الخميس، 29 يوليو 2010

http://massai.ahram.org.eg/231/2010/07/28/36/14968/219.aspx

العقيدة و الدولة[1]
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
ظل تجميع البشر تحت قيادة مركزية تستند إلي مرجعية فكرية واحدة وهما يداعب الفكر الإنساني منذ بداية التاريخ و لم يكف البشر عن محاولة تجسيد هذا الوهم حتى يومنا هذا سعيا لخلق عالم مثالي نموذجي ينعم البشر في ظله إذا ما تحقق بأقصى قدر من الرفاهية و السعادة.
و يفيض التاريخ البشري بما لا حصر له من بحور الدماء التي سالت لتجسيد مثل ذلك الحلم علي الأرض في صورة الدولة العقائدية أي تلك الدولة التي تقوم علي تصور نظري مسبق اكتملت صياغته من قبل، وتظل الدولة ملتزمة بها أو محاولة ذلك خلال ممارستها العملية لدورها.
و رغم أن الحلم بعالم أفضل هو القوة المحركة لأي تقدم إنساني أو تغيير اجتماعي, فإن الأمر يصبح مأساة حقيقية حين تتحول الدعوة إلي تحقيق ذلك العالم المثالي المنشود من الكلمة و الإقناع إلي القهر و الإجبار و محاولة دفع البشر قسرا و سوقهم بالسلاسل إلي تلك الجنة الموعودة.
يشهد عالمنا المعاصر تزايدا ملحوظا لأفكار و ممارسات ترفع رايات ذلك الحلم القديم بتوحيد العالم: الولايات المتحدة تسعي لتوحيد العالم أو عولمته ولو اقتضي الأمر خوض حروب دامية, كما نشهد تصاعدا لجماعات إسلامية هدفها البعيد المعلن منذ انهيار دولة الخلافة العثمانية يتمثل في السعي إلي إقامة "الدولة الإسلامية" التي قد تختلف الرؤى و تتباين حول تفاصيل ملامحها؛ و لكنها تتفق علي كونها دولة عقائدية عالمية ذات قيادة مركزية.
و لعله من المناسب و الأمر كذلك أن نعرض في عجالة لأهم نموذجين تاريخيين في هذا المجال, كان كلاهما تجسيد لمفهوم الدولة العقائدية, رغم أنهما يقفان علي طرفي النقيض من حيث المنطلقات الفكرية: دولة الخلافة الإسلامية, و دولة الاتحاد السوفييتي الماركسية. و أوجه تناقضهما الفكري غنية عن البيان, أما أهم أوجه التشابه فتتمثل فيما يلي:
أولا: العالمية
شهد تاريخنا الإسلامي منذ حقبة مبكرة جدلا فكريا شديدا حول تحديد معالم هوية المسلم الحق التي تميز بينه و بين غيره: تري هل يكفي الاقتناع و التسليم أم انه لا بد من بيعة و جهاد و دولة و خليفة؟ هل يمكن الاكتفاء بإقامة دولة إسلامية في حدود قطر واحد فحسب؟ أم أنه ينبغي السعي لتشمل مظلة الخلافة البشر جميعا؟ و هل الانتماء الإسلامي ينبغي أن يتخطى حدود الانتماء القومي؟ و استند المتجادلون جميعا إلي فهمهم أو تأويلهم لنصوص الكتاب الكريم و السنة النبوية الشريفة.
و كان الأمر شبيها بذلك فيما يتعلق بالماركسية السوفييتية التي انطلقت من أرضية مناقضة للديانات السماوية, إذ واجهت أسئلة شبيهة: تري هل يكفي الاقتناع بالفكر الماركسي أم انه لا بد من التنظيم الشيوعي و السعي إلي السلطة؟ هل يمكن إقامة هذه السلطة في حدود دولة واحدة أم المطلوب استمرار الثورة إلي أن ينجح عمال العالم في إقامة دولتهم العالمية؟ هل الالتزام الماركسي ينبغي أن يتخطى حدود الالتزام القومي؟ و استند الجميع إلي فهمهم و تأويلهم لما قال به المؤسسون الكبار للنظرية.
ثانيا: وحدة مركز القيادة
أقام الماركسيون تنظيما أمميا عالميا اتخذ من موسكو مركزا لقيادة عملية التوحيد, و كان منطقيا أن تكون للكريملين الكلمة العليا في ذلك التنظيم الأممي, و في اختيار قادته و ممثليه في العالم؛ و لم يكن ذلك بالأمر المستغرب باعتبار أن الانتماء للماركسية يعلو غيره من الانتماءات القومية "الشوفينية".
و بالمقابل فقد تمثل السعي الإسلامي في إقامة دولة الخلافة إسلامية التي تنقلت مراكز قيادتها بين مكة و دمشق و بغداد و القاهرة إلي آخره, و لم يكن حكام أقاليم الخلافة الإسلامية من مسلمي الأقاليم المفتوحة طوعا أو غصبا بل من أصحاب الفتح عربا كانوا أو أتراكا, و كان ذلك أمرا ملفتا فلو سلمنا بأن الانتماء للعقيدة الإسلامية يعلو علي غيره من الانتماءات القومية "الشعوبية"، لما كان هناك ما يمنع شرعا من أن يتولي ولاية مصر مثلا مصريا مسلما أو علي الأصح مسلما مصريا.
ثالثا: الاتهامات بالزندقة و المراجعة
في ظل الحرص علي وحدة الدولة العالمية فكرا و ممارسة لم يكن بد من التصدي بمنتهي الشدة التي تصل إلي حد القتل لمن يهدد تلك الوحدة, و من ثم فقد انهالت الإدانات بالمراجعة و الردة و الخيانة بل و العمالة علي كل من يخرج علي التأويل الرسمي السوفييتي المعتمد للنظرية الماركسية محاولا تفتيت وحدة الصف الشيوعي, كما انهالت إدانات مماثلة بالزندقة و الردة و التحريف علي كل من يخرج علي التأويل المعتمد من مقر الخلافة للقرآن الكريم و السنة المطهرة. و طالت تلك الاتهامات من كانوا يحتلون مراكز الصدارة في المشهد الماركسي من كاوتسكي و تروتسكي إلي ماوتسي تونج إلي تيتو و جارودي, و لم تختلف تلك الاتهامات في جوهرها كثيرا عن تلك التي وجهت إلي العديد من رموز الفكر و قادة العمل الإسلامي.
رابعا: النص و التأوبل
الكتب السماوية كتب خالدة لا يطرأ على نصوصها تعديل مهما تغير الواقع الاجتماعي السياسي, و من ثم فإن تفسيرات البشر لم تنقطع لتلك الكتب التي يؤمنون بها فضلا عن تلك التي يؤمن بها غيرهم, و نستطيع أن نقرر دون خوض في التفاصيل أن لا توجد جماعة لم تلتمس في كتابها المقدس ما يبرر العنف و القتل و الإبادة , و أيضا ما يبرر المسالمة و الموعظة الحسنة, دون أن ينتقص ذلك التباين بطبيعة الحال من قدسية الكتب السماوية. إنه اختلاف بين اجتهادات البشر, و يعلم الله بمن اجتهد فجانبه الصواب و من اجتهد فأصاب, و من أول فتعسف في التأويل إفراطا أو تفريطا لغرض في نفسه: نفاقا أو خوفا أو طمعا. الأمر المؤكد أن الجميع قد وصفوا تأويلاتهم بأنها التأويلات الصحيحة المعتدلة المعبرة عن جوهر الدين.
لعل أحدا لم يعد يجادل فيما أكدته دراسات علم النفس السياسي من تأثير الدين علي السلوك, و لذلك لم يكن مستغربا أن يلجأ البشر علي اختلاف نوازعهم لالتماس السند الديني لتصرفاتهم أيا كانت, فوجدنا يهودا يلتمسون في آيات العهد القديم ما يبرر لهم القتل و سفك الدماء دون تمييز, و يغضون الطرف عن آيات تحرم القتل و السرقة و النهب و تنهي عن مجرد التفكير في الشر و تحذر من إيذاء الغرباء, و وجدنا مسيحيين يلتمسون في آيات العهد الجديد ما يبرر التعذيب و القتل رغم كثرة الآيات التي تدعو إلي التسامح و الحب, و لم يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لنا كمسلمين فقد وجدنا من يعتبر أن كافة آيات التسامح و المسالمة قد نسخت و لم يعد أمام المسلمين سوي قتل من يخالفونهم العقيدة.
إن جرائم المتطرفين من اليهود الذين يرفعون راية التوراة غنية عن البيان, و لعلنا لسنا في حاجة إلي إعادة التذكير بها, و في المقابل نجد من اليهود من وقفوا بصلابة ضد كافة مظاهر التمييز العنصري, و ضد إبادة الفلسطينيين و تدمير منازلهم. كذلك فقد أقدم المتطرفون من المسيحيون في العصور الوسطي على تعذيب المهرطقين, و قتال أتباع نفس الكتاب ممن يختلفون مع تأويلهم له, فضلا عن شن حروب الفرنجة تحت راية الصليب, و هاهو بوش يستخدم دون مواربة تعبيرات مثل "الحروب الصليبية" و "محور الشر", و في المقابل نجد من المسيحيين من يناضلون بحق ضد كافة ممارسات القتل و التمييز. و لا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة للمسلمين
و السؤال الآن: تري هل علي المرء أن يدافع عن كافة تصرفات من ينتمون لجماعته الدينية مهما كانت دموية تلك التصرفات؟ هل ثمة بشر لا يخطئون؟ تري هل علي المسلم أو المسيحي أو اليهودي أن يحمل علي عاتقه وقائع مخضبة بالدم لأنها لصيقة بمن ينتسبون إلي دينه؟ هل تفرض الأخوة الدينية علي المرء أن يضع في سلة واحدة أبناء جماعته الذين يدافعون عن التسامح و الحرية مع من غامروا بحياتهم في سبيل القتل و الترويع؟ هل من المقبول أن يدين المرء تعصب الآخرين و جرائمهم دون أن يدين و بنفس القوة تلك الجرائم المنسوبة إلي أتباع دينه؟
و من الملفت للنظر أن ما يصدق علي أتباع الكتب الدينية المقدسة، يصدق و بنفس الدرجة علي أتباع أي كتاب عقائدي آخر حتي لو كان علمانيا، فرغم علمانية الماركسية، و رغم إقرارها بمبدأ النقد الذاتي، فقد عرفنا في النظام الماركسي "فيلسوف الحزب" بل و عرفنا تقديس مؤسس النظرية ثم تقديس خلفائه أيضا و إن لم يكن ذلك التقديس دينيا فإنه لا يقل عن التقديس الديني من حيث التنزيه عن الخطأ
و من ناحية أخري، فرغم أنه لا كهنوت في الإسلام، بمعني أن الإسلام لا يعرف "رجل الدين" الذي يلعب دور الواسطة بين النص المقدس و البشر؛ ، فقد عرفنا في الجماعات الإسلامية "مفتي الجماعة" و كلاهما يعتبر بمثابة المفسر الرئيسي المعتمد للنص الأصلي.
خلاصة القول
إن الدعوة لإحياء حلم الدولة الدينية – و هو التجسيد العملي لدمج الدين بالسياسة- تكاد تشمل العالم جميعا، غير أن ثمة خيط رفيع ينبغي أن يفصل بين رسائل السماء الإلهية و ممارسات البشر الدنيوية, أي بين الدين و السياسة، و إذا ما اختفي ذلك الخيط, أصبح في مقدور فرد أو جماعة أن يعلن أنه وحده صاحب القول الفصل في مقاصد السماء, و أنه ظل الله علي الأرض و الناطق الأوحد باسمه تعالي. ألا يوقعنا ذلك فيما يشبه التأله و العياذ بالله؟

[1] الأهرام المسائي، 28-7-2010

الاحترام

http://www.ahram.org.eg/242/2010/07/29/10/31564.aspx

مخاطر الإحساس بالإهانة[1]
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
شهدنا مؤخرا ما أطلق عليها "جريمة أوتوبيس المقاولون العرب" حيث راح ضحيتها عدد من موظفي الشركة بعد أن أطلق عليهم سائق الأوتوبيس النار، ثم شهدنا واقعة إقدام أحد الإعلاميين علي قتل زوجته، و كان الدافع الذي عبر عنه القاتل في الحالتين هو أنه أحس أن كرامته قد جرحت.
ما معني كلمة "الكرامة" ما معني أن يكون الإنسان محترما؟ و هل مظاهر الاحترام واحدة بصرف النظر عن المرحلة العمرية أو الظروف التاريخية الاجتماعية السياسية؟ هل يمكن أن يمضي الاحترام في اتجاه واحد بمعني أن يحترم الأصغر الأكبر, و أن تحترم الزوجة زوجها، و أن يحترم المرؤوس الرئيس, و أن يحترم الأضعف من هو أقوي منه؛ أم أنه ينبغي أن يتبادل الجميع الاحترام؟ و ما العلاقة بين الاحترام و الطاعة و الخوف و الخضوع؟
يشير تراث علم النفس إلي أن الحصول علي الاحترام يعد ضمن الدوافع و الحاجات الإنسانية الأساسية, و يقصد بالاحترام الاعتراف المتبادل بالوجود المستقل لكل ما هو خارج الذات, و يشمل ذلك كافة البشر الآخرين فضلا عن الكائنات الحية و الجوامد أيضا
و الحاجة للاحترام تعد ضمن الدوافع النفسية المكتسبة أي أن المرء يتعلمها خلال الخبرة والواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه، فالخبرات التي نعيشها هي التي تصنع لنا رغباتنا ونحن نعرف أن رغبات الإنسان تتنوع مع نموه؛ فرغبات الطفل في العاشرة تختلف عن رغباته عندما يصل إلى عنفوان مرحلة المراهقة، ورغباته في مرحلة المراهقة تختلف عن رغباته عندما يصل إلى الثلاثين وهكذا.
و يصدق ذلك علي الحاجة للاحترام إذ يقوم المجتمع بغرس تلك الحاجة في أبنائه. يدربهم علي مجموعة من أنماط السلوك و الاستجابات تشكل ما يعرف بالسلوك المحترم, و يزودهم بعدد من الآليات تمكنهم من تصنيف مجموعة من تصرفات الآخرين باعتبارها تصرفات تهين الفرد و تهدد توافر الاحترام, كما يزود المجتمع أبناءه أيضا بعدة أنواع من السلوك لمواجهة المواقف و التصرفات المهددة للاحترام, و فضلا عن ذلك يدرب المجتمع أبناءه أيضا علي أنواع العقاب التي ينبغي إيقاعها علي من يقبلون الإهانة و يستسلمون لها و أنواع الثواب التي ينبغي أن يحصل عليها الأبناء "المحترمين".
قد يسعي الفرد ليشغل موقعا قياديا في المجتمع باعتبار أن ذلك يكفل حصوله علي الاحترام, بينما يري آخر أن إظهار الكرم هو السبيل الرئيسي للحصول علي الاحترام, و قد يري آخرون أن السبيل الأنسب لكي يكون المرء محترما يتمثل في التدين أو الطاعة أو القوة أو الثقافة أو العنف أو التضحية إلي آخره.
إن أقسي ما يمكن أن يتعرض له الفرد هو أن يوضع في موقف يراه مهينا لكرامته و لا يستطيع رد الإهانة علي الفور, و لا يملك سوي تأجيل المواجهة. في هذه الحالة قد يستغرق المرء في أحلام يقظة يري فيها نفسه و قد انتصر و استعاد كرامته, و قد تلعب تلك الأحلام دورا إيجابيا في تذكيره بضرورة استعادته لكرامته و بالسعادة التي سوف يحسها آنذاك, و من ثم يشحذ همته لتحقيق هذا الهدف.
الاحترام علاقة بين طرفين, أشبه باتفاقية بين هذين الطرفين يتوليان صياغة بنودها بحيث يصبح لدي كل طرف تعريفا واضحا لأنماط السلوك المعبرة عن الاحترام و تلك التي تعبر عن العكس, و بقدر وضوح تلك البنود يكون ثبات و دوام تلك العلاقة المتبادلة؛ و تتباين أنماط السلوك المعبرة عن الاحترام بتباين شخصية الفرد, و طبيعة الجماعة التي ينتمي لها, و طبيعة المرحلة التاريخية التي تمر بها تلك الجماعة.
لقد كان تقبيل أيدي الكبار مقاما أو سنا هو التعبير الشائع في بلادنا لفترة طويلة, و لعلنا ما زلنا نشهده من حين لآخر حتى الآن؛ و لكنه تعبير آخذ في الانحسار شيئا فشيئا, في حين يكاد يقتصر هذا السلوك في مجتمعات أخري علي تقبيل الرجل ليد المرأة تعبيرا عن التوقير و الاحترام، كذلك فإن الوقوف احتراما للكبار ما زال تعبيرا منتشرا عن الاحترام خاصة في اللقاءات و الاحتفالات الرسمية, و لعله ما زال يمارس في بعض المدارس حين يطلب المدرس من التلاميذ "القيام وقوفا" احتراما لضيف ذو مقام، و يعد الجلوس أمام الكبار مع وضع ساق علي ساق تعبيرا عن عدم الاحترام في ثقافتنا, و لكنه لا يعد كذلك إطلاقا في ثقافات أخري.
و تكاد الثقافات جميعا أن تتفق علي أن السخرية من الآخر تعد تعبيرا عن عدم الاحترام, و لكن هذا الاتفاق ليس مطلقا؛ ففي عديد من الأحوال يكون ثمة اتفاق شخصين يتيح لهما تبادل السخرية دون أن يعتبر أي منهما أن تلك السخرية تقلل من الاحترام المتبادل بل يصنفانها باعتبارها مزاحا يعبر عن المودة و الحب.
خلاصة القول إن التعبير عن الاحترام لا يتخذ شكلا ثابتا جامدا يشمل الجميع في كل الأوقات و العصور و الأمكنة. إن جوهر الاحترام هو احترام الإنسان بما هو إنسان, و لكن تبقي مشكلة؛ فالبشر ليسوا سواء: منهم العدو و الصديق و منهم المخطئ و المصيب و منهم من هو في حاجة إلي أن نعلمه, فهل يمكن رغم ذلك أن نحترم الجميع؟ هل يمكن احترام الصديق و العدو و المخطئ و المصيب.
[1] الأهرام،29 يوليو 2010

الأربعاء، 14 يوليو 2010

http://www.ahram.org.eg/228/2010/07/15/10/29476.aspx

ثقافة الامتحانات[1]
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
حين تلقيت دروسي الأولي في القياس النفسي، و عندما مارست حرفتي بمصلحة الكفاية الإنتاجية كمتخصص في تصميم اختبارات و مقاييس القدرات و الاستعدادات المهنية، كنا نستخدم عبارة "لقد انكسر الاختبار" للإشارة إلي أن واحدا أو أكثر من التلاميذ قد حصل فيه علي الدرجة النهائية، و يصبح علينا تعديل ذلك الاختبار المكسور برفع سقفه -أي بزيادة صعوبته- بحيث يصبح أكثر قدرة علي التمييز باعتبار أن من حصلوا علي الدرجة النهائية لا يمكن التمييز بينهم، فضلا عن أن "الدرجة النهائية" تجعلنا من الناحية الفنية غير قادرين علي تحديد "الدرجة الحقيقية" التي يستحقها التلميذ.
استعدت تلك الذكري القديمة حين التقيت منذ سنوات في اسطنبول بأحد خبراء التربية الأتراك يسألني عن أمر بدا له مستعصيا علي الفهم "لقد قرأت في احدي الإحصائيات التربوية المصرية أن بعض الطلاب يحصلون علي ما يتجاوز 100% من درجات الامتحان، و تأكدت أن الرقم صحيح و ليس خطأ مطبعيا. تري هل ابتكرتم قاعدة رياضية جديدة تسمح بأن تكون قيمة البسط أكبر من قيمة المقام" و بطبيعة الحال عجزت عن التفسير المنطقي.
استعدت كل ذلك و أنا أتابع تلك المشاهد التي تكاد تنفرد به مصر خلال فترة الامتحانات: أمهات يتزاحمن علي أبواب المدارس في انتظار انتهاء بناتهن و أبنائهن من أداء الامتحانات و خاصة امتحانات الثانوية العامة. و عناوين الصحف تحمل صور أبنائنا و بناتنا يصرخون من صعوبة الامتحانات و يطالبون بالرحمة في التصحيح. و غالبا ما تصدر تأكيدات المسئولين سنويا بأن "الامتحان في مستوي الطالب المتوسط" بما يعني أن الطالب فوق المتوسط يستطيع أن "يكسر الامتحان". و إذا كان من ملمح إيجابي في تلك الصورة فهو أن الأسرة المصرية و خاصة محدودة الدخل تقاتل من أجل حصول أبنائهن علي أعلي الشهادات. و الشهادة تعني لغويا أن الموقع عليها يشهد بأن صاحبها قد توافر لديه القدر المطلوب من الخبرة في مجال معين، أو بعبارة أخري أنه مؤهل لإتقان عمل معين.
و لعل ذلك الموقف يعود بذاكرة أبناء جيلي إلي سنوات بعيدة حين كانت الأسرة محدودة الدخل تدفع بابنها إلي "أوسطي" يتعلم علي يديه حرفة معينة، و كثيرا ما كانت الأسرة تلوم الأوسطي إذا لاحظت أن عمل ابنها يقتصر مثلا علي تنظيف الدكان و إحضار الطعام للعمال؛ فإذا ما احتج الأوسطي بأنه يجاملهم و لا يريد إرهاق ابنهم، تكون توصية الأسرة حفز الأوسطي علي تدريبه حتى لو اقتضي الأمر عقابه. و من هنا انتشرت ظاهرة "الولد بلية" أو مشروع الأوسطي الصغير الذي سرعان ما يصبح أوسطي و يستقل بورشته الصغيرة. الأسرة في هذه الحالة لم تسع لحصول ابنها علي مجرد شهادة من الأوسطي، بل كان الهدف أن يتقن الصنعة بالفعل.
ترى لماذا أصبحت تلك الأسرة حين أتيح لها أن تدفع بابنها إلي التعليم تطالب بامتحان سهل و تصحيح أسهل؟ أظن أن ما تغير هو المناخ الاجتماعي السياسي المحيط بسوق العمل.
لقد كانت الدولة في حقبة الستينات تتولي مسئوليتي التعليم و التوظيف: من يحصل علي شهادة يتم تعيينه في وظيفة يستحيل بعدها أن يفصل إلا إذا انخرط في نشاط سياسي معاد للنظام، و يظل يترقى في وظيفته بصرف النظر عن مدي إتقانه لعمله، و كان من المنطقي آنذاك أن يكون الهدف النهائي هو الحصول علي شهادة. و رغم ذلك فقد كانت الشهادة آنذاك أكثر مصداقية حيث كانت قاعات الدراسة أقل كثافة و كان التعليم أكثر انضباطا و جدية.
و لكن دوام الحال من المحال. لقد توقفت الدولة عن توظيف الخريجين، و تقلص القطاع العام، و أصبح القطاع الخاص هو المسيطر علي غالبية فرص العمل. و للقطاع الخاص فلسفته الخاصة في اختيار العاملين بحيث يحقق أعلي ربحية ممكنة، و لذلك فإنه يهتم أول ما يهتم بدرجة إتقان العامل لعمله، و ليس بالمستوي الذي تقرره الشهادة التي يحملها. و مع تزايد ازدحام الفصول، و ما طرأ علي العملية التعليمية من قصور لسنا بصدد تفصيل القول فيه، و مع الإلحاح الجماهيري و الاستجابة الحكومية لتيسير الامتحانات؛ اتسعت الفجوة بين الحصول علي الشهادة و إتقان العمل. لقد أصبح حصول الطالب علي الشهادة لا يعني بالضرورة إتقانه للتخصص الذي تدل عليه تلك الشهادة.
و بدأنا في مواجهة عدة ظواهر مترابطة:
· زيادة أعداد خريجي الجامعات الذين لا يجدون عملا حيث تضاءلت فرص التعيين في وظائف الحكومة و القطاع العام، و في نفس الوقت فإنهم غير مؤهلين للعمل في القطاع الخاص.
· تدهور "قيم العمل" التي تتمثل في الحرص الذاتي علي الإتقان، و الالتزام الدقيق بالوقت، و تكريس كامل وقت العمل للعمل فحسب، و الاتجاه الإيجابي نحو العمل، و التوافق مع تعديل أوقات و ظروف العمل، فضلا عن القابلية لتعلم الجديد، و الثقة في الذات، و الحرفية المهنية، و الولاء للمؤسسة.
· السعي الحثيث لاستيراد العمالة الأجنبية التي تقبل بشروط العمل في القطاع الخاص، و تتوافر فيها "قيم العمل" و علي رأسها الحرص علي الإتقان.
تري هل يمكن أن تكون لدينا شجاعة مصارحة أبناءنا بأن تيسير الامتحانات و التصحيح رغم ما ينجم عنه من سعادة فإنها سعادة وقتية زائفة، و أن الشهادات التي نمنحها لهم وفقا لذلك النظام لا تزيد كثيرا عن رخصة قيادة مزيفة يحصل عليها بطريقة أو بأخرى من لا يعرف القيادة، و من ثم لا يكون أمامه إذا ما صدق الشهادة التي يحملها إلا أن يقدم علي كارثة قد تدمره شخصيا.
[1] الأهرام، 15 يوليو 2010

الخميس، 8 يوليو 2010

http://www.al-ahaly.com/index.php?option=com_content&view=article&id=2197:2010-07-08-14-16-09&catid=39:2010-02-27-09-21-49&Itemid=664

ثقافة الموت .. ثقافة الحياة
الخميس, 08 يوليو 2010 14:15 د. قدري حفني

تمجيد العنف لترويج السلاحتؤكد دراسات علم النفس الإعلامي أن رواج سلعة معينة لا يتوقف علي مجرد الإعلان عن وجودها و عرض مزاياها بل إن الرواج الأمثل إنما يتحقق بقيام ثقافة مساندة للسلعة تضمن لها دوام و تصاعد الطلب عليها. و يتطلب خلق مثل تلك الثقافة تشكيلا لخريطة الوعي بما تتضمنه من معايير و قيم و اتجاهات بحيث يصبح الطلب علي تلك السلعة جزءا لا يتجزأ من نسيج تلك الثقافة. يصدق ذلك علي صناعة السياحة بقدر صدقه علي صناعة السينما و جراحات التجميل و كذلك الأسلحة حيث جري ترويج ثقافة العنف.ازدهرت تلك الثقافة و ضربت بجذورها في جميع نواحي الحياة بحيث لم يعد أمام الدول و الجماعات مهرب من غواية الحصول علي الأسلحة حتي لو لم تكن تخطط لقتال، فعليها دوما تكديس الأسلحة لكي لا تغري أحدا بالاعتداء عليها، و بحيث تستمر تجارة السلاح في الازدهار تحت كل الظروف. و ما أن تشتعل الحرب حتي يبلغ ذلك الازدهار أوجه و لا يقتصر تدفق الأرباح آنذاك علي منتجي السلاح فحسب بل يشمل العديد من المهربين و تجار السوق السوداء و غيرهم، و مما يدعم ذلك أن مناخ الحرب بما يفرضه من سرية -خاصة فيما يتعلق بصفقات الأسلحة و عمولاتها- يشجع استشراء الفساد دون رقابة أو خوف من افتضاح، بعكس ما ينبغي أن يفرضه مناخ السلام من شفافية تتيح علي الأقل فضح الفاسدين و المرتشين، و لعلنا ما زلنا نذكر تعبيرا شاع بيننا خلال فترة الحرب العالمية الثانية عن "أغنياء الحرب" أي أولئك الذين ظهرت عليهم مظاهر الثراء فجأة بفضل مناخ الحرب و السوق السوداء، غير أن "أغنياء الحرب" هؤلاء لا يحتلون سوي ذيل قائمة أغنياء الحرب الحقيقية.لقد أصدر الصحفي البريطاني جدوين باروز عام 2002 كتابا بعنوان "صناعة السلاح" استخدم فيه تعبير "المجموعة القذرة" مشيرا إلي قائمة الدول التي تتصدر صناعة السلاح و تتربع الولايات المتحدة علي رأسها، تليها روسيا، ثم فرنسا، ثم بريطانيا، وألمانيا ، ثم هولندا، حيث تستأثر تلك الدول الست بتصدير 85% من السلاح في العالم و تحتل إسرائيل المرتبة الثانية عشرة في تلك القائمة، ومن المثير للانتباه أن الدول الأربع التي تتصدر تلك القائمة أعضاء دائمون في مجلس الأمن المسئول عن "السلام العالمي".نستطيع في ضوء ما تقدم أن نفهم مصدر تلك المقاومة الشرسة التي تثيرها الدعوة لثقافة السلام، فهي في النهاية مجرد ثقافة لا تستند إلي صناعة تدعمها و ترعاها، شأنها في ذلك شأن ثقافة الطب الوقائي في مقابل صناعة الأدوية، و ثقافة حماية البيئة في مقابل الصناعات الملوثة للبيئة.صحيح أن مجموع أعداد الناشطين في مجال ثقافة السلام في العالم لا يمكن أن يقارن بأعداد العاملين في أجهزة القتال و الأمن في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها مثلا ، و صحيح كذلك أن تمويل أنشطة السلام وحتي أنشطة التعليم و الرعاية الصحية لا يمكن أن يقارن بتلك المليارات التي تنفق علي صناعة و تجارة السلاح، و صحيح كذلك أن الدعوة لثقافة السلام تتعرض دوما لمحاولات التزييف و التهجم و وصمها بأنها ليست سوي دعوة لاستسلام المظلوم للظالم، وأنها نقيض لثقافة المقاومة؛ و رغم كل ذلك فإن ثقافة السلام ما زالت رغم كل شيء تحاول الاستمرار في الحياة.مسئوليتنا جميعاإن أولئك الذين يمارسون العنف الآن، كانوا في غالبيتهم أطفالاً منذ زمن قريب، بل لعل بعضهم مازال كذلك بمعني ما. وإذا ما استمرت أساليب تنشئتنا لأطفالنا علي ما هي عليه، فان الاجيال القادمة لن تختلف كثيراً عن جيل ممارس العنف الراهن، إذا لم تكن أسوا. لقد كان هذا الجيل نتاجاً لعمليات التنشئة الاجتماعية لاطفالنا والتي مارسناها كأمهات وأباء، كمربين وتربويين، كإعلاميين ومسئولين، مارسناها في بيوتنا، ومدارسنا، ومساجدنا وكنائسنا ونوادينا ومكاتبنا. مارستها صحافتنا واذاعتنا وتليفزيوننا. مارستها السلطة والمعارضة. مارسناها جميعاً دون استثناء. مارسناها بالفعل ومن لم يستطع مارسها بالقول، ومن لم يستطع مارسها بالصمت ولعلة الأشد خطراً. لقد تكاتفنا جميعاً لدفع أطفالنا إلي ما يتنافي مع فطرتهم التلقائية الطبيعية. الطفل بفطرته محاور، دفعناه إلي الصمت، الطفل بفطرته متسائل، دفعناه إلي تقبل التلقين. الطفل بفطرته مفاوض فعال، دفعناه إلي الجمود العدواني. الطفل بفطرته تلقائي، دفعناه إلي التصنع والمداهنة.. الطفل بفطرته ميال للمشاركة، دفعناه إلي الجمود العدواني.. الطفل بفطرته ميال للمشاركة، دفعناه إلي الانطواء والتوجس من الآخرين. ولاننا كنا في ذلك كله نسبح ضد التيار، تيار الفطرة السليمة، فقد كان علينا أن نبذل جهداً شاقاً مستمراً، وقد بذلنا بالفعل. وحققنا نجاحاً كبيراً، ولكنه ـ لحسن الحظ ـ لم يكن كاملاً تماماً. فمازال لدي أطفالنا بقية من تلقائية وإيجابية وانفتاح، ولكن جهودنا أيضاً مازالت مستمرة. وللحقيقة فان نوايانا كانت ومازالت طيبة، وحبنا لأطفالنا حقيقة لا يماري فيها أحد. ولكن ذلك وحده لا يكفي ، لقد أدت تنشئتنا لأطفالنا إلي حيث لا يجد الطفل أمامه لمواجهة مواقف الحياة إلا واحداً من سبيلين لا ثالث لهما: إما التصدي بالعنف لإزالة ما يحول بينه وبين ما يريد، ذلك إذا ما استطاع، فإذا لم يستطع وكانت العقبة أقوي من امكاناته، لم يعد أمامه إلا السبيل الآخر وهو الاستسلام دون شروط هجرة أو مرض نفسي أو انطفاء سلبي. لقد أردنا لأطفالنا القوة في عالم يسوده الأقوياء، وأردنا لهم السلامة في عالم يسوده العنف. أردنا أن نجنبهم مغبة التمرد والمخالفة في عالم يدفع فيه المتمردون ثمناً باهظاً من مستقبلهم ومن حريتهم ومن حياتهم أحياناً. أردنا أن نصونهم من مخاطر التلقائية والصراحة في عالم يشجع التصنع والمداهنة. أردنا أن نحميهم من المضي بتساؤلاتهم إلي غايتها في عالم يضع حدوداً صارمة لما يجوز وما لا يجوز التساؤل عنه. أردنا أن ندربهم علي الطاعة في عالم يسوده الانصياع والمجاراة. لقد أردنا لأطفالنا الخير ... كل الخير ... فما الذي حدث ؟ ما حدث هو أننا أغفلنا عدداً من الحقائق الاساسية لعل أهمها: -أولاً: أن محاولة إزالة العقبات بالقوة، أو مواجهة المعتدي بالعنف، قد تكون الوسيلة الأكثر فعالية وسرعة، ولكنها تفترض أن يكون طفلي هو الأقوي والأقدر، وإلا هزم، وازدادت العقبة رسوخاً، وازداد المعتدي إمعاناً في ممارسة اعتداءاته، ولا يصبح أمام طفلنا إلا الاستسلام للعنف إذا ما تكرر، والعجز أمام العقبات إذا ما واجهها. فالفشل في هذه الأحوال يؤدي إلي مزيد من الفشل. ثانياً: أن أنواع العقبات والاعتداءات عديدة متنوعة، قد تكون العقبة زميلاً أو أخاً منافساً، أو مدرساً يبدو متشدداً، أو قد تكون حتي أباً يراه الطفل قاسياً، أو أما يراها الطفل منحازة، وقد يكون الاعتداء الذي يواجهه الطفل بدنيا أو لفظياً، مباشراً أو ضمنياً. وقد يكون موجهاً إلي الممتلكات أو الإخوة أو الأصدقاء، بل حتي قد يكون موجهاً صوب المشاعر والأفكار، ومواجهة كافة أنواع العقبات والاعتداءات بأسلوب واحد هو القوة أو العنف أمر قد لا يعني سوي تكريس العنف كأسلوب أوحد للتعامل في كل مواقف الحياة دون تمييز.ثالثاً: أن المواجهة الفعالة لمواقف الحياة ينبغي أن تشمل إلي جانب إمكانية العنف أو القوة عدداً لا نهاية له من البدائل مما يمكن أن نطلق عليها تعبير بدائل السلام الهجومي وهي تتضمن مهارات القدرة علي الحوار والمناقشة، وتفنيد الآراء وطرح البدائل، وجمع وتحليل المعلومات، والتفاعل مع الآخرين، وتأجيل الأشباع، والتفاوض .... إلي أخره.الخطر داهمإننا في حاجة ماسة لتعديل أساليب التنشئة الاجتماعية التي نمارسها حيال أطفالنا. الخطر داهم. والأحداث تتسارع، ولم يعد مجدياً الاكتفاء بتوجية النداء إلي المسئولين أو من يعنيهم الأمر، الأمر يعنينا جميعاً والأطفال أطفال الجميع والكل في نفس الخندق. قد يصعب علينا نحن الكبار تعديل ما اعتدناه من أساليب في التنشئة، وقد نستسهل القاء المسئولية علي فريق منا دون فريق. وقد يزيد من صعوبة مهمتنا أن الأمر قد يتطلب احداث تغيير أساسي في نمط العلاقات المتبادلة بيننا نحن الكبار. وقد يزيد من صعوبة مهمتنا أيضاً ذلك الميل الطبيعي لدي البشر جميعاً لمقاومة الاعتراف العلني بالخطأ . وقد يزيد من صعوبة تلك المهمة كذلك أننا قد نواجه بنية اقتصادية سياسية اجتماعية راسخة يستفيد أصحابها علي المدي القصير من الوضع الراهن. . المهمة صعبة ما في ذلك شك، ولكنها تهون بالتأكيد أمام حبنا الصادق لأغلي ما في ذلك شك، ولكنها تهون بالتأكيد أمام حبنا الصادق لأغلي ما في حياتنا: أطفالنا، وتهون المهمة أيضاً إذا ما تذكرنا دائماً أن الأطفال أنفسهم سيكونون سندنا الرئيسي. فالأطفال منذ طفولتهم المبكرة يقاومون عمليات التطويع قدر استطاعتهم. ويحاولون الاحتفاظ بذاتهم قدر طاقتهم، ويقاتلون في سبيل ذلك ما وسعهم الجهد، مستخدمين أساليبهم المتميزة في السلام الهجومي من احتجاج بالصراخ إلي اضراب عن الطعام إلي رفض صامت أشبه ما يكون بالعصيان المدني حيال ما يصدر اليهم من أوامر، بل أنهم كثيراً ما يلجأون إلي العديد من الوان المفاوضة والمداورة ومحاولة النفاذ من خلال الثغرات واستغلال التناقصات. فلنسع إلي تدعيم تلك المهرات الفطرية لدي أطفالنا، ولكن تلك الدعوة بداية حوار جاد حول ماذا نريد من أطفالنا للغد؟ وماذا نريد من الغد لأطفالنا؟

الثلاثاء، 6 يوليو 2010

http://www.al-ahaly.com/index.php?option=com_content&view=article&id=2104:2010-07-01-18-51-47&catid=39:2010-02-27-09-21-49&Itemid=664

ثقافة الموت – ثقافة الحياة
غلبة الروحانية التدميرية على روحانية الاحتفال بالحياة (1-2)[1]
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
لعل الحديث عن روحانية تدميرية قد يبدو للوهلة الأولي متناقضا؛ حيث ارتبطت الروحانية في تراثنا الشعبي بالرقة و الحب و الشفافية و الترفع علي الشهوات الدنيوية و ذلك فضلا عن أن الروحانية بحكم اشتقاقها اللغوي من "الروح" ترتبط بكل ما هو غير جسدي غير دنيوي. و في مقابل ذلك فإن "التدمير" يرتبط بما هو مادي جسدي دنيوي.
و رغم ذلك التناقض الظاهر بين الروحانية و التدميرية في تراثنا الشعبي، فإن معطيات الواقع تشير إلي أن ثمة من يدمرون الحياة من حولهم بل و يدمرون أنفسهم جسديا بدوافع "روحانية" أي ترفعا عن كل ما هو دنيوي شهواني. و قد يبدو للوهلة الأولي أن ثمة جديد قد طرأ علي الإنسان جعله يجمع بين ما يبدو متناقضا؛ و لكن الأمر فيما نري ليس كذلك؛ فمثل تلك الازدواجية كانت قائمة عبر التاريخ البشري بحيث يستحيل العثور علي "روحانية" تستعصي علي الاستغلال التدميري، و يكفي أن نستعرض تاريخ ممارسة البشر لما تلقوه من رسائل السماء التي تعتبر قمة الروحانيات.
الرسائل الإلهية و سلوك البشر
الكتب السماوية كتب خالدة لا يطرأ على نصوصها تعديل مهما تغير الواقع الاجتماعي السياسي، و من ثم فإن تفسيرات البشر لم تنقطع لتلك الكتب التي يؤمنون بها فضلا عن تلك التي يؤمن بها غيرهم، و نستطيع أن نقرر دون خوض في التفاصيل أن لا توجد جماعة لم تلتمس في كتابها المقدس ما يبرر لها العنف و القتل و الإبادة، و أيضا ما يبرر لها المسالمة و الموعظة الحسنة، دون أن ينتقص ذلك التباين بطبيعة الحال من قدسية الكتب السماوية.
إنه اختلاف بين اجتهادات البشر، و يعلم الله وحده بمن اجتهد فجانبه الصواب و من اجتهد فأصاب، و من أول فتعسف في التأويل إفراطا أو تفريطا لغرض في نفسه: نفاقا أو خوفا أو طمعا. الأمر المؤكد أن الجميع قد وصفوا تأويلاتهم بأنها التأويلات الصحيحة المعتدلة المعبرة عن جوهر الدين.
لقد أكدت دراسات علم النفس السياسي تأثير الدين علي السلوك، و لذلك لم يكن مستغربا أن يلجأ البشر علي اختلاف نوازعهم لالتماس السند الديني لتصرفاتهم أيا كانت، فوجدنا يهودا يلتمسون في آيات العهد القديم ما يبرر لهم القتل و سفك الدماء دون تمييز، رغم الآيات التي تحرم القتل و السرقة و النهب، بل و تنهي عن مجرد التفكير في الشر و تحذر من إيذاء الغرباء، و وجدنا مسيحيين يلتمسون في آيات العهد الجديد ما يبرر التعذيب و القتل رغم الآيات التي تدعو إلي التسامح و الحب، و لم يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لنا كمسلمين فقد وجدنا من يعتبر أن كافة آيات التسامح و المسالمة قد نسخت و لم يعد أمام المسلمين سوي قتل من يخالفونهم العقيدة.
إن جرائم المتطرفين من اليهود الذين يرفعون راية التوراة غنية عن البيان، و لعلنا لسنا في حاجة إلي إعادة التذكير بها، و في المقابل نجد من اليهود من وقفوا بصلابة ضد كافة مظاهر التمييز العنصري، و ضد إبادة الفلسطينيين و تدمير منازلهم. كذلك فقد أقدم المتطرفون من المسيحيون في العصور الوسطي على تعذيب المهرطقين، و قتال أتباع نفس الكتاب ممن يختلفون مع تأويلهم له، فضلا عن شن حروب الفرنجة تحت راية الصليب، و هاهو بوش يستخدم دون مواربة تعبيرات مثل "الحروب الصليبية" و "محور الشر"، و في المقابل نجد من المسيحيين من يناضلون بحق ضد كافة ممارسات القتل و التمييز.
و لا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لنا نحن المسلمون، و لعلنا لسنا في حاجة للخوض في تاريخ قديم نسمع عنه و قد نختلف حوله. يكفي أن ننظر حولنا الآن لنري من يمارسون بالفعل أعمال القتل و التدمير معلنين أنها تمثل روح الإسلام و جوهره، و في المقابل نجد منا من يعلنون بشجاعة و وضوح أن جوهر الدعوة الإسلامية كان و ما زال هو التسامح و الحرية.
ثمة خيط رفيع ينبغي أن يفصل بين رسائل السماء الإلهية و ممارسات البشر الدنيوية، و إذا ما اختفي ذلك الخيط، أصبح في مقدور فرد أو جماعة أن يعلن أنه وحده صاحب القول الفصل في مقاصد السماء، و أنه ظل الله علي الأرض و الناطق الأوحد باسمه تعالي.
الطريق الآمن الفعال
الصراعات الفكرية تحتدم بيننا و بين فصائلنا، و بيننا و بين الآخرين: من مواقف فصائل المعارضة و السلطة، إلي اختلافات في الرؤى داخل أسرنا و مدارسنا و جامعاتنا و مساجدنا و كنائسنا، و إذا كان الاختلاف سنة من سنن الحياة، و أنه لا يوجد فردين متفقان تماما في كل شيئ، فثمة حقيقة أخري يؤكدها تراث علم النفس، فضلا عن وقائع الحياة و هي أنه لا يوجد بالمقابل فردان يختلفان في كل شيء.
لقد عرفت البشرية عبر تاريخها الطويل سبلا عديدة لحل الصراعات، لعل أقدمها "حل الصراع بالقوة"؛ و تطورت صور القوة التي يعتمد عليها البشر من قوة البدن إلي قوة العدد إلي قوة الاقتصاد إلي قوة السلاح إلي غير ذلك من أدوات القوة، و ما زالت تلك الإستراتيجية تمثل الخيار المفضل لدي العديد منا، رغم ما تشير إليه وقائع التاريخ من أن حل الخلافات بالقوة أيا كان نوع تلك القوة لا يعني عمليا سوي تأجيل الصراع إلي أن تتغير موازين القوي و تدور الدائرة فيقوي الطرف الذي كان مهزوما فيفرض طاعته علي الجميع و هكذا دواليك.
لقد قاوم الكثيرون طويلا و ما زالوا يقاومون التسليم بحقيقة أن ثمة ثمة طريق أمن فعال لإدارة الخلاف، تتمثل بدايته في الحوار، فإذا ما أخفق الحوار، فليكن خضوع الأقلية لقرار الأغلبية، فإذا ما أعاقت سلطة الغالبية تعبير الأقلية عن رأيها، أو إذا ما تمردت الأقلية علي الخضوع لقرار الأغلبية، فليكن الاحتكام للقانون، فإذا ما عز الاحتكام للقانون المحلي، فليكن الاحتكام إلي الرأي العام بآلياته المتدرجة من التظاهر إلي العصيان المدني، فإذا ما تعذر ذلك، فليكن اللجوء للقانون الدولي، فإذا ما تعذر ذلك فليكن اللجوء لمؤسسات الرأي العام العالمي؛ بحيث يصبح اللجوء إلي القوة هو آخر الاختيارات.
صحيح أن اللجوء إلي تلك السلسلة المتدرجة الطويلة قد يتطلب صبرا مؤقتا علي الظلم و لكنه صبر إيجابي لا يعني التسليم للظالم بظلمه، و قد يكون صحيحا كذلك أن الحل الناجم عن الحوار قد لا يعني التوصل إلي سلام مكتمل يحقق المطالب النهائية للأطراف جميعا، و صحيح كذلك أن تلك السلسلة المتدرجة الطويلة تتطلب شبكة واسعة من التحالفات بين أطراف قد لا تتطابق مصالحها النهائية بقدر ما تتعارض، و لكنها حقيقة الحياة التي أكدتها بحوث و دراسات علم النفس السياسي فضلا عن خبرات الحياة: حتمية الاتفاق و التعاون بين البشر شرط لكي تستمر الحياة علي هذا الكوكب؛ فلو نظر المرء إلي ما يدور حوله لاتضح له علي الفور أنه لا يوجد فرد يستطيع تحقيق احتياجاته جميعًا بمعزلٍ عن الآخرين. لو حاول أي منا أن يكتب قائمة تتضمن ما يريده من الآخرين، لوجد أن هذه القائمة تمتد إلي ما لانهاية، وأنها تضم قائمة بالغة التنوع والاختلافات، و أنها لا تقتصر الأمور المادية المحسوسة فحسب؛ بل تشمل العديد من الأمور المعنوية التي قد تفوق قيمتها في كثير من الأحيان الأمور المادية؛ كالعدل، والحرية، والحب، والأمن، و الاحترام.
الجميع مضطرون إذن للاعتماد بصورة أو بأخرى علي الآخرين. يصدق ذلك علي الأفراد كما يصدق علي الجماعات. لقد تزايدت حاجة الناس لبعضهم البعض مع تقدم الحضارة البشرية بحيث أصبحنا لا نستطيع أن نجد في عالم اليوم جماعة تستطيع العيش في عزلة عن العالم معتمدة في إدارة حياتها علي قدراتها الذاتية فحسب. لقد أصبح الحصول علي تدعيم الآخرين يكاد يكون شرطا من شروط استمرار الحياة.
و رغم رسوخ تلك الحقائق فإنه لمما يلفت النظر أن المجتمعات البشرية لم تخل قط عبر التاريخ من إفراز من تتلبسهم تلك الروحانية التدميرية، و إن كان العصر الحاضر يشهد لهم تزايدا غير مسبوق.
ملامح الشخصية الروحانية التدميرية
لعل أهم ما تتميز به تلك الشخصية سمة تبدو مشتركة مع أصحاب الشخصية الروحانية المسالمة الداعية إلي الحياة؛ و هي سمة "الإيثار" بمعني أن صاحب تلك الشخصية التدميرية يسلك سلوكا يشي بأنه لا يبالي بما يصيبه في سبيل ما يعتقده، و هي نفس السمة التي يفترض أن تميز الروحانيون محبو الحياة المدافعون عنها؛ غير أن الفارق الأساسي يتمثل في ملامح الصورة الذهنيّة لدي صاحب الشخصية التدميرية عن الطرف الآخر:
1- إنّ الآخر إمّا عميلٌ مأجور، أو ساذج جاهل. فليس من المنطقيّ ، أن يوجد شخصٌ عاقلٌ نزيه، يمكن أن يقبل بتلك الترّهات التي يقول بها الجانب الآخر.
2 - لم يعد الحوار مع الآخر مجديًا0 لقد استنزفنا معه كافة إمكانيات الحوار0 إنه لا يفهم إلّا لغة القوّة0 إنه البادئُ بالعدوان. إن التفاهم معه لا يعني سوي الضعف و التخاذل 0
3 - الآخر هو الخارج علي الأصول الصحيحة: الشرعيّة القانونيّة، الإسلام الصحيح، الاشتراكيّة الصحيحة، المسيحية الأرثوذكسية ••••الخ 0 المهم، أنه هو الخارج دومًا عن الأصول، ونحن الملتزمون دومًا بتلك الأصول.
4 - الآخر لا يمثّل إلّا أقليّة، أمّا الغالبيّة، فإنها تتعاطف معنا بكل تأكيد. وأيّة مؤشّرات تشير إلي غير ذلك فإنها -أيا كانت - مجرّد زيف.
5 - مهما قال الآخر، أو حتى فعل، لكي يوهمنا بأنّه قد تغير، فإنه يظل في جوهره كما هو.
6 - الآخر يريد لنا الاغتراب عن الواقع، اندفاعًا إلي مستقبلٍ غريبٍ عنّا، أو انسحابًا إلي ماضٍ سحيقٍ لم تعُد لنا علاقةٌ به.
7 - لا ينبغي أن نفرّق في مواجهتنا لهم بين "المفكّرين" و "المنفّذين"، أو بين "الموافقين" و "المعارضين" في صفوفهم، فكلهم أعداء. بل ولعلّ ما يبدونه من تنوّع في المواقف ليس سوي نوع من الخديعة.
8 - ينبغي أن ننقّي صفوفنا من أولئك المتخاذلين الذين يدعون إلي حوارٍ مع أعدائنا. إنّهم إمّا سُذّجٌ مضلّلون، أو عملاءٌ مندسّون، أو ضعافٌ ترعبهم المواجهة الشاملة 0
تري كيف يمكن لمجتمع بشري أن يقدم رغم كل وقائع التاريخ علي إفراز مثل تلك الشخصيات التدميرية؟ كيف يتم تدعيمها؟ كيف يتم الترويج لها؟
هذا ما سوف نجيب عنه في العدد القادم

[1] الأهالي، 30 يونيو 2010

السبت، 3 يوليو 2010

http://www.dostor.org/weekly/reportage/10/june/30/20876
د. قدري حفني : قتل خالد سعيد ليس رسالة من أحد والتعذيب في مصر «ثقافة جماهيرية»
الجمعة, 2-07-2010 - 11:58الأربعاء, 2010-06-30 17:10 رحاب الشاذلي
· تحقيقات
Top of Form
Bottom of Form

«منذ مقتل المناضل الشيوعي شهدي عطية الشافعي في معتقلات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في يونيو 1960 وحتي مقتل خالد سعيد شهيد الإسكندرية في يونيو 2010 كل شيء تغير إلا شيئا واحدا بقي كما هو: طريقة تعامل السلطة السياسية مع المواطن الذي بقي بلا حقوق، لكن ما اختلف في زمن خالد سعيد هو أن التعذيب والقتل لم يعد داخل السجون والمعتقلات لكنه أصبح سلوكا عاما يمارس في الشوارع أمام أعين المارة، ولم يعد ضد معارضي النظام، لكنه أصبح عنفا سلطويا موجهاً بشكل عام إلي المواطن العادي، وفي زمن شهدي عطية عرف العالم خبر الوفاة من خلال سطور نعيه في جريدة الأهرام والصدفة وحدها هي التي لعبت دورا في وصول الخبر إلي العالم لكن في زمن خالد سعيد عرف العالم أجمع خبر موته من خلال مواقع الإنترنت والمدونات والفيس بوك.
هذه الكلمات وغيرها حدثنا بها أستاذ علم النفس السياسي دكتور «قدري حفني»، كاشفا عن جوهر حادثة مقتل ضحية التعذيب خالد سعيد، ومبينا في حواره مع «الدستور» أن هذه الحادثة التي جذبت اهتمامه بشدة تعكس دلالات تكاد تختصر ما وصل إليه حال المشهد السياسي والاجتماعي المصري الذي وصل إلي أقصي درجات عنفه، نتيجة استمرار منهج السلطة في التعامل غير القانوني وغير الإنساني مع مواطنيها، وإن خرجت الانتهاكات من نطاق المشتغلين بالسياسة إلي نطاق المواطن العادي.
> بين كل الأحداث السياسية الساخنة المطروحة علي الساحة من اعتصامات وتظاهرات وحتي الأزمة بين المحامين والقضاة... لماذا كان أشد ما لفت نظرك هو خبر مقتل خالد سعيد؟
-عندما قرأت هذا الخبر عدت بالذاكرة خمسين عاما وتذكرت ما حدث للمناضل الشيوعي شهدي عطية الشافعي الذي قتل بسبب التعذيب علي يد رجال السلطة... وما بين المشهدين «الشافعي وسعيد» هناك بعض الفروق البسيطة لكن هناك الكثير من التشابهات أهمها هو أن كل شيء يتغير ماعدا السلطة وطريقة تعاملها مع مثل تلك القضايا ، فعندما قتل شهدي عطية كيف عرفت الناس خبر الوفاة؟ من خلال نعي كتبته زوجته في صفحة الوفيات بجريده «الأهرام»، تحت عنوان «فقيد العلم والوطنية» كتبت: ننعي إلي الأمة العربية فقيدها الغالي شهدي عطية الشافعي مفتش اللغة الإنجليزية بوزارة التعليم، وكتبت بيت الشعر الذي يقول «فتي ما بين الطعن والضرب ميتة تقوم مقام النصر أن فات النصر» هذا البيت الشعري الذي اختارته زوجه شهدي عطية هو الذي عرف الجميع أنه قتل، ومصادفة وصلت الجريدة إلي يوغسلافيا حيث كان الرئيس جمال عبد الناصر يشهد احتفال الشبيبة الشيوعية اليوغسلافية، فوقف أحد الشباب الشيوعيين هناك وناشد الحضور الوقوف دقيقه حداداً علي روح المناضل الشيوعي شهدي عطية الذي قتل في معسكرات التعذيب في بلد عبد الناصر، وقتها قام عبد الناصر بإرسال برقية إلي زوجة شهدي قال فيها «إني وراء القتلة» وأوقف التعذيب.
هذا ما حدث في زمن شهدي عطية... أما في قضية خالد سعيد الأمر اختلف، العالم كله عرف عبر الفيس بوك والإنترنت والمدونات وخرجت مظاهرات في دول العالم، ذلك لأن العالم تغير بسبب ثورة التكنولوجيا، لكن مع ذلك هناك شيء واحد لم يتغير بعد وهو رد فعل السلطة عندما قتل شهدي عطية أجري تحقيق في المعتقل وكتب فيه « أنه كان طالع علي السلم فوقع مات» لكن عندما أخذ ناصر القرار وأعيد فتح التحقيق تم الكشف عن تعذيبه.
وهذا يشير إلي أن كل شيء يتغير عدا السلطة، في واقعة خالد سعيد قالوا إنه مات بالخنق بعد ابتلاعه لفافة مخدرات، من الممكن أن تكون تلك الواقعة الجزئية صحيحة لكن الموضوع في التعذيب، وليس سبب الوفاة.
> لكن تهمة شهدي عطية - حسب توصيف نظام ناصر لها - أنه «شيوعي» لكن ما تهمة خالد سعيد، فهل كونه -لو صدق ادعاء الداخلية- متعاطي مخدرات يعد اتهاما يستحق عليه القتل؟
-هذا هو مكمن الخطر لأن السلطة من قبل كانت تحدد أعداءها مثل الإخوان الشيوعيين..الخ، لكن خالد سعيد عدو من؟ هنا أصبح المواطن العادي في حد ذاته عدوا للسلطة.
هنا يبرز ما يسمي بثقافة التعذيب التي أصبحت ثقافة جماهيرية و«كلنا» بنحب التعذيب والعنف أصبح سلوكا عاما يمارس بين كل فئات الشعب حتي بين رجال القانون أنفسهم والدليل هو ما يحدث بين المحامين والقضاة الآن، إذا بحثنا في سبب الأزمة نجد أن جوهر الموضوع هو استرداد الحق باليد والقوة وليس بالقانون جوهر ما حدث بين المحامي ووكيل النيابة والذي فجر الأزمة بين الطرفين هو أن الثاني اعتدي بالضرب علي المحامي - حسب الرواية المعروفة- وعندما تدخل المحامي العام لحل الأزمة والصلح لم يرتض المحامي بهذا الحل والاحتكام إلي القانون وقرر استرداد حقه بيده وقام بضرب وكيل النيابة.
وعما حدث بين القضاة والمحامين كتبت مقالا بعنوان «تحية واجبة لشباب المحامين وشباب القضاة... علمناكم فاستوعبتم الدرس وتفوقتم» فنحن الجيل الأكبر علمنا هذا الجيل أن استرداد الحق «باليد وليس عبر سلطة القانون» وتلك هي مسئوليتنا التي علينا تحمل عواقبها.
> هل تجد إذن في العنف رابطا بين قضية خالد سعيد، وأزمة المحامين والقضاة؟
-الواقعتان شيء واحد من وجهة نظري، والاثنتان نتيجة طبيعية لما عززناه من أفكار تؤكد أن «المحترم والأقوي هو الذي يأخذ حقه بيده» ومن ثم إذا كنت شرطيا ومن الممكن أن تحتكم إلي القانون أثناء القبض علي مجرم، إلا أنه من الأفضل أن تضربه وتعذبه، حتي المحامي ووكيل النيابة والقاضي الكل يسترد حقه بيده.
قديما عندما طرح شعار «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة» كان المقصود هنا إسرائيل عدونا الخارجي، لكننا حذرنا من وقتها أن القوة لا تتجزأ وإذا ربينا أطفالنا علي أن استرداد الحقوق بشكل عام لن يأتي إلا من خلال القوة هنا اختصرنا الحق وطرق استرداده في ممارسة العنف.
> لماذا اهتم الناس بحادث خالد سعيد -رغم أنهم لا يعرفونه - ولم يهتموا بما يحدث بين القضاة والمحامين؟
- لأن المحامين والقضاة فئات متميزة ومعروفة، لكن «خالد سعيد» لا يعرفه أحد لأنه مجرد شاب عادي، وهذا ما أفزع الشباب العادي الذي خرج محتجا علي ما حدث معه، لكن خلاف المحامين مع القضاة أمر لا يخصهم، وحتي عندما أضرب المحامون لم يضرب معهم أي مواطن لأنه لا يري ضررا مباشراً عليه.
> لكن حادثة خالد سعيد طرحت بشكل مختلف، فهو أولا شاب عادي حتي انحرافاته عادية أنه كان شابا مشاغبا أدي الخدمة العسكرية وخرج بتقدير ضعيف، لكنه ليس قاتلا، في النهاية مواصفاته هي مواصفات الشاب المصري العادي غير المهتم بالقانون وأصدق أنه يتعاطي المخدرات، لكنني لا أصدق أن يقتل بهذا الشكل، حتي وإن كان فعلا هاربا من الخدمة العسكرية - حسب رواية الداخلية - هل هذا يستدعي قتله، ولماذا هو؟ رغم أنه كان هناك مطرب هارب من الخدمة العسكرية والناس رفعت له اللافتات وقالت له « بنحبك» رغم أنه مزور ومتهرب من الخدمة.
جوهر القضية هو أن ما حدث لخالد سعيد ليس حادثة فردية وما حدث بين القضاة والمحامين أيضا ليس حادثة فردية وإذا اعتبرناهما كذلك فمن المؤكد أنها ستتكرر.
> كل يوم هناك حوادث قتل وتعذيب داخل أقسام الشرطة..لكن لم تخرج مظاهرات احتجاجية كما حدث مع شهيد الإسكندرية.. لماذا؟
- لأن حادثة التعذيب وقعت في الشارع أمام الناس، و الصحف ووسائل الإعلام نشرت صوره بعد الضرب والتعذيب، وأسرته نشرت في المقابل صورة جميلة جداً للشاب قبل التعذيب تثير التعاطف، هذا كله عمل إعلامي واستفز مشاعر المصريين.
أيضا وزارة الداخلية أخذت موقفا دفاعيا و أصدرت بيانا تقليديا أدانت فيه خالد سعيد ووصفته بـ«الحشاش والخارج عن القانون» هذا أمر استفز مشاعر المواطنين.
> هل قتل خالد سعيد بهذا الشكل كان يحمل رسالة من النظام إلي الشعب؟
- كنت أتمني أن يكون الهدف مما حدث هو توصيل رسالة لكن هذا لم يحدث فالرسالة تعني أن هناك جهازا مركزيا يرسل رسالة، لكني متأكد أن ما حدث لا يحمل أي رسالة، أنما تعبير صريح علي أن العنف أصبح سلوكاً عاماً، يمارس حتي دون توجيه أوامر مباشرة، هذا بعكس ما حدث في مقتل شهدي عطية الذي كان فعلا يحمل رسالة أن الشيوعيين مستهدفون، لكن في قضية خالد سعيد لا توجد أي رسالة لأن الرسالة المطلوب توجيهها أصبحت بداخلنا تشبعنا بها وتربينا عليها وأصبح التعذيب سلوكا عاديا.
> بدا في الفترة الأخيرة وكأن هناك صداما مابين القضاة والمجتمع، في البداية كانت هناك أزمة تولي المرأة منصب قاضية بمجلس الدولة، ثم أزمة القضاة والمحامين، ثم الكنيسة والقضاء بعد الحكم بحق المطلقين الأقباط من الزواج.. هل أصبحت هناك أزمة ثقة بين القضاة والمجتمع؟
- في رأيي الأزمة بدأت عندما شاهدت الناس القضاة وهم في مظاهرات، بمعني أنني حينما أشاهد القاضي في مظاهرة وأتضامن معه ثم أتقدم أمامه في المحكمة أليس من الممكن أن يتحيز لي، و العكس لو كنت ضده سيتحيز ضدي، لذلك فمنذ قديم نعرف أن القاضي لا ينبغي أن يري و لا يحتك بالناس لأنه رمز للعدالة والحيادية والانتصار إلي القانون.
> هل تري إذن أن تظاهر القضاة هو الذي هز صورتهم... و ماذا عن القضاة الذين اتهموا بتزوير الانتخابات ألم يكن هذا سببا أدعي لوجود أزمة ثقة بين المواطن والقاضي؟
-هذا بالطبع ترك أثرا، لكن جوهر القضية في أنه حينما يشتبك كقاض في الممارسات اليومية سواء كانت تزويراً أو إدانة تزوير أو رأيه في السياسة أصبح هنا شخصا عاديا مثله مثل أي شخص، هذا هو جذر اهتزاز صورة القضاة.
> وهل هناك أسباب إضافية في أزمة القضاة والمجتمع غير تظاهرات القضاة؟
-ليس تلك هي الأسباب الوحيدة، لكن هناك أسبابا أخري كشفت عنها الأزمة الأخيرة بين المحامين والقضاة فإذا بحثنا في جوهر القضية نجد أن وكيل النيابة حاصل علي «مقبول» والمحامي دفعته حاصل علي تقدير «جيد» ، فالأول أصبح وكيل نيابة والثاني محامياً، هنا جذر الإحساس بالعنف الذي يفجره هو الإحساس بالظلم وغياب الشفافية، حسب ما يعلن رسميا أن هناك دفعة تكميلية من القضاء لأبناء المستشارين ، إذن لو أنا رفعت قضية أمام قاض أتظلم فيها من تعيين شخص علي حسابي بالاستثناء، والقاضي نفسه الذي يحكم معين أصلا بالاستثناء فكيف يكون حكمه؟!
-قديما كان هناك استثناء لأبناء أساتذة الجامعة في التعيينات ونجحنا في إلغائها لكن ماذا عن أبناء المستشارين والقضاة، هناك تساؤلات مهمة إذا لم نجد أجابه عنها سيزداد الإحساس بالظلم في ظل مناخ عام يؤكد علي أن استرداد الحق بالقوة يؤدي إلي أن العنف سيزداد.
لذا فلا أتصور أن المخبرين الذين ضربوا خالد سعيد كانت لديهم تعليمات صارمة من قبل وزارة الداخلية بضربه وقتله، هذا أمر أخطر حيث يؤكد أن العنف أصبح ثقافة الجميع ومنهجاً عاماً بل وسلوكا عاديا في التعامل علي جميع المستويات.
> هل غياب تلك الثقة كانت سببا - من وجهة نظرك - في تشكيك أسرة خالد سعيد ومنظمات المجتمع المدني بل أغلبية الشارع المصري في تقارير الطب الشرعي وبيان الداخلية، بل ولديهم إحساس مسبق أن حق خالد سيهدر؟
-لم ير أحد منا ما حدث مع خالد سعيد وكانت أمامنا روايتان ونفرض أن كلتيهما مقنعتان الرواية الأولي لأسرة خالد سعيد والثانية للداخلية، أنا أقرب إلي تصديق رواية الأسرة، وليس رواية الداخلية لماذا؟ لأن الداخلية هي الطرف الأقوي والأقدر علي التزييف، خصوصاً أن الضحية هذه المرة ليس عليه خلاف فهو لا ينتمي لأي فصيل سياسي، ولا هوية سياسية له فهو واحد من صفوف الجماهير العادية.
> هل التركيبة النفسية لرجل الشرطة اختلفت عما كانت من قبل، بمعني أن من عذب شهدي عطية كان يري أنه عدو للوطن لأنه شيوعي ومن ثم خلق لنفسه مبررا لتصرفه، لكن خالد سعيد لم يكن عدوا فهو شاب عادي ورغم ذلك ضربه المخبر حتي الموت؟
- الناس تعلمت أن الذي يمارس العنف هو الأقوي، ومن ثم لم نعد بحاجة لمبرر أن الذي يعتدي عليه هو فقط عدو الدولة.
إذا أردنا علاج هذه الظاهرة فلابد من ترسيخ ثقافة السلام التي يخشي الجميع الحديث عنها خوفا من اتهامه بالتطبيع، ذلك لأن السلام أصبح ذهنيا مرتبطا بعملية التطبيع، إذا نجحت الصهيونية في شيء فهي نجحت في أن تصدر لنا فكرة التطبيع وإدانة السلام، ذلك لأنها تعرف جيدا أن السلام ضدها ونحن التقطنا تلك الفكرة وتشبعنا بها، حتي وصل الأمر إلي أن من يدعي السلام فهو شخص خائن.
والدليل هل هناك وحشية أكثر من وحشية الإسرائيليين الذين قتلوا النشطاء المدنيين علي أسطول الحرية؟ لا طبعا.. إلا إن إسرائيل تعلن دائما أنها مع السلام ، ونحن نعلن أنه علينا سحب مبادرة السلام، وإسرائيل التي تقتل هي التي تقول إنها مع السلام، ومن ثم الذي نتج عن غياب ثقافة السلام هو انتشار وتعزيز ثقافة العنف التي لم تعد موجهة ضد إسرائيل لكنها أصبحت سلوكا عاما في المجتمع.
> وهل تسمح ثقافة العنف تلك لرجل الشرطة بقوة إضافية؟
-من بين آلاف طلاب الثانوية العامة يتخرج كل من ضابط الشرطة و الحرامي ووكيل النيابة وأستاذ الجامعة والقاضي، بمعني أن ضباط الشرطة ليسوا نسيجا غريبا عن المجتمع، لكنهم إفراز طبيعي لثقافة وتعليم هذا المجتمع، والمناهج التعليمية نفسها التي تم تدريسها بالمدارس، فالجميع أبناء هذه الثقافة، إذن لا يمكن لنا أن نسيد الفكرة ونقول إن رجال الشرطة لديهم عنف، علينا أن نجيب أولا عن هذا التساؤل هل هم أبناء مجتمع وثقافة أخري أم أنهم أبناء البيئة الثقافية والاجتماعية نفسها التي تربينا بها.
> لكن هناك آراء تقول إن التربية الشرطية والمناهج التي يدرسونها داخل كليات الشرطة هي المكون الرئيسي لثقافة العنف لدي الضباط؟
- غير صحيح.. لأن من يدخل كلية الشرطة يلتحق بها وهو بالغ من العمر 18 عاما يعني تشبع بكل القيم والأفكار التي تربي عليها داخل أسرته والمدرسة وتم تشكيل ثقافته ووعيه، الشخصيه تكون أثناء الطفولة والمراهقة، ما بعد ذلك مجرد تفاصيل.
كما إنني قمت بمراجعة مقررات كلية الشرطة، ووجدت أنهم يدرسون مادة حقوق الإنسان، و الحقوق لكنه في النهاية هذا الشرطي ابن مجتمعه، يعود إلي خلفيته الثقافية والقيم التي تربي عليها منذ طفولته.
> هل المناهج التعليمية طرف أساسي في ذلك؟
- هناك ما هو أخطر من المناهج وهو المناخ الثقافي العام الذي يعزز ثقافة القوة وأن الضعيف لا مكان له، والقوة للأغلبية ومن ثم تقمع الأقلية.
> لكن طالما بقيت السلطة للأقوي إذن هذا يعني سقوط دولة القانون؟
-هناك دولة قانون، لكن رجال القانون أنفسهم أبناء ثقافة هذا المجتمع وهي ثقافة العنف، لذا علينا أن نشغل أنفسنا بالسؤال الأهم وهو وماذا بعد؟
> و ماذا بعد وكيف نواجه ذلك من وجهة نظرك؟
-أعيد صياغة الثقافة العامة والتأكيد أن السلام هو الثقافة البديلة للعنف وهو الحل بدون خجل وإذا كانت الناس تروج أننا استعدنا سيناء بالقوة فهذا غير صحيح بالقوة استعدنا 15 كيلو وبالمفاوضات استعدنا باقي أراضي سيناء وبالتحكيم الدولي أخدنا طابا، من لديه كلام خلاف ذلك يرد به.
بالقوة لم ندخل تل أبيب ولم نصل رفح، أحدثنا خسائر كبيرة في الجيش الإسرائيلي أحدثت له صدمة علي أساسها تفاوضنا فتم الرجوع من قبل العدو لحدودنا الدولية ثم لجأنا إلي المحكمة الدولية لاسترداد طابا... تلك هي حقيقة ما حدث وهذا ما لا يقال لأن هذا يكسر فكرة العنف ويؤكد أن المفاوضات والتحكيم الدولي من الممكن أن تأتي بنتائج.
> لكن المفاوضات أحيانا كثيرة لاتصل إلي نتائج والدليل اعتصامات واحتجاجات العمال أمام مجلس الشعب؟
-كان هناك إضراب في كفر الدوار اشترك فيه 20 ألف عامل، كان إضرابا منظما نقابيا ليس له أي طابع سياسي حل بالمفاوضات، كلا الطرفين العمال وصاحب العمل وصلا إلي حل وسط يرضي الطرفين، لم يركز أحد علي دراسة ما حدث، وحتي إضراب الضرائب العقارية نجح، لأنهم خاضوا مفاوضات طويلة حققوا من خلالها مكاسب جيدة.
أما عمال «أمونسيتو» فاعتصم منهم عدد محدود أمام مجلس الشعب، من ثم أصبح الأقلية هم الغاضبين أما الأغلبية هي التي ارتضت إلي ما انتهت إليه المفاوضات الأولي، لذا لم يهتم بهم أحد، لو تصورنا إضراب الضرائب العقارية كان بعدد محدود هل سيكون لها النتائج نفسها التي حققوها من المؤكد لا، ذلك لأن قوتهم من عددهم وأن الجماعة علي قلب رجل واحد وتلك هي قوانين الإضراب.
> كيف كانت قراءتك لمشهد الاعتصامات المتتالية أمام مجلس الشعب وهتاف البعض ضد أعضاء المجلس؟
-لفت انتباهي ما هو أخطر من وجهة نظري، وهو أنني شاهدت هؤلاء مضربين ويهتفون والمرور يسير والناس تمر من أمامهم دون أن يتضامن معهم أي شخص عادي، لماذا لم يتعاطف الناس معهم؟ لأن الاعتصام عندما يكون محدود العدد لا يجد تعاطفا.
كما أن مشهد الاحتجاجات والاعتصامات بشكل عام في مصر أمر مهم وجيد،وتلك ظاهرة لم تعرفها البلدان العربية باستثناء لبنان وفلسطين، وباقي الدول العربية ما زال أمامهم نصف قرن حتي يعرفوا المظاهرات، وهذا ليس معناه أنهم سعداء بما هم فيه الآن، لكن مصر رغم كل المشكلات التي تمر بها لكنها أكثر الدول العربية تحضرا«شعبا وسلطة»، رغم أن السلطة تقاوم المظاهرات لكن مقاومتها لها ليس كما يحدث بدول أخري تقاوم مجرد التفكير في تنظيم المظاهرات، في مصر مدونات في حين أنها محظورة في كثير من البلدان العربية، هذه ظاهرة إيجابية تحسب لنا ولو كانت المدونات تحت المراقبة وهي ممكن أن تكون كذلك، من الممكن أن تكون السلطة تستفاد من هذا الوضع وتتباهي به لكن في النهاية يحسب لها.
> هل ضعف عدد المتظاهرين فقط هو الذي لا يثير تعاطف الناس معهم أم لأنهم يطالبون بمطالب خاصة جدا تخصهم و حدهم ولا تعبر عن مشكلات الأغلبية؟
- البعض يوصف هذا بأنه احتجاجات مطلبية، وأن المظاهرة الحقيقية هي التي تكون علي أساس مطالب سياسية، أما المظاهرات في كل دول العالم فأغلبها مظاهرات مطلبية، وليست سياسية بمعني أنه لا ينبغي أن نحتقر المظاهرات القائمة علي مطالب فئوية لأنها أمر مهم.
> السؤال التقليدي الذي لا نمل من طرحه وهو لماذا لا يثور المصريون؟
-الثورة لها قوانين وهي أن يعي الشخص بظلمه، ثانيا لا يوجد أي أمل في بقاء الوضع عما هو عليه، وأن يكون هناك أمل في أن الثورة ستحقق الهدف المطلوب تلك هي الشروط الرئيسية التي تدفع إلي الثورة وبدونها لن تحدث.. وتلك القوانين لم تتوافر بعد لدي المصريين.
> ألا تعتبر احتجاج المصريين علي ما حدث لخالد سعيد شكلا من أشكال الثورة أو خطوة نحوها؟
-من خرجوا احتجاجا علي ما حدث لخالد سعيد اتخذوا موقفا جيدا لكن علينا أن نسأل أنفسنا في البداية هل هم خرجوا احتجاجا علي العنف والظلم بشكل عام أم احتجاجا علي هذا الشكل تحديدا من فقط أم ضد العنف بشكل عام

الخميس، 1 يوليو 2010

نقاط مضيئة

http://www.ahram.org.eg/214/2010/07/01/10/27387.aspx

نقاط مضيئة[1]
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com

تسود مزاجنا القومي هذه الأيام غلالة قاتمة. صراع بين القضاة و المحامين، و صراع بين الكنيسة الأرثوذكسية و المحكمة الإدارية و العلمانيين الأقباط، و اهتزاز لمصداقية –ولا نقول صدق- مؤسسة الطب الشرعي. إنها صراعات تدور بين مؤسسات ألفنا أن تكون ملاذنا حين تعوزنا الحكمة و نلتمس العدل. و تذكرت قول الشاعر القديم
سيذكرني قومي إذا جد جدهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
ترى أي بدر نفتقده في ظل تلك الغلالة القاتمة؟ من الشائع في مثل هذا الموقف أن يتلفت المرء خلفه ليبحث عن بدره الذي غاب، و لكنه بحث لا يخلف إلا مزيدا من اليأس، فالماضي لا يعود. و حاولت أن ألتمس نجوما متناثرة ما زالت تلمع رغم حلكة الظلام.
أعرف أن مثل تلك المحاولة لن تجد ترحيبا لدي العديد من أصدقائي و رفاق دربي الذين أصبحوا يضيقون كل الضيق بأي بارقة ضوء تبعث علي الأمل في المستقبل، و تجدهم يهزون أكتافهم و يهمهمون: إنها مجرد حالات فردية أو أنهم مجرد قلة لا دلالة لها؛ و لكن ألا تستحق تلك الحالات الفردية أو تلك القلة أن ندعمها و نتمسك بها فلعلها تنتشر و لعلها و هو الأهم تؤكد أن بيننا من لا يزالون يصنعون الأمل.
"لقد هجر الشباب المصريون السياسة و أولوا ظهورهم لها و لم يعد يعنيهم سوي توافه الأمور" كثيرا ما سمعنا و رددنا مثل تلك العبارة حتى كادت تصبح من المسلمات. و غالبا ما نترحم نحن المسنون علي أيامنا الجميلة حيث كانت الجامعة تهدر بالتيارات السياسية. و على أي حال فإن انصراف غالبية المصريين شبابا و كهولا عن المشاركة في الانتخابات حقيقة لا يماري فيها أحد، و لكن هل يعني ذلك بالضرورة انصراف الشباب عن السياسة إذا ما اعتبرنا أن الانشغال بالهم الوطني هو جوهر الممارسة السياسية. و لقد أقدمت مؤخرا على إقحام نفسي علي عالم كان يبدو غريبا علي، هو عالم المدونات و الفيس بوك؛ و وجدتني بين أمواج من الشباب يتحدثون عن هموم الوطن. غالبيتهم غاضبون و بعض الغاضبين يعبرون عن يأسهم من المستقبل، و لكن البعض –وهم ليسوا قلة- يترجمون غضبهم إلي أفعال و ممارسات احتجاجية متفاوتة. صحيح أن البعض منا نحن المسنون قد يضيق باندفاعهم و قد تصدمه بعض تعبيراتهم، بل و قد يشفق عليهم و لكن أحدا لا يستطيع أن ينكر عليهم حبهم لمصر و إقدامهم علي القبول بدفع ثمن ذلك الحب الذي قد يكون باهظا. تري ألا يمثل هؤلاء الشباب نقطة ضوء؟
لنترك هؤلاء قليلا و لننظر إلي نقطة ضوء أخري تتمثل في "مجدي يعقوب" الذي يعد واحدا من أشهر ستة جرّاحين للقلب في العالم، ويعدّ ثاني جرّاح يجري عملية زراعة قلب ، وقد قام بحوالي ألفي عملية قلب، وذلك على مدار 25 عاماً أنقذ فيها حياة آلاف المرضى. و قامت ملكة بريطانيا بمنحه لقب "سير" عام 1991، و إذا به بعد أن تقاعد و تقدم به العمر يسخر خبرته و علاقاته و ماله لخدمة الفقراء في وطنه فيقيم في عام 2008 مؤسسة لأمراض و أبحاث و جراحات القلب في أسوان، و هي مؤسسة تمولها التبرعات.
و لم يكن غريبا أن تلتحم نقطة الضوء هذه بنقطة ضوء أخري متمثلة في مؤسسة "مصر الخير" التي قدمت لمؤسسة مجدي يعقوب مؤخرا أحدث جهاز قسطرة قلبية بتكلفة 4.9 مليون جنيه، وذلك فى إطار اتفاقية التمويل والبروتوكول الموقع بين المؤسستين وقام بتوقيع الاتفاقية فضيلة المفتى الدكتور على جمعة رئيس مجلس أمناء مؤسسة مصر الخير، والسفير الدكتور محمد شاكر رئيس مجلس أمناء مؤسسة مجدي يعقوب، والأستاذ الدكتور مجدى يعقوب باعتباره نائبا لرئيس مؤسسة مجدي يعقوب. أليست تلك نقطة ضوء لامعة.
ثمة نقطة مضيئة أخري تتمثل في مركز غنيم لأمراض و جراحات الكلي والمسالك البولية بالمنصورة و الذي بدأ في عام 1976 حيث التقت مجموعة من الأطباء الشبان المجهولين و معهم الدكتور محمد غنيم و قاموا بإجراء أول عملية نقل كلي في مصر بأيد مصرية في مستشفي المنصورة الجامعي القديم، ورغم الإمكانيات المتواضعة نجحت العملية، مما شجعهم علي التفكير في إنشاء مركز متخصص لجراحة الكلي والمسالك البولية في مدينة المنصورة التي تتوسط الدلتا حيث تنتشر البلهارسيا، و في عام 1978، جاء الرئيس السادات لزيارة المنصورة، و زار المستشفي الجامعي و قابل مجموعة الأطباء الذين أجروا أول عملية نقل كلي، و أصدر قرارا بتعيين الدكتور غنيم مستشارا طبيا في رياسة الجمهورية ليتمكن من تذليل العقبات البيروقراطية المتوقعة، و انتهي العمل في المركز عام 1983و مر عليه الآن 24 عاماً كاملة استقبل خلالها آلاف المرضي الذين تتلقي غالبيهم العظمي العلاج بالمجان، و اكتسب المركز سمعة دولية هائلة. أليست تلك نقطة ضوء ما زالت تسطع رغم كل شيء؟
أستأذن في نقطة ضوء أخيرة تتمثل في مستشفي الحوض المرصود للأمراض الجلدية التي لم أكن أعرف عنها شيئا إلي أن عرفتها من خلال أحد معارفي من العمال الفنيين. أصيب طفله الصغير بمرض جلدي و تردد صاحبي بالطفل علي عيادات الأطباء دون جدوى إلي أن نصحه البعض بالتوجه إلي مستشفي الحوض المرصود، و تردد صاحبي و لكنه قرر المحاولة. فوجئ بالزحام و لكن علي حد تعبيره كان زحاما منظما. وقف في الطابور و قطع تذكرة كشف بجنيه واحد فقط و اتجه للكشف علي طفله. ثلاثة أطباء يتشاورون بالنسبة لكل حالة و كتبوا له العلاج. اتجه للصيدلية و دفع جنيه واحد ثمن العلاج. غادر المكان متشككا و لكن أحوال الطفل تحسنت.
أعرف المزيد من نقاط الضوء، و أعرف أنها جهود فردية و متناثرة، و أنها لا تعني بحال أن الصورة وردية، و لكنها تعني يقينا أن الأمل ما زال قائما، و علينا أن نرعاه.
[1] الأهرام أول يوليو 2010