الثلاثاء، 6 يوليو 2010

http://www.al-ahaly.com/index.php?option=com_content&view=article&id=2104:2010-07-01-18-51-47&catid=39:2010-02-27-09-21-49&Itemid=664

ثقافة الموت – ثقافة الحياة
غلبة الروحانية التدميرية على روحانية الاحتفال بالحياة (1-2)[1]
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
لعل الحديث عن روحانية تدميرية قد يبدو للوهلة الأولي متناقضا؛ حيث ارتبطت الروحانية في تراثنا الشعبي بالرقة و الحب و الشفافية و الترفع علي الشهوات الدنيوية و ذلك فضلا عن أن الروحانية بحكم اشتقاقها اللغوي من "الروح" ترتبط بكل ما هو غير جسدي غير دنيوي. و في مقابل ذلك فإن "التدمير" يرتبط بما هو مادي جسدي دنيوي.
و رغم ذلك التناقض الظاهر بين الروحانية و التدميرية في تراثنا الشعبي، فإن معطيات الواقع تشير إلي أن ثمة من يدمرون الحياة من حولهم بل و يدمرون أنفسهم جسديا بدوافع "روحانية" أي ترفعا عن كل ما هو دنيوي شهواني. و قد يبدو للوهلة الأولي أن ثمة جديد قد طرأ علي الإنسان جعله يجمع بين ما يبدو متناقضا؛ و لكن الأمر فيما نري ليس كذلك؛ فمثل تلك الازدواجية كانت قائمة عبر التاريخ البشري بحيث يستحيل العثور علي "روحانية" تستعصي علي الاستغلال التدميري، و يكفي أن نستعرض تاريخ ممارسة البشر لما تلقوه من رسائل السماء التي تعتبر قمة الروحانيات.
الرسائل الإلهية و سلوك البشر
الكتب السماوية كتب خالدة لا يطرأ على نصوصها تعديل مهما تغير الواقع الاجتماعي السياسي، و من ثم فإن تفسيرات البشر لم تنقطع لتلك الكتب التي يؤمنون بها فضلا عن تلك التي يؤمن بها غيرهم، و نستطيع أن نقرر دون خوض في التفاصيل أن لا توجد جماعة لم تلتمس في كتابها المقدس ما يبرر لها العنف و القتل و الإبادة، و أيضا ما يبرر لها المسالمة و الموعظة الحسنة، دون أن ينتقص ذلك التباين بطبيعة الحال من قدسية الكتب السماوية.
إنه اختلاف بين اجتهادات البشر، و يعلم الله وحده بمن اجتهد فجانبه الصواب و من اجتهد فأصاب، و من أول فتعسف في التأويل إفراطا أو تفريطا لغرض في نفسه: نفاقا أو خوفا أو طمعا. الأمر المؤكد أن الجميع قد وصفوا تأويلاتهم بأنها التأويلات الصحيحة المعتدلة المعبرة عن جوهر الدين.
لقد أكدت دراسات علم النفس السياسي تأثير الدين علي السلوك، و لذلك لم يكن مستغربا أن يلجأ البشر علي اختلاف نوازعهم لالتماس السند الديني لتصرفاتهم أيا كانت، فوجدنا يهودا يلتمسون في آيات العهد القديم ما يبرر لهم القتل و سفك الدماء دون تمييز، رغم الآيات التي تحرم القتل و السرقة و النهب، بل و تنهي عن مجرد التفكير في الشر و تحذر من إيذاء الغرباء، و وجدنا مسيحيين يلتمسون في آيات العهد الجديد ما يبرر التعذيب و القتل رغم الآيات التي تدعو إلي التسامح و الحب، و لم يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لنا كمسلمين فقد وجدنا من يعتبر أن كافة آيات التسامح و المسالمة قد نسخت و لم يعد أمام المسلمين سوي قتل من يخالفونهم العقيدة.
إن جرائم المتطرفين من اليهود الذين يرفعون راية التوراة غنية عن البيان، و لعلنا لسنا في حاجة إلي إعادة التذكير بها، و في المقابل نجد من اليهود من وقفوا بصلابة ضد كافة مظاهر التمييز العنصري، و ضد إبادة الفلسطينيين و تدمير منازلهم. كذلك فقد أقدم المتطرفون من المسيحيون في العصور الوسطي على تعذيب المهرطقين، و قتال أتباع نفس الكتاب ممن يختلفون مع تأويلهم له، فضلا عن شن حروب الفرنجة تحت راية الصليب، و هاهو بوش يستخدم دون مواربة تعبيرات مثل "الحروب الصليبية" و "محور الشر"، و في المقابل نجد من المسيحيين من يناضلون بحق ضد كافة ممارسات القتل و التمييز.
و لا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لنا نحن المسلمون، و لعلنا لسنا في حاجة للخوض في تاريخ قديم نسمع عنه و قد نختلف حوله. يكفي أن ننظر حولنا الآن لنري من يمارسون بالفعل أعمال القتل و التدمير معلنين أنها تمثل روح الإسلام و جوهره، و في المقابل نجد منا من يعلنون بشجاعة و وضوح أن جوهر الدعوة الإسلامية كان و ما زال هو التسامح و الحرية.
ثمة خيط رفيع ينبغي أن يفصل بين رسائل السماء الإلهية و ممارسات البشر الدنيوية، و إذا ما اختفي ذلك الخيط، أصبح في مقدور فرد أو جماعة أن يعلن أنه وحده صاحب القول الفصل في مقاصد السماء، و أنه ظل الله علي الأرض و الناطق الأوحد باسمه تعالي.
الطريق الآمن الفعال
الصراعات الفكرية تحتدم بيننا و بين فصائلنا، و بيننا و بين الآخرين: من مواقف فصائل المعارضة و السلطة، إلي اختلافات في الرؤى داخل أسرنا و مدارسنا و جامعاتنا و مساجدنا و كنائسنا، و إذا كان الاختلاف سنة من سنن الحياة، و أنه لا يوجد فردين متفقان تماما في كل شيئ، فثمة حقيقة أخري يؤكدها تراث علم النفس، فضلا عن وقائع الحياة و هي أنه لا يوجد بالمقابل فردان يختلفان في كل شيء.
لقد عرفت البشرية عبر تاريخها الطويل سبلا عديدة لحل الصراعات، لعل أقدمها "حل الصراع بالقوة"؛ و تطورت صور القوة التي يعتمد عليها البشر من قوة البدن إلي قوة العدد إلي قوة الاقتصاد إلي قوة السلاح إلي غير ذلك من أدوات القوة، و ما زالت تلك الإستراتيجية تمثل الخيار المفضل لدي العديد منا، رغم ما تشير إليه وقائع التاريخ من أن حل الخلافات بالقوة أيا كان نوع تلك القوة لا يعني عمليا سوي تأجيل الصراع إلي أن تتغير موازين القوي و تدور الدائرة فيقوي الطرف الذي كان مهزوما فيفرض طاعته علي الجميع و هكذا دواليك.
لقد قاوم الكثيرون طويلا و ما زالوا يقاومون التسليم بحقيقة أن ثمة ثمة طريق أمن فعال لإدارة الخلاف، تتمثل بدايته في الحوار، فإذا ما أخفق الحوار، فليكن خضوع الأقلية لقرار الأغلبية، فإذا ما أعاقت سلطة الغالبية تعبير الأقلية عن رأيها، أو إذا ما تمردت الأقلية علي الخضوع لقرار الأغلبية، فليكن الاحتكام للقانون، فإذا ما عز الاحتكام للقانون المحلي، فليكن الاحتكام إلي الرأي العام بآلياته المتدرجة من التظاهر إلي العصيان المدني، فإذا ما تعذر ذلك، فليكن اللجوء للقانون الدولي، فإذا ما تعذر ذلك فليكن اللجوء لمؤسسات الرأي العام العالمي؛ بحيث يصبح اللجوء إلي القوة هو آخر الاختيارات.
صحيح أن اللجوء إلي تلك السلسلة المتدرجة الطويلة قد يتطلب صبرا مؤقتا علي الظلم و لكنه صبر إيجابي لا يعني التسليم للظالم بظلمه، و قد يكون صحيحا كذلك أن الحل الناجم عن الحوار قد لا يعني التوصل إلي سلام مكتمل يحقق المطالب النهائية للأطراف جميعا، و صحيح كذلك أن تلك السلسلة المتدرجة الطويلة تتطلب شبكة واسعة من التحالفات بين أطراف قد لا تتطابق مصالحها النهائية بقدر ما تتعارض، و لكنها حقيقة الحياة التي أكدتها بحوث و دراسات علم النفس السياسي فضلا عن خبرات الحياة: حتمية الاتفاق و التعاون بين البشر شرط لكي تستمر الحياة علي هذا الكوكب؛ فلو نظر المرء إلي ما يدور حوله لاتضح له علي الفور أنه لا يوجد فرد يستطيع تحقيق احتياجاته جميعًا بمعزلٍ عن الآخرين. لو حاول أي منا أن يكتب قائمة تتضمن ما يريده من الآخرين، لوجد أن هذه القائمة تمتد إلي ما لانهاية، وأنها تضم قائمة بالغة التنوع والاختلافات، و أنها لا تقتصر الأمور المادية المحسوسة فحسب؛ بل تشمل العديد من الأمور المعنوية التي قد تفوق قيمتها في كثير من الأحيان الأمور المادية؛ كالعدل، والحرية، والحب، والأمن، و الاحترام.
الجميع مضطرون إذن للاعتماد بصورة أو بأخرى علي الآخرين. يصدق ذلك علي الأفراد كما يصدق علي الجماعات. لقد تزايدت حاجة الناس لبعضهم البعض مع تقدم الحضارة البشرية بحيث أصبحنا لا نستطيع أن نجد في عالم اليوم جماعة تستطيع العيش في عزلة عن العالم معتمدة في إدارة حياتها علي قدراتها الذاتية فحسب. لقد أصبح الحصول علي تدعيم الآخرين يكاد يكون شرطا من شروط استمرار الحياة.
و رغم رسوخ تلك الحقائق فإنه لمما يلفت النظر أن المجتمعات البشرية لم تخل قط عبر التاريخ من إفراز من تتلبسهم تلك الروحانية التدميرية، و إن كان العصر الحاضر يشهد لهم تزايدا غير مسبوق.
ملامح الشخصية الروحانية التدميرية
لعل أهم ما تتميز به تلك الشخصية سمة تبدو مشتركة مع أصحاب الشخصية الروحانية المسالمة الداعية إلي الحياة؛ و هي سمة "الإيثار" بمعني أن صاحب تلك الشخصية التدميرية يسلك سلوكا يشي بأنه لا يبالي بما يصيبه في سبيل ما يعتقده، و هي نفس السمة التي يفترض أن تميز الروحانيون محبو الحياة المدافعون عنها؛ غير أن الفارق الأساسي يتمثل في ملامح الصورة الذهنيّة لدي صاحب الشخصية التدميرية عن الطرف الآخر:
1- إنّ الآخر إمّا عميلٌ مأجور، أو ساذج جاهل. فليس من المنطقيّ ، أن يوجد شخصٌ عاقلٌ نزيه، يمكن أن يقبل بتلك الترّهات التي يقول بها الجانب الآخر.
2 - لم يعد الحوار مع الآخر مجديًا0 لقد استنزفنا معه كافة إمكانيات الحوار0 إنه لا يفهم إلّا لغة القوّة0 إنه البادئُ بالعدوان. إن التفاهم معه لا يعني سوي الضعف و التخاذل 0
3 - الآخر هو الخارج علي الأصول الصحيحة: الشرعيّة القانونيّة، الإسلام الصحيح، الاشتراكيّة الصحيحة، المسيحية الأرثوذكسية ••••الخ 0 المهم، أنه هو الخارج دومًا عن الأصول، ونحن الملتزمون دومًا بتلك الأصول.
4 - الآخر لا يمثّل إلّا أقليّة، أمّا الغالبيّة، فإنها تتعاطف معنا بكل تأكيد. وأيّة مؤشّرات تشير إلي غير ذلك فإنها -أيا كانت - مجرّد زيف.
5 - مهما قال الآخر، أو حتى فعل، لكي يوهمنا بأنّه قد تغير، فإنه يظل في جوهره كما هو.
6 - الآخر يريد لنا الاغتراب عن الواقع، اندفاعًا إلي مستقبلٍ غريبٍ عنّا، أو انسحابًا إلي ماضٍ سحيقٍ لم تعُد لنا علاقةٌ به.
7 - لا ينبغي أن نفرّق في مواجهتنا لهم بين "المفكّرين" و "المنفّذين"، أو بين "الموافقين" و "المعارضين" في صفوفهم، فكلهم أعداء. بل ولعلّ ما يبدونه من تنوّع في المواقف ليس سوي نوع من الخديعة.
8 - ينبغي أن ننقّي صفوفنا من أولئك المتخاذلين الذين يدعون إلي حوارٍ مع أعدائنا. إنّهم إمّا سُذّجٌ مضلّلون، أو عملاءٌ مندسّون، أو ضعافٌ ترعبهم المواجهة الشاملة 0
تري كيف يمكن لمجتمع بشري أن يقدم رغم كل وقائع التاريخ علي إفراز مثل تلك الشخصيات التدميرية؟ كيف يتم تدعيمها؟ كيف يتم الترويج لها؟
هذا ما سوف نجيب عنه في العدد القادم

[1] الأهالي، 30 يونيو 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق