقاء القبض علي من سيقومون بدور المسجونين من منازلهم و اصطحابهم إلي مقر الشرطة حيث عصبت عيونهم ثم نقلو إلي "سجن ستانفورد" دون أن يعرفوا العلاقة بين ما يجري و التجربة التي وافقوا علي التطوع للمشاركة فيها، و تلقاهم "السجَّانون" بملابسهم ونظاراتهم السوداء مما يوحي أنهم شرطة حقيقية معهم كل الصلاحيات وفي أيديهم الهراوات مع رزمة المفاتيح و كذلك كاميرات الفيديو و المسجلات الصوتية لرصد كل ما يجري داخل الزنازين. و حال وصولهم "المساجين" نزعت ملابسهم و سجلت أسمائهم بحيث تحول كل منهم إلى مجرد رقم. و تم تنظيفهم بحمام جماعي ولبسوا ملابس السجن المتهرئة دون أي ملابس داخلية و وضعت السلاسل في أقدامهم.
و كان المفترض أن تستمر التجربة 14 يوما، و لكن الاندماج في الأدوار أخذ في التصاعد بعد ثلاثة أيام حتى تحول إلي مناخ إرهابي حقيقي مما أدي إلي إيقاف التجربة بعد أن وصل الأمر بالسجانين إلى حرمان المعتقلين من قضاء حاجاتهم الإنسانية، فغرقوا في قذارتهم، و دفع البعض لممارسة اللواط. و تعددت حالات الانهيار البدني و العقلي بين المعتقلين.
إلي هذا الحد كان تأثير تصور الدور في خلق "الجلاد"، و عدت بذاكرتي إلي واحد من سجاني أوردي ليمان أبوزعبل الشهير. كان رجلا فقيرا بسيطا و لكنه كان جلادا مفرطا في إخلاصه في أداء دوره إلي حد أنه ذات يوم استغرق في ضرب المعتقلين داخل أحد العنابر إلي أن سقط مغشيا عليه، و أصابنا الرعب خشية أن نتهم بقتله مثلا، و هرع إليه أحد الأطباء من المعتقلين و قام بإفاقته، و همس في أذنه و هو في بداية مرحلة التنبه و قد استعاد دوره كطبيب يزجي النصح لواحد من مرضاه: "لماذا تجهد نفسك إلي هذا الحد" و كانت إجابة السجان "اللي ياخد أجر ربنا يحاسبه علي العمل" باعتبار أن ما يؤديه من تعذيب إنما هو عمل مكلف بأدائه يتقاضي عنه أجرا و عليه أن يحسن أداء هذا العمل. كان الجلاد مخلصا بالفعل فيما يقول.
من هم الجلادون؟
عالم آخر من علماء النفس الاجتماعي هو ستانلي ميللجرام Stanly Milligram الذي التقيت به شخصيا في جامعة نيويورك سيتي City University of New York (CUNY) عام 1983 قبيل وفاته في العام التالي، و تحادثنا حديثا عابرا حول تجاربه الشهيرة و كيف استوقفته بشاعة التعذيب الذي كان يمارسه الجلادون في المعسكرات النازية الشهيرة، و دفعته إلي التساؤل: تري كيف يمكن أن يطيع الإنسان أوامرا تصدر إليه متعارضة مع كافة القيم الإنسانية؟ و كم نسبة أولئك الذين يمكن أن يطيعوا مثل تلك الأوامر؟ و وجه ميللجرام هذا السؤال إلي عدة مئات من المثقفين و المهنيين و منهم العديد من المتخصصين في علم النفس و العلوم الإنسانية في الولايات المتحدة الأمريكية، و كان متوسط تقديراتهم أن نسبة لا تتجاوز 4% أو 5% من الأمريكيين يمكن أن يكون لديهم الاستعداد لتنفيذ مثل تلك الأوامر. و حاول ميللجرام اختبار الأمر تجريبيا، سلسة التجارب المعملية الشهيرة التي عرفت في تاريخ علم النفس الاجتماعي باسم تجارب الطاعة Obedience و استمرت تلك التجارب من عام 1960 حتى عام 1964 في جامعة ييل Yale University بالولايات المتحدة الأمريكية ، وكان الهدف هو دراسة عملية الطاعة فى موقف تجريبى معملي حين يؤمر الشخص بإيذاء الآخرين، و اقتضت التجربة أن يقوم ميللجرام بنشر إعلان فى صحيفة محلية، دعا فيها للمشاركة فى دراسة عن الذاكرة والتعلم. و أن المتطوع سوف يتقاضى أربعة دولارات وخمسين سنتا عن كل ساعة من ساعات المشاركة، و تم إعداد جهاز للتعذيب الكهربائي الوهمي يحتوى علي 30 مفتاحا وضعت فى خط أفقى• وكل مفتاح مرقم بعدد الصدمات الموجهة وتبدأ من 15 فولتًا إلى 45 فولتًا بزيادة 15 فولتًا بين المفتاح والآخر من اليسار إلى اليمين بالإضافة إلى كتابة مستوى الصدمات لكل مجموعة مكونة من أربعة مفاتيح وهى كالآتى : صدمة خفيفة -صدمة معتدلة - صدمة قوية - صدمة قوية جدا- صدمة حادة - صدمة حادة جدا - صدمة قاسية.
و تم الاتفاق مع أحد مدرسي البيولوجيا بالجامعة و الذي يبلغ من العمر 31 عاما علي لعب دور المشرف على التجربة، و أن يحرص خلال أدائه لدوره علي أن يبدو في معطفه الرمادي متبلدا متجهما صارما ، كما تم الاتفاق أيضا مع أحد الموظفين الإداريين بالجامعة يبلغ من العمر 47 عاما علي القيام بدور المتعلم (الضحية) بعد أن تم تدريبه علي إتقان تجسيد ملامح و صرخات من يعاني ألما، بحيث يصبح "المعلم" الذي سوف ينفذ التعليمات بإيقاع العقاب المؤلم علي يقين تام من أنه يوقع ألما حقيقيا بالضحية.
و قد شملت العينة أفرادا تباينت مستوياتهم التعليمية من الحاصلين على الثانوية إلى الحاصلين على الدكتوراه، و قد كان 40% منهم من العمال المهرة وغير المهرة، و 40% من الموظفين، و 20% من المهنيين، و تراوحت أعمارهم بين العشرينات، و الأربعينات.
و تبدأ التجربة باستدعاء شخصين من أفراد العينة، أحدهما ذلك الموظف الذي سبق تدريبه علي لعب دور الضحية، حيث يشرح لهما المجرب المزعوم أن "الهدف من التجربة معرفة أثر العقاب على التعلم مشيرا إلي أن هناك نقص شديد فى هذا النوع من الدراسات، و أننا على سبيل المثال لا نعرف إلى أى حد يفيد العقاب فى التعلم أو الفرق بين توجيهه للأعمار المختلفة، و لذا فأنني أطلب من أحدكم أن يكون "معلما" والآخر أن يكون "طالبا" و سوف يكون ذلك عن طريق القرعة، فقد كتبت على ورقة كلمة "معلم" والثانية كلمة "طالب". فليسحب كل منكم ورقة لتحدد دوره." غير أن الورقتان كانتا تحتويان علي كلمة "معلم". وبعد سحب القرعة المزيفة يتوجه الفردان إلى غرفة مجاورة حيث يجلس الطالب "المزعوم" مربوطا على كرسى. ويشرح المجرب الهدف من تقييده بأنه لمنع الحركات المتزايدة عند توجيه الصدمات، و أيضا لعدم إتاحة الفرصة أمامه للهرب و عدم استكمال التجربة، ثم يتم توصيل قطب كهربي بمعصم الطالب مع تأكيد أن هذا القطب متصل بالمولد الكهربائى الموجود فى الغرفة المجاورة. و يكون علي (المعلم) قراءة سلسلة من أزواج الكلمات يطلب من (المتعلم) تكرارها، وعقابه إذا أخطأ في ذلك بإعطائه صدمة كهربائية عن طريق جهاز مولد الصدمات، و عليه زيادة شدة الصدمة الكهربائية كلما تكرر الخطأ. و كان علي (المتعلم) أن يرتكب العديد من الأخطاء حسب الخطة الموضوعة لكي يصل المعلم إلى ذروة الصدمات المؤلمة.
و قد تعدلت أشكال إجراء التجربة لرصد تأثيرات مثل: أن يكون الطالب (الضحية) في حجرة مجاورة بحيث لا يصل للمعلم سوي صوته، أو أن يكون علي مرمي بصره بحيث يشهد أيضا تعبيراته عن الألم، أو أن تكون التجربة نسائية تلعب فيها الإناث أدوار الطالبة "الضحية" و المعلمة إلي قائمة طويلة من التعديلات و التغييرات في تفاصيل التجربة، وقد اتضح في النهاية أن شيئا من تلك التغييرات لا يكاد يؤثر على مستوى الطاعة.
لقد كانت النتيجة صادمة بكل المقاييس حتى أن عالم النفس توماس بلاس Thomas Blass نشر عن ميللجرام عام 2002 مقالا يحمل عنوان "الرجل الذي صدم العالم". لقد كشف ميللجرام النقاب عن استعداد غلاب لدي الأمريكيين للطاعة و تنفيذ الأوامر حتى لو اقتضي الأمر تعذيب الآخرين، و أن هؤلاء "المتطوعين" أفراد عاديون لا يعانون من اضطرابات نفسية كالسادية مثلا، و أنهم لا يقدمون علي ما أقدموا عليه تحت ضغط تهديد أو إغراء من سلطة قاهرة. إنهم مجرد متطوعون للمشاركة في تجربة علمية لا يتقاضون مقابل تطوعهم سوي عدة دولارات فقط.
استغرقت تجارب ميللجرام من 1960 حتى 1964 و لم تلبث أن انتشرت التجارب في استراليا و جنوب إفريقيا و العديد من دول أوروبا. و قد قمت بعد ذلك بالإشراف علي عدد من البحوث التي أجراها أبنائي المصريين للحصول علي درجاتهم العلمية متبعين نفس أسلوب تجارب ميللجرام، و لم تكن النتائج لدينا تختلف كثيرا عنها في أي مكان في العالم حيث تراوحت نسبة من يصلون إلي النهاية القصوى في إطاعة الأوامر دون الإقدام علي الانسحاب من التجربة بين 60 و 66 %.
الطاعة الخبيثة ... لماذا؟
لقد أسفرت تلك التجارب عن نتيجة صادمة بكل المقاييس: ثمة "طاعة خبيثة" تسري في أوصال المجتمعات الحديثة، و حاول ميللجرام البحث عن الظروف التي تؤدي بالفرد إلي ذلك النوع من الطاعة، فصك تعبيرا يصعب ترجمته عربيا بكلمة واحدة: AGENTIC STATE وهي مشتقة من مصطلح "العميل أو الوكيل أو الممثل أو المندوب AGENT" بمعني أن الفرد يدرك نفسه باعتباره مجرد كائن ضعيف لا يعدو أن يكون ممثلا أو تابعا لآخر أو لآخرين أو لمؤسسة حتي لقوة معنوية غير منظورة، و أنه في هذا الموقف يتنازل تماما عن حريته في اتخاذ قرارات مستقلة، و بالتالي لا يتحمل أية مسئولية عن أفعاله أو حتي أفكاره. المسئولية يتحملها من يصدر له الأوامر؛ و حتي أولئك الذين يصدرون الأوامر المباشرة ( لاعب دور المجرب في حالة تجارب ميللجرام) قد يصدرون تلك الأوامر في ظل تلك الحالة نفسها بمعني أنهم إنما يحرصون علي إرضاء من أصدر لهم الأوامر، فيحيلون المسئولية إلي المستوي الأعلي و هكذا.
لقد شغلت هذه المشكلة منذ حوالي نصف قرن عالم النفس الشهير اريك فروم الذي أصدر كتابا ذاع صيته و تجاوزت أعداد طبعاته الحد المألوف, و كان عنوانه "الهروب من الحرية". لقد استوقفت فروم ظاهرة التفاف غالبية مواطنيه من أبناء الشعب الألماني حول هتلر الدكتاتور العنصري الذي لم يخف يوما عنصريته أو دكتاتوريته. و هاجر فروم من وطنه الأصلي ميمما صوب الولايات المتحدة الأمريكية حصن الحرية و ملاذ الأحرار, و لم يمض زمن طويل و إذا به يكتشف نفس الظاهرة تفصح عن نفسها جلية في أعماق من تعامل معهم من الأمريكيين. و توصل فروم إلي أن المجتمع في مرحلة معينة من مراحل تطوره السياسي الاجتماعي الاقتصادي يشكل أبناءه و ينشئهم علي النفور من الحرية, بحيث يضيقون بحريتهم أشد الضيق, و يسعون ما وسعهم الجهد لاكتشاف "البطل" الذي يتيح لهم التخلص من أغلالها, فيسارعون إلي الالتفاف حوله و السير وراءه و الانصياع لتوجيهاته دون تفكير أو تردد.
ربما بدا الأمر للوهلة الأولي متناقضا يصعب التسليم به, فالدول و الجماعات جميعا و بلا استثناء واحد و مهما كانت بشاعة وحشيتها, تعلن أنها محبة للحرية ساعية لتحقيقها. و لو نظرنا في بلادنا لوجدنا كافة التيارات السياسية المشروعة و غير المشروعة من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار تعلن جميعا أن الحرية هي الهدف المقدس و النهائي الذي تسعي إليه.
فلنقترب قليلا من شعارات الدعوة للحرية في بلادنا و لدي غيرنا أيضا، لنكتشف أن ثمة كلمة ثابتة تلتصق بغالبية تلك الشعارات. إنها كلمة "و لكن". نحن مع الحرية طبعا و لكن لسنا مع الفوضى. الحرية كل الحرية للشعب و لكن لا حرية لأعداء الشعب. الحرية للوطنيين الحقيقيين و لكن لا حرية للعملاء و المندسين. كل الحرية للأفكار البناءة الشريفة و لكن لا حرية للأفكار الهدامة المستوردة. كل الحرية لأنصار التقدم و لكن لا حرية للرجعيين أنصار التخلف. الحرية قيمة مقدسة و لكن في حدود الالتزام بثوابتنا الدينية و الوطنية. الحرية كل الحرية للمتدينين الطيبين المتمسكين بأوامر الله، و لا حرية لغيرهم من الكفرة و المنحلين. و حتي داخل التيارات الليبرالية تجد من يقول كل الحرية لأنصار الحرية و لكن لا حرية لأعدائها أنصار الحكم المطلق. قد تبدو كل تلك الشعارات براقة حتي نصل إلي تلك الكلمة المفتاحية "و لكن", فإذا ما تساءلنا و كيف يمكن التفرقة؟ من الذي يستطيع الفرز و التمييز؟ كان جوهر الإجابة أن صاحب الشعار هو المرجعية الأولي و الأخيرة للتمييز بين العملاء و الوطنيين, بين الأفكار البناءة و الهدامة, بين التقدميين و الرجعيين, بين الثوابت و المتغيرات الدينية و الوطنية.
خلاصة القول
إن إدانة التعذيب و التصدي له واجب مقدس، و لكن اجتثاث الجذور أو تجفيف المنابع الثقافية المغذية له ينبغي أن تكون فرض عين علي الجميع، بحيث نجرد أنفسنا قبل غيرنا من نزعات تقديس العنف و تقديس الطاعة، و أن نؤكد لأنفسنا و لغيرنا أنه لا استثناءات في إدانة التعذيب إيا كات نوعية الجرائم
إنها معركة صعبة تحتاج إلي نفس طويل.


التعذيب و ثقافة المجتمع
د. قدري حفني
مقدمة
قبل أن أمسك بالقلم، تساءلت: تري أنلتقي تحت مظلة الدفاع عن حقوق الإنسان لنجدد إدانتنا لجرائم التعذيب فحسب؟ و بدا لي –رغم ضرورة و أهمية بل و قدسية تلك الإدانة- أنني لا أستطيع أن أقدم جديدا، فأمامي العديد من المواثيق الدولية و الإقليمية و الوطنية و الدينية التي تجرم التعذيب، و أمامي آلاف الصفحات التي تسجل جرائم التعذيب، و شهادات الضحايا، و محاولات الجلادين التبرؤ مما اقترفوه، و محاولات من أصدروا الأوامر التنصل من مشاركتهم في تلك الجرائم. تري أي جديد أستطيع أن أقدمه بعد ذلك كله؟ و كدت أتوقف لولا أن خطر لي أمران:
الأمرالأول أنني شخصيا كنت يوما –بل أياما- واحدا من ضحايا التعذيب، و لعل "شهادة من الداخل" رغم أنها شهادة مجروحة، قد تكون ذات معني في مثل هذا اللقاء.
و الأمر الثاني أنني من واقع تخصصي في علم النفس السياسي، و استغراقي في قضايا الصراع العربي الاسرائيلي و توابعه من صراع عربي عربي و فلسطيني فلسطيني، استوقفتني ظاهرة فريدة تمثلت في انتقال التعذيب من الأقبية المظلمة، و الزنزانات الرطبة، و محاولات التخفي خلف الأسوار العالية، و السعي الحثيث إلي إنكار اقتراف تلك الجرائم بل استنكارها و التبرؤ منها، إلي تعذيب أشد بشاعة يحرص مرتكبوه علي اقتراف جرائمهم في وضح النهار، و عوضا عن تسجيلها رغما عنهم تلصصا، و تسريبها خلسة، يقوم الجلادون أنفسهم بتسجيل ما ارتكبوه و إذاعته علنا لمن لم تتح لهم مشاهدته، متفاخرين بما اقترفوه باعتباره بطولات تنم عن مدي تمسكهم بالمبادئ الأخلاقية و الوطنية بل و الدينية الرفيعة.
استوقفني كذلك نوع منتشر من التعذيب "الخاص". تعذيب يمارسه من يقدرون عليه حيال من يستطيعون تعذيبهم من خدم و أطفال و نساء و منافسين إلي آخر قائمة طويلة من المستهدفين، و لا يجد مقترفوا هذا النوع من التعذيب أية غضاضة في الاعتراف بما يقترفونه لخلصائهم باعتباره لا يعدو أن يكون تأديبا أو تقويما بل ولا يجدون غضاضة في اعتبار القوانين التي تدين هذا النوع من التعذيب تدخلا في الخصوصيات بل و قد يعتبرونها دعوة للانحلال و التسيب و خروجا علي صحيح الدين.
إنها أنواع من "التعذيب الجماهيري" إذا ما صح مثل هذا التعبير. تعذيب تم إعداد الجماهير للحفاوة به و التشجيع عليه بل و ممارسته ما استطاعوا إلي ذلك سبيلا، و أظنه الأشد خطورة و الأكثر تدميرا إذا ما قورن بذلك "التعذيب الحكومي" التقليدي الذي ألفناه رغم أن "السلطة" بمعناها الواسع تعد عاملا مشتركا في أنواع التعذيب جميعا باعتبار أن الجلاد إيا كانت صفته يعد ممثلا لسلطة ما بالنسبة للضحية.
التعذيب الحكومي: خبرة ذاتية
كانت أذهان أبناء جيلي تنصرف عادة عند الحديث عن التعذيب إلي قيام ممثلي النظام الحاكم بتعذيب المعتقلين السياسيين من الإخوان المسلمين و الشيوعيين، و كانت ردود أنصار النظام آنذاك تتراوح بين الإنكار التام لوقوع شيء من هذا القبيل، أو التقليل من حجمه و اعتباره من قبيل التجاوزات الاستثنائية، أو التماس الأعذار لمن يقدمون عليه مضطرين لحماية "أمن الوطن" أو "صحيح الدين".
و قد كان مستحيلا آنذاك اللجوء إلي القضاء للنظر في جرائم التعذيب باعتبارها –أي تلك الجرائم- من أعمال السيادة، إلي أن تضمن الدستور الحالي نصا يقضي باعتبار "كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور والقانون جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم،وتكفل الدولة تعويضا عادلا لمن وقع عليه الاعتداء. ( مادة 57 )
لقد تنقلت بين معتقلات القلعة و أوردي ليمان أبو زعبل و الفيوم و السجن الحربي، حيث تعددت ألوان التعذيب الفردي و الجماعي بين الضرب و الجلد و تكسير الحجارة إلي التجويع و العزل و التهديد فضلا عن الإهانات اللفظية، و ظل الحرمان من الزيارات مستمرا في كل الأحوال.
لقد كتب عن ذلك الكثيرون و ليس لدي مزيد من التفاصيل التي يمكن إضافتها. ما يعنيني في هذا المقام الإشارة إلي أن التعذيب في تلك المعسكرات خاصة في أوردي ليمان أبو زعبل كان أشبه بالتعذيب الذي كنت قد قرأت عنه في معسكرات هتلر النازية فيما عدا أفران الغاز الشهيرة. كان تعذيبا لا يستهدف الحصول علي اعترافات أو معلومات، بل مجرد سحق شخصية الضحية. يجري وفق خطة مبرمجة تحول بين الضحية و أية توقعات بحيث لا يعرف تحديدا متي ستكون الضربة القادمة و لا علي أي جزء من جسده ستقع و لا ما هو مبررها المباشر. انعدام التوقعات و من ثم انعدام المعني. عملية مبرمجة مخططة كما لو كنا حيال تجربة معملية لخلق حالة متطرفة من حالات "الاغتراب"، و قد انهار البعض بالفعل و سقطوا في هوة الاضطراب العقلي الصريح.
كان النظام في الأوردي شأن بقية معسكرات التعذيب يقضي بحظر تبادل الحديث بين المعتقلين و بعضهم البعض خاصة بعد إغلاق العنابر عليهم مع نهاية “العمل" وهو التعبير الرسمي عن القيام بتكسير البازلت في الجبل، و اعتاد الجميع الحديث همسا، فإذا ما ارتفع الهمس و لو قليلا، كانت صيحة الحارس "امنع الغاغة " تعد نذيرا بأن عقابا جماعيا إضافيا يتهدد نزلاء هذا العنبر في الصباح، و رغم ذلك فقد ظل التواصل الهامس مستمرا حتى خلال "العمل".
لا خصوصية في السجون و معسكرات التعذيب، و إذا كان انتهاك الخصوصية يعد جريمة يعاقب عليها القانون فإن انتفاء تلك الخصوصية بالنسبة لنزلاء السجون و المعتقلات تصبح هي القاعدة التي تعرض من يخرج عليها بعقاب إضافي. في معسكر التعذيب يكون المرء مرئيا طوال الليل و النهار، و لعلي لم أحس بصدق المقولة الوجودية الشهيرة "الجحيم في عيون الآخين" قدر ما أحسست بصدقها في تلك الأيام. ثمة عيون ترقبك دائما. لا تتلصص و لا تتخفي بل تمارس "حقها" في اقتحامك جهارا نهارا آناء الليل و أطراف النهار. حتي حين يغلق عليك باب "العنبر" فإن ثمة ثقب بالباب تغطيه من الخارج "سقاطة" معدنية متحركة تتيح للحارس الجلاد أن يرفعها وقت يشاء ليطل علي ضحاياه. إنها "العين ذات الجفن المعدنية" . و لا يعد السجن "الانفرادي" خروجا علي هذه القاعدة، فالسجين في هذه الحالة لا يكون منفردا رغم أنه يكون معزولا عن الجماعة؛ فالجلاد المراقب معه دائما و بتركيز أكبر، فليس ثمة ما يشغله سواه. الفارق هو عزلة السجين عن رفاقه. إن إطلاق تعبير "التأديب" علي زنازين السجن الانفرادي ليس مصادفة. إنه أحد الأساليب المفضلة لدي الجلادين لتأديب الضحية بحرمانه من الإئتناس بجماعة الانتماء حتي خلال خضوع تلك الجماعة للتعذيب الجماعي، و يزداد التأثير بطبيعة الحال إذا ما كان السجن الانفرادي مصحوبا بتعذيب انفرادي أيضا حيث يفتقد الضحية الاحساس بأن ثمة من يشاركونه العذاب مما قد يزيد من تحمله من خلال ثقافة جماعية يتساند من خلالها الضحايا. و لقد مررت بخبرة الحبس الانفرادي أكثر من مرة.
أما عن الجلادين، لقد شهدت معسكرات التعذيب المصرية ما عرف بين المعتقلين باسم "فرقة اللواء همت" التي كانت تضم جنودا و ضباطا و صف ضباط من العاملين في السجون يتخصصون في التعذيب الجماعي أو ما يطلق عليه تعبير "التكديرة". سمعت ممن سبقوني إلي الأوردي و بالتالي كانوا أول من استقبلتهم فرقة اللواء همت أن الجلادين قد انهالوا عليهم بالعصي و هم يصرخون طالبين منهم سب آل البيت، مكررين آخر خبرة لهم و كانت تعذيب المعتقلين من الإخوان المسلمين؛ و حين صرخ فيهم قائدهم منبها "دول شيوعيين كفرة" تحولت الصرخات فورا إلي "قولوا لا إله إلا الله يا كفرة". إنهم لم يتلقوا أي نوع من التهيئة الفكرية كما هو الحال مثلا بالنسبة للجلادين في الدول العقائدية، كل ما تلقوه تدريب متقن علي التفاني في الطاعة، و تنفيذ الأوامر فورا دون تفكير.
القبول الجماهيري للتعذيب
لعله من الملفت و إن كان مفهوما أن كافة ممارسات التعذيب مهما كانت بشاعتها تتم تحت غطاء فكري بالغ الجاذبية و الرقي بل انها تتم في كثير من الأحيان مغلفة بغلاف ديني أو وطني. و تعد عملية التغليف هذه أمرا لا غني عنه لتحقيق عدد من الأهداف علي رأسها ضمان الحد الأدني المطلوب من حماس الجلادين لممارسة فظائعهم فضلا عن محاولة كسب رأي عام مساند لتلك الجرائم، و هو ما حدث بالفعل في أحيان كثيرة حيث كان التعذيب فى نظر الجماهير في العصور الوسطي يبدو أمراً "عادياً" وكان يطلقون عليه تسمية أنيقة هي "الاستجواب القضائي". وقد أحتاج الأمر دهورا طويلة نزلت خلالها رسالات من السماء واندلعت ثورات على الأرض ونشبت حروب ضروس وأقيمت حضارات وإمبراطوريات كبري و اندثرت أخري ، احتاج الأمر كل ذلك من أجل إقرار حقوق الإنسان وحرياته ، ومن ضمنها حقه فى احترام كرامته الإنسانية وسلامة جسده وقواه العقلية والنفسية، و رغم ذلك فما زلنا نشهد –كما أشرنا- الكثير من مظاهر التعبير عن حفاوة بل و "سعادة" الجماهير بمشاهدة أو بمعرفة حجم العذاب الذي لحق بالخونة و بالمعارضين المارقين.
و لعله من الملفت للنظر أنه لا محل في القانون لتجريم ذلك الاستمتاع و تلك السعادة بمشاهدة وقائع التعذيب و القتل، رغم أنها فيما نري تعد الظاهرة الأولي بالاهتمام، بل و التجريم؛ فانتشار ممارسة التعذيب لا يمكن أن يتراجع بشكل أساسي إلا إذا أصبح سلوكا مرفوضا بحق و بعمق و بدون استثناء من القطاع الغالب من أبناء المجتمع. و لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بتجفيف منابع ذلك القبول الدفين أو المعلن لممارسة التعذيب بكشف زيف الشعارات و المبررات الدينية أو الوطنية أو الاجتماعية لتعذيب الآخرين مهما كانت جرائمهم الوطنية أو الأخلاقية أو الدينية. إن عملية إعداد و تهيئة الجماهير للقبول بممارسة التعذيب إنما تستند إلي ثقافة تقوم علي ركنين: تقديس العنف، و تقديس الطاعة، و لا سبيل لمواجهة حقيقية و فعالة لهذه الجريمة دون محاولة القضاء علي جذورها، و خلخلة أركانها، و هي ليست بالمحاولة السهلة.
صناعة تقديس العنف
يعد التعذيب نمطا خاصا من أنماط العنف، و يستعمل تعبير "التعذيب" عادة لوصف اي عملية تنزل آلاما جسدية او نفسية بإنسان ما وبصورة متعمدة و منظمة كوسيلة لإستخراج معلومات او الحصول على إعتراف او لغرض التخويف والترعيب او كشكل من اشكال العقوبة او وسيلة للسيطرة على مجموعة معينة تشكل خطرا على السلطة المركزية. ويستعمل التعذيب في كثير من الأحيان لفرض مجموعة من القيم و المعتقدات التي تعتبرها الجهة القائمة بالتعذيب قيما أخلاقية، و تشير المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب إلي أن التعذيب هو "الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أيا كان نوعه، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية".
نخلص من ذلك إلي أن غالبية أنواع العنف و منها ممارسة التعذيب تعد من أنواع السلوك المكتسب، و من ثم فإنه لا يمكن التنبؤ باستعداد الفرد لممارسة التعذيب إلا في حدود ضيقة لا تتعدي اكتشاف المصابين بمرض السادية sadism ، و علي أي حال فإن هؤلاء المرضي لا يمثلون سوي نسبة ضئيلة جدا من السكان و ممن يمارسون التعذيب أيضا.
إن اكتساب الفرد للقدرة علي ممارسة التعذيب تتم من خلال عملية تدريب اجتماعي يغرس قيمة تقديس العنف بتأكيد أن الشخص القوي مرهوب الجانب القادر علي إلحاق الأذي بالآخرين هو الشخص "المحترم" في مقابل أن الشخص الهادئ المسالم الذي يلتزم بالقانون و يلجأ إليه للشكوي و رد الاعتداء شخص ضعيف لا يستحق الاحترام. و لكن يبقي سؤال: لماذا تجد ثقافة العنف دعما و تشجيعا لا تجده ثقافة السلام و الاحتكام للقانون و إدانة التعذيب؟
تؤكد دراسات علم النفس الإعلامي أن رواج سلعة معينة لا يتوقف علي مجرد الإعلان عن وجودها و عرض مزاياها بل أن الرواج الأمثل إنما يتحقق بقيام ثقافة مساندة للسلعة تضمن لها دوام و تصاعد الطلب عليها. و يتطلب خلق مثل تلك الثقافة تشكيلا لخريطة الوعي بما تتضمنه من معايير و قيم و اتجاهات بحيث يصبح الطلب علي تلك السلعة جزءا لا يتجزأ من نسيج تلك الثقافة. يصدق ذلك علي صناعة السياحة بقدر صدقه علي صناعة السينما و السجائر و جراحات التجميل و كذلك الأسلحة.
و لعلنا لا نضيف جديدا إذا ما ذكرنا أن صناعة السلاح تعد من أضخم مجالات الصناعة و أكثرها ربحية, و لذلك فمن الطبيعي أن تسعي تلك الصناعة لدعم الثقافة التي تساندها و تساعد علي ترويجها, و أن تجند لنشر تلك الثقافة –أي ثقافة الحرب- تراثا ضخما من مختلف العلوم الإنسانية علي رأسها الإعلام و علم النفس بل و التاريخ أحيانا.
و لقد أصدر الصحفي البريطاني جدوين باروز عام 2002 كتابا هاما بعنوان "صناعة السلاح" استخدم فيه تعبير "المجموعة القذرة" مشيرا إلي قائمة الدول التي تتصدر صناعة و تصدير السلاح؛ و تتربع الولايات المتحدة على رأسها, تليها روسيا, ثم فرنسا, ثم بريطانيا, وألمانيا ، ثم هولندا, حيث تستأثر تلك الدول الست بتصدير 85% من السلاح في العالم و تحتل إسرائيل المرتبة الثانية عشرة في تلك القائمة, ومن المثير للانتباه أن الدول الأربعة التي تتصدر تلك القائمة أعضاء دائمين في مجلس الأمن المسئول عن "السلام العالمي"، و أن الدول العربية تتصدر قائمة مستوردي تلك الأسلحة.
و هكذا شهدنا و ما زلنا نشهد عبر سنوات طوال آلاف الأفلام و الكتب و دواوين الشعر, بل و الدراسات "العلمية" التي تصب جميعا في تقديس العنف و اعتباره جوهر الطبيعة الإنسانية و السبيل الأوحد للحصول علي الكرامة و الاحترام و الحفاظ علي الحقوق، و من ثم لم يعد أمام الدول و الجماعات بل و الأفراد مهرب من غواية التهيؤ لممارسة العنف، ثم ممارسته ما أمكن ذلك.
و لقد امتدت تلك الغواية لتضرب بجذورها في عمليات التنشئة الاجتماعية التى مارسناها و نمارسها كأمهات وأباء، كمربين وتربويين، كإعلاميين ومسئولين، نمارسها في بيوتنا، ومدارسنا، ومساجدنا وكنائسنا ونوادينا ومكاتبنا. تمارسها صحافتنا واذاعتنا وتليفزيوننا. نمارسها جميعاً دون استثناء. ومن لم يستطع منا ممارستها بالفعل مارسها بالقول، ومن لم يستطع القول مارسها بالصمت ولعله الأشد خطراً.
و قد أدت بنا تلك الممارسة إلى حيث لا يجد المرء أمامه لمواجهة مواقف الحياة إلا واحداً من سبيلين لا ثالث لهما: إما التصدى بالعنف لإزالة ما يحول ببينه وبين ما يريد، ذلك إذا ما استطاع؛ فإذا ما لم يستطع ممارسة دور الجلاد وكان الآخر أقوى من امكاناته، لم يعد أمامه إلا السبيل الآخر وهو الاستسلام دون شروط و تقبل دور الضحية المستضعفة. و هو في الحالتين ملتزم بالطاعة و الانصياع: الطاعة شرط لإتقان التدريب علي العنف، و هي أمر مفروغ من حتميته في حالة الاستسلام.
تقديس الطاعة
يلعب الاستعداد المفرط للطاعة – أو ما يطلق عليه تعبير "المسايرة"- حتي فيما يخالف القانون دورا هاما في إقدام الجلادين علي ممارسة التعذيب، فهم يستجيبون لأوامر رؤسائهم استجابة تتسم بقدر كبير من الخضوع، ولا يناقشون هذه الأوامر ولا حتي يفكرون فيها، بل يطيعون رؤساءهم طاعة عمياء وينفذون أوامرهم بالتعذيب دون تردد، وغالبا ما يكون هؤلاء المسايرون من الذين يسهل إقناعهم واستهواؤهم والإيحاء لهم بأن ما يفعلونه فيه مصلحة للبلد أو للبشرية أو لقضية ما.
لقد اهتم علماء النفس الاجتماعي بمحاولة التماس تفسير لسلوك أولئك الذين يقدمون علي التعذيب بالتنقيب في تاريخ حياتهم و ما مر بهم من أحداث، و لكنهم لم يعثروا علي شيئ له دلالة، فالعديد من الأفراد الذين كانوا يبدون عاديين بل و أقرب إلي الطيبة، قد تصدر عنهم أفظع أنواع السلوك الوحشي في مواقف بعينها، و خلص العلماء إلي أن الأمر إنما هو أمر مكتسب يجري الإعداد له و التدريب عليه من خلال المؤسسات الاجتماعية.
أجرى عالم النفس الاجتماعي فيليب زيمباردو Philip Zimbardo عام 1973 تجربة عرفت باسم تجربة سجن ستانفورد، نسبة إلي جامعة ستانفورد الأمريكية الشهيرة التي كان يعمل بها، و كانت التجربة ممولة من البحرية الأمريكية لمعرفة أسباب الصراع بين المسجونين و الحراس، و كان المفترض أن مهنة السجان تغري الساديون بالتقدم لها و من ثم فقد كانت المهمة الموكولة لزيمباردو التوصل إلي سبيل لاستبعاد الساديين من كشوف المقبولين لشغل تلك الوظائف؛ غير أن زيمباردو فضل القيام بدراسة تجريبية لاختبار احتمال آخر مؤداه أن تكون بيئة السجن في حد ذاتها هي منبع تلك الظاهرة، و ذلك في ضوء نظرية امن نظريات علم النفس الاجتماعي تعرف بنظرية الأدوار بمعني أن الأدوار التي يسند المجتمع للأفراد أداءها هي التي تشكل أداء أولئك الأفراد.
قام زيمباردو بالإعلان في إحدى الصحف عن حاجة جامعة ستانفورد لمتطوعين ذكور لإجراء دراسة نفسية عن "حياة السجن" مقابل 15 دولار للمتطوع يوميا، و تم اختيار 24 متطوعا من الطلاب الجامعيين تأكد أنهم وفقا لنتائج المقاييس النفسية عاديون أسوياء، ثم قام بتقسيمهم إلى مجموعتين على نحو عشوائي بحيث يلعب نصفهم دور المسجونين والنصف الثاني دور الحراس، و ذلك بعد أن تم تحويل بدروم جامعة ستانفورد إلي ما يشبه السجن الحقيقي بزنازينه و أبوابه و فنائه فضلا عن ثياب و شارات السجانين المتمايزة عن المسجونين إلي آخره. وزيادة في فعالية التجربة قام البوليس بالاتفاق مع الجامعة بإلقاء القبض علي من سيقومون بدور المسجونين من منازلهم و اصطحابهم إلي مقر الشرطة حيث عصبت عيونهم ثم نقلو إلي "سجن ستانفورد" دون أن يعرفوا العلاقة بين ما يجري و التجربة التي وافقوا علي التطوع للمشاركة فيها، و تلقاهم "السجَّانون" بملابسهم ونظاراتهم السوداء مما يوحي أنهم شرطة حقيقية معهم كل الصلاحيات وفي أيديهم الهراوات مع رزمة المفاتيح و كذلك كاميرات الفيديو و المسجلات الصوتية لرصد كل ما يجري داخل الزنازين. و حال وصولهم "المساجين" نزعت ملابسهم و سجلت أسمائهم بحيث تحول كل منهم إلى مجرد رقم. و تم تنظيفهم بحمام جماعي ولبسوا ملابس السجن المتهرئة دون أي ملابس داخلية و وضعت السلاسل في أقدامهم.
و كان المفترض أن تستمر التجربة 14 يوما، و لكن الاندماج في الأدوار أخذ في التصاعد بعد ثلاثة أيام حتى تحول إلي مناخ إرهابي حقيقي مما أدي إلي إيقاف التجربة بعد أن وصل الأمر بالسجانين إلى حرمان المعتقلين من قضاء حاجاتهم الإنسانية، فغرقوا في قذارتهم، و دفع البعض لممارسة اللواط. و تعددت حالات الانهيار البدني و العقلي بين المعتقلين.
إلي هذا الحد كان تأثير تصور الدور في خلق "الجلاد"، و عدت بذاكرتي إلي واحد من سجاني أوردي ليمان أبوزعبل الشهير. كان رجلا فقيرا بسيطا و لكنه كان جلادا مفرطا في إخلاصه في أداء دوره إلي حد أنه ذات يوم استغرق في ضرب المعتقلين داخل أحد العنابر إلي أن سقط مغشيا عليه، و أصابنا الرعب خشية أن نتهم بقتله مثلا، و هرع إليه أحد الأطباء من المعتقلين و قام بإفاقته، و همس في أذنه و هو في بداية مرحلة التنبه و قد استعاد دوره كطبيب يزجي النصح لواحد من مرضاه: "لماذا تجهد نفسك إلي هذا الحد" و كانت إجابة السجان "اللي ياخد أجر ربنا يحاسبه علي العمل" باعتبار أن ما يؤديه من تعذيب إنما هو عمل مكلف بأدائه يتقاضي عنه أجرا و عليه أن يحسن أداء هذا العمل. كان الجلاد مخلصا بالفعل فيما يقول.
من هم الجلادون؟
عالم آخر من علماء النفس الاجتماعي هو ستانلي ميللجرام Stanly Milligram الذي التقيت به شخصيا في جامعة نيويورك سيتي City University of New York (CUNY) عام 1983 قبيل وفاته في العام التالي، و تحادثنا حديثا عابرا حول تجاربه الشهيرة و كيف استوقفته بشاعة التعذيب الذي كان يمارسه الجلادون في المعسكرات النازية الشهيرة، و دفعته إلي التساؤل: تري كيف يمكن أن يطيع الإنسان أوامرا تصدر إليه متعارضة مع كافة القيم الإنسانية؟ و كم نسبة أولئك الذين يمكن أن يطيعوا مثل تلك الأوامر؟ و وجه ميللجرام هذا السؤال إلي عدة مئات من المثقفين و المهنيين و منهم العديد من المتخصصين في علم النفس و العلوم الإنسانية في الولايات المتحدة الأمريكية، و كان متوسط تقديراتهم أن نسبة لا تتجاوز 4% أو 5% من الأمريكيين يمكن أن يكون لديهم الاستعداد لتنفيذ مثل تلك الأوامر. و حاول ميللجرام اختبار الأمر تجريبيا، سلسة التجارب المعملية الشهيرة التي عرفت في تاريخ علم النفس الاجتماعي باسم تجارب الطاعة Obedience و استمرت تلك التجارب من عام 1960 حتى عام 1964 في جامعة ييل Yale University بالولايات المتحدة الأمريكية ، وكان الهدف هو دراسة عملية الطاعة فى موقف تجريبى معملي حين يؤمر الشخص بإيذاء الآخرين، و اقتضت التجربة أن يقوم ميللجرام بنشر إعلان فى صحيفة محلية، دعا فيها للمشاركة فى دراسة عن الذاكرة والتعلم. و أن المتطوع سوف يتقاضى أربعة دولارات وخمسين سنتا عن كل ساعة من ساعات المشاركة، و تم إعداد جهاز للتعذيب الكهربائي الوهمي يحتوى علي 30 مفتاحا وضعت فى خط أفقى• وكل مفتاح مرقم بعدد الصدمات الموجهة وتبدأ من 15 فولتًا إلى 45 فولتًا بزيادة 15 فولتًا بين المفتاح والآخر من اليسار إلى اليمين بالإضافة إلى كتابة مستوى الصدمات لكل مجموعة مكونة من أربعة مفاتيح وهى كالآتى : صدمة خفيفة -صدمة معتدلة - صدمة قوية - صدمة قوية جدا- صدمة حادة - صدمة حادة جدا - صدمة قاسية.
و تم الاتفاق مع أحد مدرسي البيولوجيا بالجامعة و الذي يبلغ من العمر 31 عاما علي لعب دور المشرف على التجربة، و أن يحرص خلال أدائه لدوره علي أن يبدو في معطفه الرمادي متبلدا متجهما صارما ، كما تم الاتفاق أيضا مع أحد الموظفين الإداريين بالجامعة يبلغ من العمر 47 عاما علي القيام بدور المتعلم (الضحية) بعد أن تم تدريبه علي إتقان تجسيد ملامح و صرخات من يعاني ألما، بحيث يصبح "المعلم" الذي سوف ينفذ التعليمات بإيقاع العقاب المؤلم علي يقين تام من أنه يوقع ألما حقيقيا بالضحية.
و قد شملت العينة أفرادا تباينت مستوياتهم التعليمية من الحاصلين على الثانوية إلى الحاصلين على الدكتوراه، و قد كان 40% منهم من العمال المهرة وغير المهرة، و 40% من الموظفين، و 20% من المهنيين، و تراوحت أعمارهم بين العشرينات، و الأربعينات.
و تبدأ التجربة باستدعاء شخصين من أفراد العينة، أحدهما ذلك الموظف الذي سبق تدريبه علي لعب دور الضحية، حيث يشرح لهما المجرب المزعوم أن "الهدف من التجربة معرفة أثر العقاب على التعلم مشيرا إلي أن هناك نقص شديد فى هذا النوع من الدراسات، و أننا على سبيل المثال لا نعرف إلى أى حد يفيد العقاب فى التعلم أو الفرق بين توجيهه للأعمار المختلفة، و لذا فأنني أطلب من أحدكم أن يكون "معلما" والآخر أن يكون "طالبا" و سوف يكون ذلك عن طريق القرعة، فقد كتبت على ورقة كلمة "معلم" والثانية كلمة "طالب". فليسحب كل منكم ورقة لتحدد دوره." غير أن الورقتان كانتا تحتويان علي كلمة "معلم". وبعد سحب القرعة المزيفة يتوجه الفردان إلى غرفة مجاورة حيث يجلس الطالب "المزعوم" مربوطا على كرسى. ويشرح المجرب الهدف من تقييده بأنه لمنع الحركات المتزايدة عند توجيه الصدمات، و أيضا لعدم إتاحة الفرصة أمامه للهرب و عدم استكمال التجربة، ثم يتم توصيل قطب كهربي بمعصم الطالب مع تأكيد أن هذا القطب متصل بالمولد الكهربائى الموجود فى الغرفة المجاورة. و يكون علي (المعلم) قراءة سلسلة من أزواج الكلمات يطلب من (المتعلم) تكرارها، وعقابه إذا أخطأ في ذلك بإعطائه صدمة كهربائية عن طريق جهاز مولد الصدمات، و عليه زيادة شدة الصدمة الكهربائية كلما تكرر الخطأ. و كان علي (المتعلم) أن يرتكب العديد من الأخطاء حسب الخطة الموضوعة لكي يصل المعلم إلى ذروة الصدمات المؤلمة.
و قد تعدلت أشكال إجراء التجربة لرصد تأثيرات مثل: أن يكون الطالب (الضحية) في حجرة مجاورة بحيث لا يصل للمعلم سوي صوته، أو أن يكون علي مرمي بصره بحيث يشهد أيضا تعبيراته عن الألم، أو أن تكون التجربة نسائية تلعب فيها الإناث أدوار الطالبة "الضحية" و المعلمة إلي قائمة طويلة من التعديلات و التغييرات في تفاصيل التجربة، وقد اتضح في النهاية أن شيئا من تلك التغييرات لا يكاد يؤثر على مستوى الطاعة.
لقد كانت النتيجة صادمة بكل المقاييس حتى أن عالم النفس توماس بلاس Thomas Blass نشر عن ميللجرام عام 2002 مقالا يحمل عنوان "الرجل الذي صدم العالم". لقد كشف ميللجرام النقاب عن استعداد غلاب لدي الأمريكيين للطاعة و تنفيذ الأوامر حتى لو اقتضي الأمر تعذيب الآخرين، و أن هؤلاء "المتطوعين" أفراد عاديون لا يعانون من اضطرابات نفسية كالسادية مثلا، و أنهم لا يقدمون علي ما أقدموا عليه تحت ضغط تهديد أو إغراء من سلطة قاهرة. إنهم مجرد متطوعون للمشاركة في تجربة علمية لا يتقاضون مقابل تطوعهم سوي عدة دولارات فقط.
استغرقت تجارب ميللجرام من 1960 حتى 1964 و لم تلبث أن انتشرت التجارب في استراليا و جنوب إفريقيا و العديد من دول أوروبا. و قد قمت بعد ذلك بالإشراف علي عدد من البحوث التي أجراها أبنائي المصريين للحصول علي درجاتهم العلمية متبعين نفس أسلوب تجارب ميللجرام، و لم تكن النتائج لدينا تختلف كثيرا عنها في أي مكان في العالم حيث تراوحت نسبة من يصلون إلي النهاية القصوى في إطاعة الأوامر دون الإقدام علي الانسحاب من التجربة بين 60 و 66 %.
الطاعة الخبيثة ... لماذا؟
لقد أسفرت تلك التجارب عن نتيجة صادمة بكل المقاييس: ثمة "طاعة خبيثة" تسري في أوصال المجتمعات الحديثة، و حاول ميللجرام البحث عن الظروف التي تؤدي بالفرد إلي ذلك النوع من الطاعة، فصك تعبيرا يصعب ترجمته عربيا بكلمة واحدة: AGENTIC STATE وهي مشتقة من مصطلح "العميل أو الوكيل أو الممثل أو المندوب AGENT" بمعني أن الفرد يدرك نفسه باعتباره مجرد كائن ضعيف لا يعدو أن يكون ممثلا أو تابعا لآخر أو لآخرين أو لمؤسسة حتي لقوة معنوية غير منظورة، و أنه في هذا الموقف يتنازل تماما عن حريته في اتخاذ قرارات مستقلة، و بالتالي لا يتحمل أية مسئولية عن أفعاله أو حتي أفكاره. المسئولية يتحملها من يصدر له الأوامر؛ و حتي أولئك الذين يصدرون الأوامر المباشرة ( لاعب دور المجرب في حالة تجارب ميللجرام) قد يصدرون تلك الأوامر في ظل تلك الحالة نفسها بمعني أنهم إنما يحرصون علي إرضاء من أصدر لهم الأوامر، فيحيلون المسئولية إلي المستوي الأعلي و هكذا.
لقد شغلت هذه المشكلة منذ حوالي نصف قرن عالم النفس الشهير اريك فروم الذي أصدر كتابا ذاع صيته و تجاوزت أعداد طبعاته الحد المألوف, و كان عنوانه "الهروب من الحرية". لقد استوقفت فروم ظاهرة التفاف غالبية مواطنيه من أبناء الشعب الألماني حول هتلر الدكتاتور العنصري الذي لم يخف يوما عنصريته أو دكتاتوريته. و هاجر فروم من وطنه الأصلي ميمما صوب الولايات المتحدة الأمريكية حصن الحرية و ملاذ الأحرار, و لم يمض زمن طويل و إذا به يكتشف نفس الظاهرة تفصح عن نفسها جلية في أعماق من تعامل معهم من الأمريكيين. و توصل فروم إلي أن المجتمع في مرحلة معينة من مراحل تطوره السياسي الاجتماعي الاقتصادي يشكل أبناءه و ينشئهم علي النفور من الحرية, بحيث يضيقون بحريتهم أشد الضيق, و يسعون ما وسعهم الجهد لاكتشاف "البطل" الذي يتيح لهم التخلص من أغلالها, فيسارعون إلي الالتفاف حوله و السير وراءه و الانصياع لتوجيهاته دون تفكير أو تردد.
ربما بدا الأمر للوهلة الأولي متناقضا يصعب التسليم به, فالدول و الجماعات جميعا و بلا استثناء واحد و مهما كانت بشاعة وحشيتها, تعلن أنها محبة للحرية ساعية لتحقيقها. و لو نظرنا في بلادنا لوجدنا كافة التيارات السياسية المشروعة و غير المشروعة من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار تعلن جميعا أن الحرية هي الهدف المقدس و النهائي الذي تسعي إليه.
فلنقترب قليلا من شعارات الدعوة للحرية في بلادنا و لدي غيرنا أيضا، لنكتشف أن ثمة كلمة ثابتة تلتصق بغالبية تلك الشعارات. إنها كلمة "و لكن". نحن مع الحرية طبعا و لكن لسنا مع الفوضى. الحرية كل الحرية للشعب و لكن لا حرية لأعداء الشعب. الحرية للوطنيين الحقيقيين و لكن لا حرية للعملاء و المندسين. كل الحرية للأفكار البناءة الشريفة و لكن لا حرية للأفكار الهدامة المستوردة. كل الحرية لأنصار التقدم و لكن لا حرية للرجعيين أنصار التخلف. الحرية قيمة مقدسة و لكن في حدود الالتزام بثوابتنا الدينية و الوطنية. الحرية كل الحرية للمتدينين الطيبين المتمسكين بأوامر الله، و لا حرية لغيرهم من الكفرة و المنحلين. و حتي داخل التيارات الليبرالية تجد من يقول كل الحرية لأنصار الحرية و لكن لا حرية لأعدائها أنصار الحكم المطلق. قد تبدو كل تلك الشعارات براقة حتي نصل إلي تلك الكلمة المفتاحية "و لكن", فإذا ما تساءلنا و كيف يمكن التفرقة؟ من الذي يستطيع الفرز و التمييز؟ كان جوهر الإجابة أن صاحب الشعار هو المرجعية الأولي و الأخيرة للتمييز بين العملاء و الوطنيين, بين الأفكار البناءة و الهدامة, بين التقدميين و الرجعيين, بين الثوابت و المتغيرات الدينية و الوطنية.
خلاصة القول
إن إدانة التعذيب و التصدي له واجب مقدس، و لكن اجتثاث الجذور أو تجفيف المنابع الثقافية المغذية له ينبغي أن تكون فرض عين علي الجميع، بحيث نجرد أنفسنا قبل غيرنا من نزعات تقديس العنف و تقديس الطاعة، و أن نؤكد لأنفسنا و لغيرنا أنه لا استثناءات في إدانة التعذيب إيا كات نوعية الجرائم
إنها معركة صعبة تحتاج إلي نفس طويل.

الخميس، 27 أكتوبر 2011

لكي لا نكرر مأساة ماسبيرو

http://www.ahram.org.eg/The-Writers/News/109254.aspx

لكي لا نكرر مأساة ماسبيرو
د. قدري حفني
Kadrymh@yahoo.com
إن فظاعة ما جري في ماسبيرو يوم التاسع من أكتوبر 2011، قد تغري بمحاولة الطمأنة و المواساة؛ و لكن الضمير العلمي و الالتزام الوطني يحتمان التوجس من احتمال تكرار ما حدث بصورة أو بأخرى.
لقد جري ما جري و تتبعناه كالعادة مسجلا بالصوت و الصورة: منذ تصاعد الشحن الطائفي السياسي الإعلامي إثر انتصار 11 فبراير، و ما صاحبه من مظاهرات و اعتصامات مسيحية متكررة في ماسبيرو، إلي ما حدث في قرية برناب ثم المسيرة الأخيرة، إلي أن سالت الدماء و سقط الضحايا في مجزرة غير مسبوقة. فماذا حدث بعد ذلك؟
لقد تبرأ الجميع مما حدث، دون أن يعترف أحد بمسئوليته و لو جزئيا، مما يعني أن أحدا لا يري أنه أخطأ، بل تصرف التصرف الصحيح المناسب للحال: يري المسيحيون أنه لم يكن أمامهم سوي تصعيد احتجاجهم السلمي بعد تصاعد وتيرة الاعتداء علي الكنائس مؤخرا، و من ناحية أخري لم يكن أمام القوات المسلحة المكلفة بحماية مبني التلفزيون - رغم أن أسلحتهم خالية من الطلقات الحية - سوي التصدي لمن يطلقون عليهم الرصاص و يقذفونهم بالزجاجات الحارقة، و من ناحية ثالثة فإنه بسبب الارتباك و العنف حدثت تجاوزات غير مقصودة من التلفزيون، و من بعض جنود القوة المكلفة بحراسة المبني. تري ألا يعني ذلك أن الأطراف جميعا مستعدة لتكرار ما حدث بتفاصيله إذا ما توافرت الظروف و هي ما زالت للأسف متوافرة بكل تأكيد.
إن تاريخ المسيحيين في مصر يشهد حقا بإحجامهم عن العنف، و تاريخ الجيش المصري الذي تجمع صفوفه بين الأقباط و المسلمين ينفي عنه بالتأكيد تهمة الطائفية البشعة، و القوي السياسية جميعا سواء أعضاء تنظيمات الحزب الوطني المنحل، أو جماعات الإسلام السياسي بأطيافها جميعا، أو الأحزاب القديمة و الجديدة، أو ائتلافات شباب الثورة علي تعددها؛ الجميع يبدو منشغلا مستغرقا في ترتيب صفوفه لخوض الانتخابات الوشيكة، و الجميع يمني نفسه بفوز ما. و ليس من المألوف أن يقدم فريق علي إثارة الاضطراب قبل أن تبدأ المباراة مما قد يؤدي إلي إلغاءها.
تري إذا ما كنا جميعا أبرياء فمن الذي فعلها؟ لقد أشار قداسة البابا شنودة و ورد كذلك في تصريحات أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة إن فئة مأجورة اندست بين المتظاهرين لارتكاب تلك الجريمة.
إن الذين شاهدناهم بأعيننا و سجلتهم عدسات التصوير يمسكون بالعصي و السيوف و الزجاجات الحارقة هم غالبا أولئك "البلطجية" الذين سبق مشاهدتهم في مناسبات شتي قبل و خلال و بعد 25 يناير و نعرف جميعا أنهم يؤدون "عملهم" لحساب من يستطيع تمويلهم و تأمينهم؟ و لكن تري من هي الجهة التي تملك المال و النفوذ لاستئجار أولئك البلطجية و تسليحهم و توجيههم و تأمينهم؟
إن المجموعة السياسية الوحيدة المحرومة من خوض الانتخابات، هم رؤوس النظام السابق و لكنهم المحتجزون وراء القضبان في انتظار الانتهاء من محاكمتهم، و توشك آمالهم أن تندثر نهائيا بتسليم المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحكم لسلطة مدنية منتخبة، و هم علي معرفة دقيقة بامتدادات خيوط السلطة في المجتمع؛ و لكن تري هل ما زال لديهم من المال و النفوذ ما يمكنهم من دفع البلاد إلي هاوية دموية قد تحيي الأمل في عودتهم بشكل ما للسلطة أو علي الأقل إفلاتهم من العقاب؟ و لو كان ذلك صحيحا فهل بمقدورهم تنفيذه دون توافر حليف له سطوة لا تقاوم و قدرة لا حد لها علي التمويه؟ أم تراهم قد فقدوا الأمل و القدرة و أن ثمة طرفا آخر ما زال متخفيا هو من خطط و مول و أدار لحسابه كل ما حدث؟
و أخيرا، هل صحيح أن قوائم الجرحى و الضحايا قد خلت من أي من أولئك البلطجية المندسين؟ لو كان ذلك صحيحا فكيف استطاعوا في ظل تلك الفوضى الدموية من الإفلات سالمين؟ و هل صحيح أن قائمة من تستجوبهم النيابة المختصة قد خلت أيضا حتى الآن من ذلك المحرض الذي يمتلك من النفوذ و المال ما يكفي لحشد هؤلاء و تحريكهم بل و حمايتهم؟
بقيت كلمة:
ليس متصورا أن سيناريو المذبحة كان مخططا بحيث تنتهي عند تلك النقطة التي توقفت عندها، بل كان المتوقع أن تهب جماهير المسلمين لتحرق المزيد من الكنائس و تدمر أولئك المسيحيين الذين يعتدون علي جنود جيش مصر، و ربما حال دون اكتمال ملامح الكارثة ما لم يكن في حسبان المخططين، و هو أن الكتلة الأساسية لجماهير المصريين رغم الشحن الطائفي المستمر طيلة السنوات الماضية ما زالت غير جاهزة تماما لحرق الوطن.
و لكن ذلك لا يستبعد الإقدام علي محاولات جديدة و ليس من سبيل للتصدي لذلك سوي إنجاز أمور ثلاثة:
• الإلحاح علي ضرورة كشف من قام بالتخطيط للمذبحة و تمويلها أيا كانت هويته دون الوقوف فحسب كما اعتدنا عند الأدوات المنفذة.
• أن نعترف بأن إحساس الأقباط في مصر بالتمييز ضدهم ليس وهما و لا مؤامرة و لا ابتزازا، بل هو حقيقة ينبغي الاعتراف بها أولا لكي نستطيع تحديد حجمها الواقعي و سبل مواجهتها و مدي استعدادنا لدفع ثمن تلك المواجهة.
• الدفع في اتجاه الالتزام بإجراء الانتخابات في مواعيدها المقررة، باعتبارها الضمان الحقيقي للاستقرار السياسي و الأمني و الاقتصادي.

الأربعاء، 19 أكتوبر 2011

حوار منشور في جريدة الموجز بتاريخ العاشر من أكتوبر 2011

الدكتور قدري حفني يجيب عن السؤال الصعب «ماذا حدث للمصريين؟» الانفلات الأمني أكذوبة وهدفه القضاء علي الثورة
حفني أكد في حواره أن «حزب الكنبة» أقوي الأحزاب المصرية مشددا علي أنه التيار الوحيد الذي سيحدد خريطة مصر السياسية في الفترة المقبلة مشيرا الي أن أفضل ما في ثورة الخامس والعشرين من يناير أنها أخرجت الأقباط من عزلتهم وجعلتهم يتصرفون كمواطنين عاديين دون الاحتماء بالكنيسة أو اللجوء إليها.
وأوضح عالم النفس الشهير أن خريطة مرشحي الرئاسة لم تكتمل بعد وأنه يتوقع ظهور مرشحين جدد خلال المرحلة المقبلة مشددا علي أن المصريين كسروا حاجز الخوف ولم يعد يجدي معهم قانون الطوارئ أو حظر التجوال.. قراءة حفني للمشهد السياسي في مصر وتوقعاته للمرحلة الانتقالية نتعرف عليها في الحوار التالي:
> ماذا يحدث في مصر الآن؟
>> مصر الآن تمر بمرحلة تالية لثورة 25 يناير بما يجعلنا نشهد مرحلة مخاض وتغيير لأشياء كثيرة.. وما آراه عموماً وفي مجمله قد يثير القلق ولكنه بالتأكيد لا يثير التشاؤم وخلال الفترة الماضية رأينا مشاهد عدة إيجابية فخرجت مليونيات رفع فيها المصريون شعارات وهتافات سياسية وبعد أن بدأت هذه المليونيات تسقط ظهرت الاحتجاجات الفئوية وهذه الظاهرة أراها إيجابية ومطمئنة لأنها تغيب الفتنة الطائفية تماماً حيث كل الثوار والمتظاهرين سواء كان المعلمون أو عمال النقل العام أو الأطباء أو غيرهم لا تستطيع أن تميز من هو المسيحي ومن هو المسلم وغير مسموح بذلك وإن حاولت سيهاجمونك ليس لأنهم متعصبون بل لأنك ستحاول أن تقلل عدد المتظاهرين وبالتالي تعتبر هذه الاعتصامات هي الترجمة الجماهيرية الحقيقية لما أسماه البعض «روح ميدان التحرير» التي كان فيها الجميع مندمجين لا فرق بين ليبرالي أو إسلامي أو قبطي أو ماركسي.. والاعتصامات الفئوية التي نشهدها الآن هي أمر طبيعي جداً ومكمل لثورة يناير التي كانت ترفع شعار العدالة الاجتماعية وهذا هو نفسه ما يطلبه المعلمون والأطباء وعمال النقل العام، والمطالبة بالعدل الاجتماعي هي الترياق للفتنة الطائفية ودائماً ما تعطل الفتن الطائفية العدل الاجتماعي لأنها تشغلنا بشيء آخر وهو من المسلم ومن المسيحي وهذا ما لم يحدث الآن، وهناك أمر إيجابي آخر يكمن في طريقة مطالبة المسيحيين بحقوقهم في كثير من الأحيان كان يشعر المسيحيون بالظلم صدقاً أو وهماً فكانوا قبل يناير يذهبون إلي الكاتدرائية للبابا وبعدها يتحدث كبيرهم مع كبير المسلمين دون إعلان عما دار بينهما وينتهي الأمر بتقبيل اللحي وإعلان الصلح، ولكن بعد 25 يناير بدأوا يتصرفون كمواطنين عاديين يعتصمون ويطالبون بحقوقهم من الحكومة وليست الكنيسة وهذه ظاهرة صحية جداً.
> ولكن هناك أشخاصا قلقون من ظاهرة الاحتجاجات الفئوية كيف تري هذا القلق؟
>> أراه غير منطقي فلماذا القلق إزاء ظواهر إيجابية؟! لا ينبغي أن نتشاءم منها، كل مواطن يري ظلماً وقع عليه من حقه أن يخرج ويطالب بحقه فما المقلق في هذا؟، وبالنسبة للذين يخرجون ينادون بالدولة المدنية أو الإسلامية أو الليبرالية فهؤلاء مصريون كل واحد منهم يحب وطنه ويتمني له مستقبلا طيبا، وإن كان المستقبل يختلف من شخص لآخر فهذا يراه بشكل كذا وآخر له رؤية أخري وهكذا وهذا أمر طبيعي.
> لكن هناك من يتعصب لرأيه وأحياناً يهدد!
>> حاولت أن أتشاءم فعجزت مصر تخطو الآن خطواتها المتعثرة الأولي لتكون دولة طبيعية فالاضرابات تحدث في بلاد العالم كلها ولا أحد يتهم المضربين ولم نسمع عن أحد يتهم المضربين والمعتصمين بالخيانة ولا أحد يطالبهم بأن يضربوا في وقت آخر غير وقت العمل كيف نطالبهم بالاضراب في أوقات غير أوقات العمل والاضراب هو التوقف عن العمل؟ وهذا حق تكفله جميع قوانين حقوق الإنسان التي وقعنا عليها.
> كيف تري الانفلات الأخلاقي والأمني في الآونة الأخيرة؟
>> هناك من يدعي وجود انفلات أخلاقي كما لو كنا قبل 25 يناير والسنوات السابقة مهذبين لا نسب ولا نشتم وكانت المسلسلات نقية وتحض علي الآداب والأخلاق وإن عدنا للصحف سنجد أننا كنا نشكو في السنوات الماضية من الانفلات الأخلاقي وكان هناك خوف شديد جداً من هذا الانفلات.
> وماذا عن الانفلات الأمني؟
>> هناك من يتحدث عن الانفلات الأمني وإهانة الشرطة وأنا ضد أن تهان الشرطة وأتمسك بوجود شرطة قوية تحفظ الأمن.
> هل تقصد إهانة الشرطة للشعب أم إهانة الشعب للشرطة؟
>> أقصد إهانة الشعب للشرطة هذا أمر مرفوض تماماً، قبل ذلك كنا نري سيارة خالفت المرور فيوقفها ضابط المرور تجد من يقود السيارة يقول «أنت مش عارف أنا مين؟!» ويتصل بأحد معارفه ليتحدث مع شرطي المرور ويتركه دون اتخاذ الإجراء اللازم وهذا يعد إهانة للشرطة فكان مصدر الاهانة قبل ذلك هم أكابر الناس أما الآن فمن أهان الشرطة هم الرعاع وهناك معضلة فالشرطة هم أبناء هذا الوطن وهم مستعدون لممارسة عملهم ولكن الشعب يهينهم لكن ينبغي في لحظة أن نسلم جميعاً ونقبل بعضنا كما نحن عليه.
أما بالنسبة للانفلات الأمني فهو مبالغ فيه جداً وتصويره بهذا الشكل يضر بالمصالح العامة حيث إن الدول الأجنبية عندما تري إعلامنا يتحدث ويوحي بأننا في مصر في حالة انفلات أمني يضر بنا في وقت كهذا غير صحيح، وإن وجدت فعلاً تجاوزات أمنية ولكن ليس بهذه الصورة التي نتخيلها.
> هل توافق علي تفعيل قانون الطوارئ؟
>> قانون الطوارئ لم يفعل بشكل حقيقي وإن عدنا لأيام حظر التجول سنجد أنه لم يفعل حظر التجول ففي عصر السادات شاهدنا حظر التجول والذي كان يخرج أثناءه كان يضرب بالرصاص وهذا لم نره في الفترة الأخيرة وهذا يدل علي أنه تم كسر حاجز الخوف والدليل علي ذلك هو عدم احترام حظر التجول والجيش احترم ذلك وقدره وهذا هو المهم، واهتمامنا بقضية تفعيل قانون الطوارئ هو انشغال بقضية وهمية ليست لها معني.
> إذن تقصد وجود انفلات إعلامي؟
>> أنا متخصص في علم النفس السياسي وفي هذا العلم توجد قاعدة «إن ما تدركه هو الحقيقة» بمعني أنه عندما نتحدث عن وجود انفلات أمني فهذا سيحدث حتي وإن لم يكن موجوداً هذا الانفلات نتاجاً عن هذا الشعور نجد المواطن يبحث عن الأسلحة للحماية والدفاع عن نفسه وتجد الخارجين عن القانون يظهرون بشكل أكبر والشرطة لا تقوم بوظيفتها ولكن الشعب المصري أفشل وقوع هذا الانفلات بسلميته فمنذ يوم الاستفتاء وكان يتردد أن تحدث حرب أهلية بين من يريدون «نعم» وبين أنصار «لا» حيث كان الطرفان يوجهان الاتهامات لبعض ورغم ذلك لم يحدث شيء، وكذلك في المليونيات العديدة التي خرجت في ميدان التحرير والوقفات التي حدثت في الميادين الأخري كل هذا ولم نسمع عن وقوع حرب أهلية كما كان يشاع وهذا ما أفسده الشعب المصري.
> وبمناسبة الحديث عن جهاز الشرطة هناك من يردد أن تقاعس جهاز الشرطة بسببه أزمة نفسية؟
>> لا.. هذا غير صحيح ببساطة شديدة الشرطة تحملت في العهد السابق كثيراً فوق مهامها الأصلية فهي مؤهلة لضبط الأمن فقط، ولكن النظام السابق استخدمها في خدمة مخططاته السياسية ولم يضع الأمن في مواجهة الخارجين علي القانون بل في مواجهة المعارضين السياسيين ومن هنا تحملت الشرطة حملاً غير مؤهلة له، وفي 28 يناير انهارت فهي بطبيعة الحال عدداً أقل بكثير من الشعب ومع ذلك كان لها هيبة فانكسرت هذه الهيبة وأصبحت في مواجهة مع من هم أكثر عدداً فالكثرة تغلب الشجاعة بالإضافة إلي أنه في أحيان كثيرة كان يقتل فيها ضباط الشرطة وهم يدافعون عن أنفسهم وعن أقسام الشرطة ضد البلطجية والخارجين علي القانون ولم يذكر أفراد الشرطة كشهداء إذن يشعر الشرطي بأنه لا قيمة له ولا يوجد تقدير للتضحية التي يقدمونها ولم يتم تسليط الضوء علي أدوارهم بل يسلط الضوء علي أخطاء بعضهم مما يؤثر بالسلب علي نفسية الشرطي.
> وكيف تفسر ظاهرة البلطجة التي أصبحت مثار الحديث والقلق لدي المصريين؟
>> بداية البلطجية موجودون منذ العصر القديم وكنا نشكو كثيراً منهم والأرشيف الصحفي يؤكد ذلك فهي ظاهرة ليست مستحدثة ولكن ما يحدث أنه يتم تسليط الضوء عليها حتي تصبح ظاهرة وترتبط بعدم انضباط الأمن حتي ينادي المصريون بعودة النظام السابق والصياح بأن الثورة هي السبب في انتشار البلطجية في شوارع مصر والادعاء بعدم وجود أزمات أثناء العهد البائد، وبذلك نضحك علي أنفسنا ما يحدث حالياً هو نوع معين من غرس الانفلات الأمني.
> تتحدث وكأن هناك من يعمل علي إشاعة الفوضي وعدم الاستقرار في البلاد لأهداف خاصة؟
>> بعد 25 يناير أسماء كثيرة خسرت مصر هي نفسها كانت تمتلك مصر في وقت ما، ومن الطبيعي ألا تتقبل هذه الشخصيات خسارتها بسهولة ويحاولون بشتي الطرق أن يستردوا ما فقدوه.
>كيف يمكن قراءة خريطة الشارع المصري بعد الثورة؟
>> بمنتهي الواقعية خريطة مصر لم تقرأ حتي اليوم ولن نستطيع قراءة هذه الخريطة قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة، المصريون لأول مرة في تاريخهم يحددون من ينجح ومن يخسر في الانتخابات.. طوال تاريخنا كان يوجد توريث للحكم، ولا أقصد هنا توريث الأب للابن فقط بل توريث الحاكم السلطة لمن يختاره هو وليس لمن يختاره الشعب واليوم المصريون لأول مرة في تاريخهم لا يعلمون من هو رئيس مصر القادم وبالتالي أي حديث عن تشريح المجتمع المصري مجرد انطباعات.
والذي يرسم الخريطة هم الناس وليس المرشح فالأرضية الانتخابية تغيرت فهناك من يدعي بأن فلول الوطني والإخوان هم من يرسمون تلك الخريطة وهذا أعتقد أنه لم يعد صحيحاً ففي العصر السابق حصل الإخوان علي 88 مقعداً وكان لم يكن غيرهم من الإسلاميين علي الساحة أما الآن فأصبحت هناك 7 مجموعات إسلامية وكذلك باقي التيارات السياسية كالناصري والتجمع وائتلافات الثورة وفلول الوطني.
> ما رأيك في مسألة ترشيح ودخول أعضاء الحزب الوطني المنحل الانتخابات المقبلة؟
>> لا يقلقني خوض أعضاء الحزب الوطني المنحل الانتخابات المقبلة، لان حجبهم عن الانتخابات ومنعهم سيعطيهم فرصة الادعاء بالبطولة والتساؤل عن سبب المنع والاضطهاد بما يجعلهم يشعرون بأنهم يمتلكون شعبية وجماهيرية.. الإخوان المسلمون بنوا مجدهم من الاضطهاد وزعموا وقتها أن منعهم من خوض الانتخابات تخوفاً من حصولهم علي نسبة تأييد عالية من الشعب وبالتالي الحصار السياسي يكون بالشارع وليس من خلال المحكمة، وإن نظرنا للانتخابات الطلابية الأخيرة لم يفز الإخوان فيها وكذلك في العمداء في جامعة عين شمس فالذين فازوا من الأغلبية الصامتة والأغلبية الصامتة هي التي ستحدد مصر في الفترة المقبلة.
> بعد مرور 8 أشهر من حكم المجلس العسكري.. ما تقييمك لأدائه؟
>> في رأيي أن ما حدث في 25 يناير غير مسبوق فهو ليس ثورة شعبية فقط أو انقلابا عسكريا فقط بل هو خليط بين هذا وذاك لأن الذين شاركوا في ميدان التحرير ليسوا هم الذين دخلوا القصر الجمهوري وأخرجوا مبارك فما حدث اختراع مصري جديد، وأعيب علي من يشبهون المجلس العسكري الحالي بمجلس قيادة الثورة فهذا غير صحيح، مجلس قيادة الثورة كان تنظيماً سرياً اختار بعضهم بعضاً ولكن المجلس العسكري لم يختاروا بعضهم بعضاً فهم ضباط كبار وصلوا إلي قمة الرتب العسكرية ويحملون في داخلهم التراث الوطني للجيش المصري لكنهم ليسوا مجموعة سياسية لهم انتماء سياسي معين، وهم وفقاً لما لمسته اجتمعوا علي فكرتين الأولي رفضهم للتوريث ومن ثم رفضهم إطلاق النار علي المتظاهرين وفض الاعتصامات وهنا اجتمع هؤلاء وقرروا ما حدث وأجبروا مبارك علي التنحي وهم الآن حسبما أري في طريقهم لتسليم الحكم إلي سلطة مدنية منتخبة.
> وما رأيك فيما يشاع حول ترشيح المشير نفسه في الانتخابات الرئاسية وكيف تري تحركاته الأخيرة؟
>> لا أعتقد أن المشير طنطاوي في طريقه لذلك وما أثير حول أن المشير يغازل الشارع غير صحيح فما حدث مؤخراً جري بالصدفة فالرجل كان في أحد الأماكن في منطقة وسط البلد وعند خروجه تلقفه أحد المارة وبالصدفة التقطه صحفي بجريدة «الكرامة» وصوره فالمسألة لم تدبر حتي يقال ذلك وبالتالي أتصور أنه لا يفكر في ترشيح نفسه فما يقوم به أعتقد أنه يدخل في الأطر التلقائية والطبيعية وأيضاً أتصور أنه لن يضحي بنفسه في الانتخابات ويتعرض للخسارة فيها.
> كيف تري تصدر التيار الاسلامي بمختلف فصائله للمشهد السياسي بعد نجاح الثورة؟
>> أنا لم أرهم يتصدرون المشهد مثلما يتردد كيف ذلك وهم علي سبيل المثال لم نر حتي الآن وزيراً منهم في حين أن هناك وزراء في تيارات سياسية أخري ولكني أعتقد أن من حقهم أن يمارسوا حقوقهم بشكل طبيعي وما كانوا يتعرضون له كان غير صحيح فالإخوان المسلمون أصبحت لهم مقرات في كل مكان وعليها شعارهم وإن كان للإخوان مشكلة تستحق الوقوف عندها وهي هل هم جماعة أم حزب ومع من سنتكلم مع المرشح أم مع رئيس الحزب فهذه إشكالية تستوجب تحديدها وكذلك السلفيون أصبح لهم أحزاب عديدة كل حزب له برنامجه الخاص، وللجماعات التي كانت تتبني العنف تراجعت عنه بمراجعات شجاعة فكل فصيل أو تيار خرج ببرنامج انتخابي وبرؤيته الخاصة ينادي الناخبين باختياره معلناً عن نفسه بما يجعل فكرة استخدام القوة بعيدة.
> ولكن هناك نوعا من القلق تجاههم نتيجة لما يبدونه من آراء قد تغضب البعض؟
>> بالعكس فإعلان إحدي القوي الإسلامية عن رأيها في أنهم لو تولوا سيفرضون الجزية علي المسيحيين فهذا رأيهم وبناء عليه يحدد الناخب إن كان يوافق علي ذلك أو لا فهو حر في اختياره، وحزب الكنبة أي الأغلبية الصامتة هي التي ستحدد والقلق طبيعي والمسلمون في مصر لهم شكل خاص عن باقي المسلمين في كل دول العالم وإن سألت أي مصري عن مذهبه سيقول لك إنه سني وأي مذهب سني تتبعه من الأربعة تجده لا يعرف فنحن هنا في مصر لسنا متعصبين ولا متزمتين.
> هل تتوقع أن يصل الإسلاميون للحكم في مصر؟
>> لكي يصل الإخوان أو غيرهم من الإسلاميين إلي السلطة في مصر لابد أن يكونوا أكثر اعتدلاً حتي ينتخبهم المصريون، فأغلب المصريين وافقوا علي وثيقة الأزهر التي تنادي بتولي المناصب بالانتخاب ولدينا مشهدان بالقطع سيكون لهما تأثير في ذهن السلطة القادمة وهما مشهد ميدان التحرير ومشهد محاكمة مبارك، إذن أصبح حتمياً أن يكون العدل هو الأساس في المستقبل سواء تولاها الإسلاميون أو الليبراليون أو اليساريون والناخب هو الذي سيحدد وإن اختار الشعب أيا منهم فله الحق في الحكم.
> رددت جملة أن الناخب هو الذي سيحدد الخريطة السياسية والحاكم القادم فكيف ذلك وهناك من يشكك في قدرة المصريين علي حُسن الاختيار مستنداً إلي وجود نسبة عالية من الفقر والجهل في المجتمع؟
>> الأمية في الهند أعلي بكثير من مصر واستطاعوا أن يتقدموا والأمية تعني الجهل بالقراءة والكتابة ولكنها لا تعني أنهم لا يعرفون مصلحتهم، والفقراء طلاب عدل أو رشوة ومن يستطيع رشوة الفقراء كلهم؟! ومن يستطيع تحقيق ذلك؟! ولابد ألا نبالي بهذه النسب في الانتخابات القادمة.
> ما هي المواصفات التي تتمناها في رئيس مصر القادم؟
>> أن يكون عادلاً «العدل أساس الملك».
> ما رأيك في الأسماء التي خرجت تعلن عن ترشحها في الانتخابات الرئاسية المقبلة؟
>> لهم الحق في ذلك وسيظهر آخرون في الفترة المقبلة والانتخابات هي التي ستقرر من هو الأفضل.
> هناك جدل كبير حول الرئيس القادم حول سنه وخبراته وانتمائه السياسي؟
>> لكل اختيار مبرر كبير السن يقال عنه أكثر حكمة وخبرة، وصغير السن أكثر نشاطاً وقدرة علي التحرك، ومن يستطيع أن يقنع الناخبين فهو الأولي.
> ما هو تحليلك لمحاكمة مبارك.. وكيف رأيته في القفص؟
>> مبارك حكم علي نفسه وصدر الحكم في ظني حينما نادي القاضي عليه وأجابه مبارك بهذه الطريقة وبهذه التصرفات فهو هنا تعامل كأنه متهم، كنا نخشي أن يقول مبارك أثناء محاكمته أنا رئيس جمهورية مصر العربية فقد يتسبب في مشكلة كبيرة وكنا نتوقع أيضاً أن يعتذر للشعب المصري، لعله قد يستطيع أن يكسب تعاطفاً شديداً ولكنه تعامل كمتهم راض بالتهمة وطبيعي في أي متهم أن يقول إنه بريء.. صدام حسين أثناء شنقه قال أنا رئيس العراق وفي كل المحاكمات السياسية نجد المتهمين يرفعون رؤوسهم ويتسابقون علي الظهور أمام الكاميرات وحتي الذين قتلوا السادات من الجهاديين كانوا يظهرون أمام الكاميرات فكانوا يعتبرونها شرف وما حدث أثناء المحاكمة واستوقفني هو أن ابنيه كانا يحاولان إخفاءه عن الظهور وهذا يحدث فقط في القضايا الأخلاقية مثل الدعارة والرشوة أما القضايا السياسية يحرص المتهم فيها علي الظهور.
> ما تحليلك النفسي لمبارك وقتها؟
>> هو بطيء وهادئ ويتردد في أن يغامر ويتخذ موقفا وموقفه من المحاكمة يؤكد رغبته في تبرئة نفسه ولا يريد أن يحكم عليه القاضي وهكذا كان جميع المسئولين الذين تمت محاكمتهم كانوا يغطون وجوههم ومبارك حكم علي نفسه وقضي الأمر حتي لو أخذ البراءة فهو في رأيي الخاص أجرم في حق مصر والمصريين.
> وكيف تري باقي المحاكمات؟
>> النظام السابق لم يدافع عن نفسه ويشعر بالخزي والعار وكنت أنتظر منهم أن يدافعوا عن أنفسهم وعن نظامهم وأن الثورة ضد مصالح مصر وهذا لم يحدث مما يعد أمراً غريباً ولكنهم ادعوا أنهم جميعاً مع الثورة وأيدوها.
> ثورة 25 يناير هل هي ثورة شباب أم ثورة الشعب المصري كله من وجهة نظرك؟
>> أقترح عدم تسميتها ثورة فثورة 1919 لم تسم نفسها وثورة 52 لم تسم نفسها وما الضروري في تسميتها الآن، حدث ما حدث ومسألة كونها ثورة الشباب علي أساس أن الشباب هو من قام بها والأمن المركزي أيضاً شباب والحزب الوطني به شباب والبلطجية في عمر الشباب لا يوجد رجل كبير في السن يستطيع أن يقوم بهذه الأفعال ولذلك لا يجب أن ننشغل إذا كانت ثورة الشباب أم ثورة الكبار.

التفاوض بين علم النفس و السياسة

التفاوض بين علم النفس و السياسة
ا • د • قدري حفني
مقدمة
التفاوض بين التعريف القاموسي والسمعة الاجتماعية
جذور السمعة الاجتماعية السلبية للتفاوض
لماذا نتفاوض؟
التفاوض من موقع الضعف
نحن جميعًا نمارس التفاوض طيلة الوقت وطيلة الحياة
حول آليات الضغط في عملية التفاوض
المعلومات والتفاوض
الاتصال غير اللفظي والتفاوض
خاتمة: نظرة إلي المستقبل
مقدمة
الصراع قدر البشر منذ وجدت الحياة، ومنذ وجد البشر. وقد درج البشر منذ فجر البشرية علي إنهاء صراعاتهم بالقوة التي تطورت صورها من قوة البدن إلي قوة العدد إلي قوة الاقتصاد إلي قوة السلاح إلي غير ذلك من أدوات القوة المادية، ولم تزل القوة تمثل حتى يومنا هذا عاملًا مفضلًا لإنهاء الصراعات سواء بين الأفراد، أو بين الجماعات• إلا أن ذلك لا ينفي أن البشر قد وضعوا أيديهم عبر تطورهم علي أساليب أخري تندرج تحت مسمي الأساليب السلمية لحل الصراعات، وعلي رأس هذه الأساليب أسلوب التفاوض•
التفاوض بين التعريف القاموسي والسمعة الاجتماعية
تفيض الكتابات عن عملية التفاوض بالعديد من التعريفات للمصطلحات، والعديد من النصائح للمفاوضين، فضلا عن آلاف القصص والمواقف التاريخية المثيرة لأحداث جرت خلال عمليات تفاوضية، فضلا عن العديد من التصنيفات لأساليب واستراتيجيات عملية التفاوض•
يعرف روبين و براون التفاوض بأنه "عملية يقرر بمقتضاها كل طرف من أطرافها ماذا سيقدم للآخر، وما الذي سوف يتقاضاه منه في المقابل" . أما تومبسون فيعرف التفاوض باعتباره "شكل مركب من أشكال عملية اتخاذ القرار يواجه فيه المتفاوضون العديد من الخيارات والمسارات التي يتخذون قراراتهم حيالها وفقًا لرؤيتهم للمهمة الموكلة إليهم" . ويحاول كروس أن يحدد الخاصية المميزة لعملية التفاوض مقررا أن المفاوضات تجري " حينما سكون حصول المشاركين فيها علي مكاسب عند توقيع الاتفاق مرهونًا باختياراتهم الحرة خلال التفاوض، وليس محتومًا سلفًا بما يحيط بكل منهم من ظروف" و رغم أننا لا نستطيع حصر التعريفات التي يفيض بها التراث للتفاوض، فإننا نفتقد محاولة للإجابة علي سؤال أساسي؟ لماذا نتفاوض أصلًا؟ هل ثمة ضرورة لعملية التفاوض؟ وتكتسب مثل تلك المحاولة أهمية خاصة في مجتمعاتنا العربية في ضوء ما اكتسبه مصطلح التفاوض من تشويه يكاد يقصره علي المجال السياسي، وما ترتب علي ذلك من اكتسابه مدلولات اجتماعية سلبية تربط بينه وبين العجز والاستسلام والضعف والتخاذل في مواجهة العدو بالقوة.
وتعد قضية السمعة الاجتماعية للمصطلحات قضية جديرة بالنظر، حيث لا يقتصر معني بعض المصطلحات علي ما يرد بشأنها في القواميس والمعاجم، إذ تنطلق تلك المصطلحات بعيدًا عن التحديدات القاموسية المعجمية لتكتسب معانٍ ومدلولات تاريخية اجتماعية، بل وتصبح لها سمعة اجتماعية شأنها شأن البشر• وفي حقيقة الأمر فإن سمعة أي مصطلح لا تتحدد وفقًا لتعريفات أهل الاختصاص الفني فحسب، بل يتدخل في تحديدها بدرجة أكبر التاريخ الاجتماعي لتطور الاستخدامات اليومية لذلك المصطلح• ولا يعد مصطلح "المفاوضات" استثناءًا من هذه القاعدة• شأنه شأن مصطلحات مثل "أنصار السلام"، أو "العالم الحر"، أو "المحرقة" ، والتي لا يمكن فهمها حق الفهم إذا ما اعتمدنا فحسب علي استقراء المعني من القواميس والمعاجم• بل إن كلمة بسيطة مثل "الجماعة" قد تعني في التراث الإسلامي معني يخرج بها عن كونها تدل علي مجرد مجموعة من الأفراد، فإذا نظرنا إلي السياق الاجتماعي للفلاحين المصريين لوجدناها تشير إلي الزوجة، أما لدي الصهاينة فإنها تعني نوعـًا من المؤسسات العسكرية الزراعية ذات الطابع الخاص في تنشئة الأطفال•كذلك الحال بالنسبة لمصطلح "التفاوض" الذي نحن بصدده•
جذور السمعة الاجتماعية السلبية للتفاوض
و لعل السمعة السلبية للتفاوض حتى لو كان ناجحا و خاصة في مجال المواجهات السياسية العسكرية ترجع إلي أن الانتصار العسكري الحاسم يعني حلول السلام باستسلام العدو استسلاما غير مشروط، دون مفاوضات و لا مناورات و لا حتى تدخل من المهزوم في صياغة وثيقة الاستسلام. هكذا كانت انتصار الحلفاء علي دول المحور و استسلام ألمانيا و اليابان، لقد وقع الإمبراطور الياباني وثيقة استسلام اليابان أمام الجنرال الأمريكي ماك ارثر في 2 سبتمبر 1945 بعد 18 يوما من إعلان الهزيمة، كما أن ممثلو القيادة العليا الألمانية قد وقعوا وثيقة الاستسلام في 15 مايو 1945 بعد 13 يوما من سقوط برلين. و لكن الأمر يختلف فيما يتعلق بحل الصراع بالوسائل السلمية، الذي يستغرق وقتا أطول و لا تكون نتائجه علي نفس الدرجة من التمييز القاطع بين الطرف المنتصر و الطرف المهزوم.
إن إبرام معاهدة بين طرفين بعد مفاوضات طويلة إنما يعني أن كل طرف قد وجد في توقيعه علي المعاهدة فائدة ما، بعبارة أخري أكثر وضوحا فإن توقيع مصر و إسرائيل علي المعاهدة إنما يعني أن لإسرائيل مصلحة في التوقيع كما أن لمصر مصلحة كذلك. و هذا هو الفارق بين نتائج حل الصراع بالطرق السلمية، و حله عن طريق الحسم العسكري. في الحالة الأخيرة يختص الطرف المنتصر بكل المكاسب، أما في الحالة الأولي فإن الهدف يكون بلوغ الطرفين نقطة وسطية تحقق أكبر قدر من المكاسب لكليهما، و لكنها لا تمثل التحقيق الكامل للحد الأقصى لما يريده طرف علي حساب الطرف الآخر.
لماذا نتفاوض؟
ولعلنا لو نجحنا في الإجابة علي ذلك السؤال: لماذا نتفاوض؟ نستطيع أن نعيد لمصطلح التفاوض معناه الرحب، وربما ننجح في تحسين سمعته الاجتماعية•
لكي نحاول الإجابة علي ذلك السؤال فقد اصطنعنا تعريفا للتفاوض باعتباره "محاولة أن يكسب المرء إلي جانبه أولئك الذين يري أن لديهم تحقيق مصلحة مادية أو معنوية له، ولكنهم لا يمنحونها له طواعية وليس بمقدوره الحصول عليها عنوة لاعتبارات فيزيقية أو أخلاقية أو قانونية •••إلي آخره" بعبارة أخري فإن التفاوض يقوم علي توافر عدة شروط مجتمعة:
أولًا: أن يكون لدي المرء ما يحتاجه حقيقة، وإلا فقدت المفاوضات معناها وأصبحنا حيال مجرد لعبة تفاوضية• و كثيرًا ما يقدم البعض علي ممارسة هذه اللعبة بشكل أو بآخر ولأهداف شتي: ربما لتمضية وقت الفراغ خلال التسوق، أو لمجرد الفضول لمعرفة السعر الفعلي لسلعة معينة، أو بغرض التدريب المخطط، أو بهدف حرف اهتمام شخص أو جماعة عن أمر ما يعد خفية، إلي آخره•
ثانيًا: أن يكون في مقدور أحد الأطراف تحقيق هدف الطرف الآخر أو مساعدته علي تحقيقه، أي أنه لا مجال للتفاوض مع من لا يملك تلك القدرة• ويحدث كثيرًا أن تبدأ عملية التفاوض بل وتقطع شوطًا ليتضح للمرء أن الطرف الآخر لا يملك بالفعل إمكانية تلبية طلبه، وأنه ربما أقدم علي التفاوض بناءًا علي تقدير خاطئ لحقيقة موضوع التفاوض، أو لمجرد المجاملة وتطييب الخاطر، أو للتظاهر بالأهمية إلي آخره•
ثالثًا: أن يكون أحد الأطراف محجمًا عن تحقيق الهدف أو المساعدة علي تحقيقه فور الطلب، مراعاة لمعايير أخلاقية أو لمصالح اقتصادية،أو لتراث تاريخي، أو لغير ذلك من الأسباب• فبدون ذلك الإحجام تنعدم الحاجة للتفاوض أصلًا، إذ يلبي الطلب فور الإعلان عنه كما في حالة شراء سلعة لها ثمن محدد مقبول ومتوافر• ورغم أنه نادرًا ما يحدث تفاوض إذا ما انعدم هذا الشرط، فقد يلجأ البعض أحيانًا إلي تلبية طلبات الآخر مباشرة بمجرد تقديمها وإنهاء عملية التفاوض حتى قبل الشروع فيها، رغم ما قد يكون في ذلك من تنازلات، ترقبًا لمصلحة أكبر، أو تخوفًا من خسارة وشيكة، أو ما إلي ذلك من اعتبارات•
رابعًا: أن يوافق الجميع علي موضوع التفاوض، أو أچندة المفاوضات• فأطراف التفاوض جميعًا تخضع لنفس القانون السلوكي : لا سلوك بدون دافع• ولذا فإنه من المنطقي ألا يقبل أي طرف المفاوضة لمجرد تلبية احتياجات طرف آخر إلا إذا رأي في ذلك إشباعًا لحاجة لديه أيضًا• ويحدث كثيرًا أن يبدي أحد الأطراف عدم اهتمامه بالموضوع أصلًا، أو حتى يبدي أن الموضوع المطروح "أمر مبدئي غير قابل للتفاوض بشأنه"• وهنا قد يبذل الطرف المقابل قصارى جهده لتبين ما إذا كان ذلك الرفض يرجع حقيقة إلي عدم الاهتمام بالموضوع، أم أنه مجرد تمنع لا يستهدف سوي تحسين شروط التفاوض• وعلي أي الأحوال فإن جانبًا كبيرًا من جهود التمهيد للمفاوضات يتركز في التوصل إلي قبول كل الأطراف -طوعًا أو كرهًا-بأن نجاح المفاوضات يحقق استفادتهم جميعًا•
ولعل ذلك هو ما يميز أسلوب التفاوض عن أسلوب استخدام القوة• فاستخدام القوة يكون عادة بقرار منفرد، يعتمد علي المفاجأة دون اتفاق أطراف النزاع علي المواجهة، في حين أن أحدًا لا يستطيع أن يتفاوض إلا إذا قبل الطرف الآخر بذلك• وتكمن هنا مفارقة تستوقف النظر حيث يحدث في كثير من الأحيان ممارسة ضغط معنوي أو اقتصادي بل قد يصل إلي حد الضغط بالقتال الفعلي علي أحد الأطراف، بحيث يصبح في حاجة للتفاوض فيجلس مرغمًا إلي مائدة المفاوضات•
خامسًا: ألا يكون في مقدور أحد الأطراف اعتمادا علي قواه المادية الذاتية إجبار الطرف الآخر علي القبول فورًا بتلبية طلباته • وقد يكون الحائل دون استخدام القوي الذاتية حائلا أخلاقيًا، أو اجتماعيًا، أو مجرد الضعف الموضوعي لتلك القوي•
التفاوض من موقع الضعف
وقد يثير هذا الشرط الخامس والأخير جدلًا متوقعًا: تري ما المبرر إذن للمفاوضات طالما أنه ليس في المستطاع تحقيق الهدف اعتمادًا علي القوي الذاتية؟ ألا يعني ذلك تعارضا مع حقائق علم التفاوض والتي تؤكد وبحق أن أحدًا لا يستطيع أن يحصل من خلال المفاوضات علي أكثر مما تسمح به موازين القوي الفعلية؟ وأنه ليس ثمة قوة سحرية تمكن المفاوض الماهر من الحصول علي ما يريده كاملًا ، بصرف النظر عن موازين القوي؟
رغم صحة تلك الحقائق، فإن الأمر في حاجة إلي تحديد ماذا نعني بميزان القوي• وتزداد أهمية ذلك إذا ما وضعنا في الاعتبار أمرين:
الأمر الأول أنه كثيرًا ما يتوجس المفاوضون شرًا حين تضطرهم ظروفهم العملية للإقدام علي التفاوض مع طرف يتفوق عليهم في مجال موازين القوي كما يفهمونها،خاصة في بداية خبراتهم بالمجال، وعادة ما يؤدي اضطرارهم للإقدام علي التفاوض في ظل هذا التوجس إلي اختلال أدائهم التفاوضي بصورة قد يترتب عليها خسائر كبيرة• ولذلك فإن برامج إعداد وتدريب المفاوضين لا تخلو عادة من جانب يتناول هذه القضية، قضية التفاوض من موقع اختلال موازين القوي لصالح الطرف الآخر•
الأمر الثاني يتعلق بما ألمحنا إليه من سمعة سيئة لمصطلح التفاوض في عالمنا العربي، حيث يقوم الجانب الأكبر من تلك السمعة السلبية علي أن الإقدام علي التفاوض بشأن حقوقنا القومية مع من ينتهكون هذه الحقوق إنما هو اختيار -بوعي أو بغير وعي- للاستسلام والتفريط، طالما أن ميزان القوي ليس في صالحنا•
وعلي أي حال فإن التفاوض من موقع اختلال تلك الموازين لا يقتصر بحال علي المجال السياسي، بل يتجسد في العديد من المواقف: تفاوض طفل مع والده لزيادة المصروف، تفاوض عميل مع بنك للحصول علي قرض، تفاوض مجموعة من السجناء مع إدارة السجن لتحسين أحوالهم المعيشية، فضلا عن تفاوض ممثلو شعب محتل مع قوي الاحتلال• تري هل تسفر مثل تلك المفاوضات حتمًا عن رضوخ الطرف الأضعف للطرف الأقوى؟ هل ننجح دائمًا في مفاوضاتنا مع أطفالنا؟ هل ينجح البنك دائمًا في فرض شروطه علي العميل؟ هل تنجح إدارات السجون في كل الأحوال في خروج المسجونين صفر اليدين من مفاوضاتهم؟ هل نجحت قوي الاحتلال دائمًا في كسر إرادة الشعوب علي مائدة المفاوضات؟ إن وقائع التاريخ فضلا عن الخبرات الواقعية الحياتية تشير إلي أن نتائج المفاوضات لا تسفر دائمًا عن انتصار الكبار، والبنوك، والسجانون، والمحتلون، بل كثيرا ما يحدث العكس
ولكن يبقي الأمر في حاجة لتفسير تري كيف يستطيع الطرف الأضعف في كثير من الأحيان أن يخرج من المفاوضات وقد أحرز شيئًا؟ الأمر لا يرجع بحال إلي مجرد مهارة المفاوضين في استخدام آليات التفاوض، بل يرجع إلي حقيقة أن للطرف الأقوى أيضًا أهدافًا لا يستطيع تحقيقها بصورة كاملة إلا إذا تعاون معه الطرف الأضعف• البنوك تضع في اعتبارها أن فقدان العملاء يقضي في النهاية علي البنك ذاته• والسجانون يضعون في اعتبارهم ضرورة الحفاظ علي الهدوء في السجون باعتباره دليلًا علي كفاءتهم في الإدارة، وقوي الاحتلال تضع في اعتبارها أهمية استقرار الأوضاع علي المدي البعيد للحفاظ علي الحد الأدنى من المكاسب. بل إن الأطفال يحققون مطالبهم التي نعترض عليها في البداية باستخدام سلاح التفاوض
و لنحاول أن نقترب معا من الطفل مفاوضا . لقد كان لي شخصيا حظ الممارسة العملية في مجالين من مجالات علم النفس تبدو الشقة بينهما بالغة: مجال التنشئة الاجتماعية للأطفال، ومجال التفاوض السياسي. و اتضح لي من جماع الممارسة في المجالين أن الطفل يمتلك بحكم ضعفه الفيزيقي قدرة هائلة في مجال محدد من مجالات إدارة الصراع هو مجال التفاوض.
الطفل البشري هو أضعف المخلوقات قاطبة، ولكنه يولد مزودًا بسلاح هائل يستطيع أن يستثمر به إمكاناته المتواضعة ويتمثل ذلك السلاح في قدرته غير المحدودة علي التعامل مع أولئك الذين بيدهم مقادير حياته. إن أول أسلحة الطفل يتمثل في البكاء، وغني عن البيان أنه سلاح بالغ الضعف إذا ما قورن بما لدينا نحن الكبار من أسلحة. ورغم أن البكاء يكون في البداية استجابة طبيعية تلقائية للإحساس بالألم البدني الناجم عن الجوع أو البلل أو ما إلي ذلك، فإنه سرعان ما يتحول لدي الطفل إلي سلاح لا علاقة له البتة بأي نوع من أنواع ذلك الألم البدني، ليصبح أداة يضغط بها الطفل علي الكبار لكي يحققوا له ما يريد مما لا يستطيع تحقيقه بنفسه. ولو تأملنا أطفالنا لوجدنا أنهم يطورون تلك الأداة البسيطة وينوعون في تشكيلها وفقًا لما يقتضيه الموقف. فالبكاء يستخدم أحيانًا لإزعاج من بيدهم الأمر بحيث قد يضطرون إلي تلبية المطالب إيثارًا للهدوء وتخلصًا من الإزعاج. وقد يستخدم البكاء أحيانًا أخري لاستدرار عطفهم مما قد يدفعهم إلي تلبية المطلب إشفاقًا وحبًا. وقد يستخدم البكاء في أحيان ثالثة للعتاب والتحذير من تكرار الفعل المرفوض كترك الطفل وحيدًا. ونغمة البكاء تختلف من حالة لأخرى ومن موقف لآخر، فهي تقترب من الصراخ في الحالة الأولي، في حين أنها قد تكون إلي الأنين أقرب في الموقف الثاني، وهي قد لا تعدو أن تكون نهنهة في الموقف الثالث.
أذكر موقفًا لطفل استخدم فيه بمهارة فائقة تلك النغمات الثلاث في ثلاثة مواقف متتالية. لقد اضطرت أمه لحمله إلي منزل جدته صباحًا لكي تذهب إلي عملها. وما أن وصلا واستدارت متجهة للباب حتى انطلق صراخه احتجاجا آملًا أن ينجح في إثنائها عن قرارها. ولكن لم يكن بد من أن تتركه الأم في قمة تزايد صراخه الي اقصاه. وبعد فترة وجيزة أدرك بعدها أنه لا أمل في تراجعها عن قرارها فقد نفذته بالفعل. ولم يلبث آنذاك أن تلفت صوب جدته وتحول صراخه إلي نوع من الأنين مختلطا بكلمات تحبب للجدة مشفوعة بقائمة من طلبات الحلوي واللعب المفضلة الي آخره. وانطلق الطفل يلعب الي أن عادت الأم. وإذا به يعاود البكاء هذه المرة ولكنها النهنهة كما لو كان يعاتبها محذرًا من تكرار ذلك.
وإذا ما حللنا هذا الموقف مستخدمين لغة التفاوض التي يعرفها الكبار لاستطعنا أن نتبين بسهولة أن الطفل في هذه السن المبكرة - سن ما قبل المدرسة - قد استوعب قيمة مالديه من أداة لإدارة الصراع، وطور تلك الأداة لتتخذ أشكالًا مختلفة، واستخدم كل شكل في توقيته المناسب، فللصراخ وقت يختلف عن وقت الأنين وللنهنهة وقتها المناسب كذلك. ومن ناحية أخري فقد توافرت لديه المرونة الكافية للإقلاع عن استخدام سلاح لم يعد مناسبًا للموقف، فلم يستمر في ممارسة شكل محدد من أشكال البكاء بعد أن أدرك بشكل واقعي عدم جدواه. بل انه استوعب أيضًا أهمية الاستفادة من إمكانية تعديل الطلبات، فلا بأس من الحصول علي بعض اللعب والحلوى وحب الجدة أيضًا، كثمن معقول للكف عن البكاء، ولكن تقاضيه ثمنًا للتهدئة لا ينبغي أن يفهم علي أنه تنازل عن المطلب الأساسي ومن هنا كانت نهنهة العتاب.
لقد اكتفينا بهذا الموقف فحسب من بين العديد من المواقف التي تكشف عن حقيقة مؤداها أن الأطفال يمارسون بالفعل مهارات إدارة الصراع بالتفاوض منذ البدايات الأولي لحياتهم. إنهم يمارسون في البداية العديد من أساليب التحالف والتفاوض، والرفض اللفظي المعلن ، والاحتجاج السلبي بكافة مظاهره التي تصل بالأطفال أحيانًا إلي ممارسة أشكال جنينية من "العصيان المدني" كرفض التحرك مع عدم تنفيذ التعليمات، وكالامتناع عن تناول الطعام إلي آخره. ولكنهم للأسف لا يستمرون كذلك فنحن الكبار إيثارا لهدوئنا واستقرار مجتمعاتنا علي ما هي علي، ونفورًا من دفع ثمن التغيير، نتكاتف لدفع أطفالنا إلي ما يتنافي مع فطرتهم التلقائيّة الطبيعيّة . الطفل بفطرته محاور ، ندفعه إلي الصمت . الطفل بفطرته متسائل، ندفعه إلي تقبل التلقين. الطفل بفطرته مفاوض فعّال، ندفعه إلي الجمود العدوانيّ . الطفل بفطرته تلقائي ، ندفعه إلي التصنع والمداهنة ، الطفل بفطرته ميّالٌ للمشاركة ، ندفعه إلي الإنطواء والتوجس من الآخرين . ولم يكن غريبًا بعد كل ذلك، أن تؤدّي تنشئتنا لأطفالنا إلي حيث لا يجد الطفل أمامه لمواجهة مواقف الحياة إلّا واحدًا من سبيلين لا ثالث لهما : إمّا التصدّي بالعنف لإزالة ما يحول بينه وبين ما يريد تحقيقه ، ذلك إذا ما استطاع ، فإذا لم يستطع ، وكانت العقبة أقوي من إمكاناته ؛ لم يعد أمامه إلّا الانتحار أو الاستسلام بلا شروط.
نحن جميعًا نمارس التفاوض طيلة الوقت وطيلة الحياة
لو حاول أي منا أن يكتب قائمة تتضمن ما يريده من الآخرين، لوجد أن هذه القائمة تمتد إلي ما لانهاية، وأنها تضم قائمة بالغة التنوع والاختلافات إجازة من العمل، زيادة في المرتب، مشتريات أفضل بأسعار أقل، إعفاءات ضريبية، الحصول علي أعلي سعر لأشياء نعرضها للبيع، إلي آخره• ولا تقتصر القائمة علي تلك الأمور المادية المحسوسة فحسب• نحن نريد من الآخرين كذلك العديد من الأمور المعنوية التي قد تفوق في قيمتها أحيانًا الأمور المادية كالعدالة، والحرية ، والحب والأمن، والمكانة الاجتماعية وما يرتبط بها من ألقاب ونياشين وأوسمة •
خلاصة القول أن ثمة سنة من سنن الكون مؤداها أنه لا يوجد فرد يستطيع تحقيق احتياجاته جميعًا بمعزلٍ عن الآخرين، وأن الجميع في حاجة للجميع، ومن ثم فإننا جميعًا نمارس التفاوض طيلة الوقت وطيلة الحياة
إنك لو نظرت إلي عالم البشر المحيط بك لوجدته عبارة عن مائدة مفاوضات هائلة لا حدود لها• الجميع يجلسون حولها، وكافة الموضوعات مطروحة عليها للتفاوض• وأنت طرف مشارك في هذه المفاوضات• شئت أو أبيت• تكلمت أو اكتفيت بالإيماءات أو حتى التزمت الصمت• كبيرًا كنت أو صغيرًا• ذكرًا كنت أو أنثي• إنك تتفاوض دائمًا مع أفراد أسرتك، ومع رؤسائك، ومع مرؤوسيك، ومع منافسيك، ومع البائعين، ومع المشترين إلي آخره• بل انك تتفاوض أيضًا مع رموز ومؤسسات معنوية كإدارة المدرسة، وإدارة المرور، ومصلحة الضرائب، وشركات الطيران، وإدارة الكهرباء إلي آخره• وقد تكون أنت شخصيًا رمزًا لأي من مثل تلك المؤسسات وتتفاوض باسمها مع طرفٍ أو أطراف أخري• تري ماذا يجري داخل تلك الشبكة المعقدة من عمليات التفاوض؟
حول آليات الضغط في عملية التفاوض
يمارس المفاوضون خلال مفاوضاتهم العديد من آليات الضغط لتحقيق أهدافهم، وتفيض الكتابات في هذا الصدد بما لا حصر له من تلك الآليات، نكتفي بعرض بعض عناوينها:
• الإنهاك بالتوريط ( مثال: مفاوضات الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفييتي في السبعينيات و استغلال أزمة القمح في الضغط علي السوفييت رغم ارتفاع السعر الذي عرضه)
التوريط بالوقت: التفاوض حول تحديد موضوع التفاوض، و التوقيت، و المكان ، و أولويات موضوعات التفاوض
التوريط بالمال: زيادة تكلفة إقامة الوفود، و مكافآت المستشارين
التوريط بالجهد: إثارة العقبات القانونية، و حشد البرنامج ببرامج بروتوكولية.
• التلويح بوجود منافس لديه عرض أفضل
• التدرج (خذ و طالب: نموذج كيسنجر) في مقابل الخبطة الواحدة و تعني عمليا رفض التفاوض (حين يحس المفاوض أن الوقت غير مناسب: نموذج اللاءات العربية)
• المخاطرة (التعريق- الدفع إلي الحافة:نموذج مولوتوف)
• توزيع الأدوار: المفاوض الشرس، والرئيس الطيب
• الإحاطة بالاحتياجات والقدرات الحقيقية للطرف الآخر وليس مجرد مطالبه المعلنة
• العلاقات الشخصية مع الجانب الآخر:المناسبات الشخصية. اللمسات الإنسانية.
• الالتزام بالمعايير الاجتماعية تمايزًا، أو التجاوز عنها مجاملة
• السوابق التاريخية (مثال: كامب دافيد في مؤتمر مدريد)
• الضغط بالملل ( لن أغادر مقعدي قبلك)
• البرود الانفعالي (الأسوأ هو من يفاوض باسم نفسه)
المعلومات والتفاوض
تلعب المعلومات دورا أساسيا في توجيه عملية التفاوض، سواء كانت تلك المعلومات متعلقة بموضوع التفاوض، أو بشخصيات المفاوضين• إن معرفة التاريخ الشخصي لأفراد وفود المفاوضات، واتجاهاتهم السياسية والدينية، بل و حتى تواريخ ميلادهم ، قد تلعب دورا في مرحلة ما من مراحل التفاوض•
وينبغي علي المفاوض أن يحدد قبل بدء المفاوضات أي المعلومات يطلب معرفتها عن الطرف الآخر، وأي المعلومات يود إيصالها إليه، وأيها يسعي لإخفائها عنه• ولعل أهم ما يسعي المفاوض إلي معرفته هو الحد الأدني الحقيقي الذي لا يستطيع الطرف الآخر في المواجهة النزول عنه، وهو الأمر الذي تحرص الأطراف المتفاوضة علي إخفائه عن بعضها البعض• أما إذا كانت المفاوضات تجري بين طرفين متعاونين ، أي أنها بالأحري نوع من المباحثات التعاونية التي تستهدف حل مشكلة معينة، فإن المعلومات المطلوبة في هذه الحالة تتركز في التعرف علي احتياجات الطرف الآخر واهتماماته ورغباته بهدف التوصل إلي الأساليب البديلة لإشباعها•
أما فيما يتعلق بالمعلومات التي يحرص المفاوض علي إخفائها عن الطرف الآخر، فإنه ينبغي أن يكون مهيئًا للتصرف إذا ما سئل عنها مباشرة؟ هل يكذب، ويضحي بمصداقيته خاصة إذا ما كان مفاوضًا محترفًا؟ هل يتجاهل السؤال ويرد بسلسلة من الأسئلة الاستيضاحية؟ هل يقرر صراحة أن هذا الموضوع سري لا يجوز الإفصاح عنه؟
ولا تقتصر إدارة المعلومات علي مستوي تبادل المذكرات المكتوبة، كما لا تقتصر أيضًا علي الحوار بالكلمات، فالاتصال بين البشر لا يقتصر علي الألفاظ وحدها، بل إننا قد لا نكون مبالغين إذا ما قلنا أن الجانب الأكبر من فهمنا لما نسمعه من ألفاظ يعتمد علي ما يحيط بتلك الألفاظ من تعبيرات غير لفظية•
الاتصال غير اللفظي والتفاوض
لا يقتصر الاتصال بين البشر علي الألفاظ وحدها، بل اننا قد لا نكون مبالغين إذا ما قلنا أن الجانب الأكبر من فهمنا لما نسمعه من ألفاظ يعتمد علي ما يحيط بتلك الألفاظ من تعبيرات غير لفظية•
ويشير توماس جيورنسي Thomas F. Guernsey أستاذ القانون الدولي في كتاب له صادر عام 1996 بعنوان الدليل العملي لعملية التفاوض إلي أهمية الاتصال غير اللفظي في مسار عملية التفاوض حيث يصنف تلك الأشكال علي الوجه التالي:
تعبيرات غير لفظية تتعلق بالزمن Chronemics : تصدر عن المفاوضين العديد من التصرفات المقصودة أو غير المقصودة التي تحمل للطرف الآخر رسائل تتعلق بالتوقيتات مما لا يكون من اللائق التعبير عنها لفظيا، أو مما يكون من المستحسن ترك الطرف الآخر يستنتجها كما لو كان يكتشف سرا• إن الحضور إلي مقر المفاوضات وبصحبتك حقيبة السفر، أو طلب معلومات عن مواعيد الرحلات الجوية، أو الاعتذار عن بعض الجلسات بدعوي الانشغال، أو تحديد موعد اللقاء بحيث يكون بين موعدين آخرين، أو حتي مجرد النظر في ساعة اليد، كلها تصرفات تحمل للطرف الآخر معلومات هامة تتعلق بمدي اهتمامه بالموضوع، وانعقاد نيته علي إنهائه حتي دون التوصل لنتيجة•
تعبيرات جسميةKinesics : : لقد كانت أولى أشكال الاتصال البدائى تتمثل فى استخدام الانسان للتعبيرات الجسمية كوسيلة لنقل انفعالاته وأحاسيسه إلى الآخر • وقد شملت تلك التعبيرات الجسيمة أجزاء الجسد جميعا :العيون ، الأنف ، الشفتين ، الذراعين ، اليدين ، الأصابع، الكتفين ، حركة الجسد ككل ••• إلى آخره • ومازالت لغتنا اليومية المنطوقة بل والمكتوبة أيضا تحمل آثارا من تلك اللغة القديمة ، لغة التعبيرات الجسمية • ويكفى أن نتأمل تعبيرات مثل : " أوليته ظهرى"• "فتح له ذراعيه"• "شمخ بأنفه"• "ربت عليه"• "قلب شفتيه"• "تمايل طربا"• "هز كتفيه" ••• إلى آخره • ولو حاولنا أن نصنف تلك اللغة القديمة وفقا للتصنيفات التى تعرفها علوم الاتصال الحديثة ، لوجدنا أنها نوع من أنواع الاتصال الشخصى ، أو بعبارة أخرى أكثر أصالة "الاتصال وجها لوجه " • ولايفوتنا فى هذا المقام أن نشير إلى تعبيرنا العامى الدارج "عينى فى عينك " بمعنى واجهنى مباشرة لأعرف مدى صدق ما تنطق به •
تعبيرات غير لفظية تتعلق بتهيئة مكان التفاوض Proxemic : إن مجرد اختيار مكان المفاوضات، وطريقة تهيئة المكان، قد تحمل من الدلالات ما يكشف عن نوايا وتوقعات القائمين علي الإعداد• فقد تم -علي سبيل المثال- إعداد مكان إحدي دورات التفاوض غير الرسمي بين عرب و إسرائليين في قصر قديم بقرية سويسرية منعزلة علي قمة جبل، تنعدم فيه الاتصالات بالعالم الخارجي بحيث لا يكون أمام المفاوضين إلا التفاعل معا• في حين كانت قاعة الأعمدة في مدريد محاطة بالعديد من التليفونات التي تتيح للمشاركين الاتصال بأي مكان في العالم•
مصاحبات اللغة Paralinguistic :: رغم أن الجانب المنظور من المفاوضات والذي يتجسد في الاتفاقيات التي يصل إليها أطراف التفاوض يكون عادة في شكل وثائق مكتوبة، إلا أن الجانب الأكبر من عملية التفاوض يدور في شكل حوار لفظي• ويختلف الحوار اللفظي عن الكلمات المكتوبة بأنه يكون مصاحبًا لتأكيد علي كلمات بعينها، وتغيير في نبرات الصوت، وفي سرعة الكلام أو بطئه، وفيما يتخلله من لحظات التوقف وما إلي ذلك من مصاحبات قد يكون لها من الدلالة ما فوق دلالة الكلمات ذاتها
خاتمة: نظرة إلي المستقبل
• اتقان مهارات التفاوض شرط لاقتحام المستقبل
• البداية هي تدريب أطفالنا وتزويدهم بتلك المهارات : تحمل الاختلاف ، الاصرار علي السعي لنيل المطالب ، العنف هو الاختيار الأخير ، تطوير مهارات الحوار والمناظرة