الخميس، 29 يوليو 2010

http://massai.ahram.org.eg/231/2010/07/28/36/14968/219.aspx

العقيدة و الدولة[1]
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
ظل تجميع البشر تحت قيادة مركزية تستند إلي مرجعية فكرية واحدة وهما يداعب الفكر الإنساني منذ بداية التاريخ و لم يكف البشر عن محاولة تجسيد هذا الوهم حتى يومنا هذا سعيا لخلق عالم مثالي نموذجي ينعم البشر في ظله إذا ما تحقق بأقصى قدر من الرفاهية و السعادة.
و يفيض التاريخ البشري بما لا حصر له من بحور الدماء التي سالت لتجسيد مثل ذلك الحلم علي الأرض في صورة الدولة العقائدية أي تلك الدولة التي تقوم علي تصور نظري مسبق اكتملت صياغته من قبل، وتظل الدولة ملتزمة بها أو محاولة ذلك خلال ممارستها العملية لدورها.
و رغم أن الحلم بعالم أفضل هو القوة المحركة لأي تقدم إنساني أو تغيير اجتماعي, فإن الأمر يصبح مأساة حقيقية حين تتحول الدعوة إلي تحقيق ذلك العالم المثالي المنشود من الكلمة و الإقناع إلي القهر و الإجبار و محاولة دفع البشر قسرا و سوقهم بالسلاسل إلي تلك الجنة الموعودة.
يشهد عالمنا المعاصر تزايدا ملحوظا لأفكار و ممارسات ترفع رايات ذلك الحلم القديم بتوحيد العالم: الولايات المتحدة تسعي لتوحيد العالم أو عولمته ولو اقتضي الأمر خوض حروب دامية, كما نشهد تصاعدا لجماعات إسلامية هدفها البعيد المعلن منذ انهيار دولة الخلافة العثمانية يتمثل في السعي إلي إقامة "الدولة الإسلامية" التي قد تختلف الرؤى و تتباين حول تفاصيل ملامحها؛ و لكنها تتفق علي كونها دولة عقائدية عالمية ذات قيادة مركزية.
و لعله من المناسب و الأمر كذلك أن نعرض في عجالة لأهم نموذجين تاريخيين في هذا المجال, كان كلاهما تجسيد لمفهوم الدولة العقائدية, رغم أنهما يقفان علي طرفي النقيض من حيث المنطلقات الفكرية: دولة الخلافة الإسلامية, و دولة الاتحاد السوفييتي الماركسية. و أوجه تناقضهما الفكري غنية عن البيان, أما أهم أوجه التشابه فتتمثل فيما يلي:
أولا: العالمية
شهد تاريخنا الإسلامي منذ حقبة مبكرة جدلا فكريا شديدا حول تحديد معالم هوية المسلم الحق التي تميز بينه و بين غيره: تري هل يكفي الاقتناع و التسليم أم انه لا بد من بيعة و جهاد و دولة و خليفة؟ هل يمكن الاكتفاء بإقامة دولة إسلامية في حدود قطر واحد فحسب؟ أم أنه ينبغي السعي لتشمل مظلة الخلافة البشر جميعا؟ و هل الانتماء الإسلامي ينبغي أن يتخطى حدود الانتماء القومي؟ و استند المتجادلون جميعا إلي فهمهم أو تأويلهم لنصوص الكتاب الكريم و السنة النبوية الشريفة.
و كان الأمر شبيها بذلك فيما يتعلق بالماركسية السوفييتية التي انطلقت من أرضية مناقضة للديانات السماوية, إذ واجهت أسئلة شبيهة: تري هل يكفي الاقتناع بالفكر الماركسي أم انه لا بد من التنظيم الشيوعي و السعي إلي السلطة؟ هل يمكن إقامة هذه السلطة في حدود دولة واحدة أم المطلوب استمرار الثورة إلي أن ينجح عمال العالم في إقامة دولتهم العالمية؟ هل الالتزام الماركسي ينبغي أن يتخطى حدود الالتزام القومي؟ و استند الجميع إلي فهمهم و تأويلهم لما قال به المؤسسون الكبار للنظرية.
ثانيا: وحدة مركز القيادة
أقام الماركسيون تنظيما أمميا عالميا اتخذ من موسكو مركزا لقيادة عملية التوحيد, و كان منطقيا أن تكون للكريملين الكلمة العليا في ذلك التنظيم الأممي, و في اختيار قادته و ممثليه في العالم؛ و لم يكن ذلك بالأمر المستغرب باعتبار أن الانتماء للماركسية يعلو غيره من الانتماءات القومية "الشوفينية".
و بالمقابل فقد تمثل السعي الإسلامي في إقامة دولة الخلافة إسلامية التي تنقلت مراكز قيادتها بين مكة و دمشق و بغداد و القاهرة إلي آخره, و لم يكن حكام أقاليم الخلافة الإسلامية من مسلمي الأقاليم المفتوحة طوعا أو غصبا بل من أصحاب الفتح عربا كانوا أو أتراكا, و كان ذلك أمرا ملفتا فلو سلمنا بأن الانتماء للعقيدة الإسلامية يعلو علي غيره من الانتماءات القومية "الشعوبية"، لما كان هناك ما يمنع شرعا من أن يتولي ولاية مصر مثلا مصريا مسلما أو علي الأصح مسلما مصريا.
ثالثا: الاتهامات بالزندقة و المراجعة
في ظل الحرص علي وحدة الدولة العالمية فكرا و ممارسة لم يكن بد من التصدي بمنتهي الشدة التي تصل إلي حد القتل لمن يهدد تلك الوحدة, و من ثم فقد انهالت الإدانات بالمراجعة و الردة و الخيانة بل و العمالة علي كل من يخرج علي التأويل الرسمي السوفييتي المعتمد للنظرية الماركسية محاولا تفتيت وحدة الصف الشيوعي, كما انهالت إدانات مماثلة بالزندقة و الردة و التحريف علي كل من يخرج علي التأويل المعتمد من مقر الخلافة للقرآن الكريم و السنة المطهرة. و طالت تلك الاتهامات من كانوا يحتلون مراكز الصدارة في المشهد الماركسي من كاوتسكي و تروتسكي إلي ماوتسي تونج إلي تيتو و جارودي, و لم تختلف تلك الاتهامات في جوهرها كثيرا عن تلك التي وجهت إلي العديد من رموز الفكر و قادة العمل الإسلامي.
رابعا: النص و التأوبل
الكتب السماوية كتب خالدة لا يطرأ على نصوصها تعديل مهما تغير الواقع الاجتماعي السياسي, و من ثم فإن تفسيرات البشر لم تنقطع لتلك الكتب التي يؤمنون بها فضلا عن تلك التي يؤمن بها غيرهم, و نستطيع أن نقرر دون خوض في التفاصيل أن لا توجد جماعة لم تلتمس في كتابها المقدس ما يبرر العنف و القتل و الإبادة , و أيضا ما يبرر المسالمة و الموعظة الحسنة, دون أن ينتقص ذلك التباين بطبيعة الحال من قدسية الكتب السماوية. إنه اختلاف بين اجتهادات البشر, و يعلم الله بمن اجتهد فجانبه الصواب و من اجتهد فأصاب, و من أول فتعسف في التأويل إفراطا أو تفريطا لغرض في نفسه: نفاقا أو خوفا أو طمعا. الأمر المؤكد أن الجميع قد وصفوا تأويلاتهم بأنها التأويلات الصحيحة المعتدلة المعبرة عن جوهر الدين.
لعل أحدا لم يعد يجادل فيما أكدته دراسات علم النفس السياسي من تأثير الدين علي السلوك, و لذلك لم يكن مستغربا أن يلجأ البشر علي اختلاف نوازعهم لالتماس السند الديني لتصرفاتهم أيا كانت, فوجدنا يهودا يلتمسون في آيات العهد القديم ما يبرر لهم القتل و سفك الدماء دون تمييز, و يغضون الطرف عن آيات تحرم القتل و السرقة و النهب و تنهي عن مجرد التفكير في الشر و تحذر من إيذاء الغرباء, و وجدنا مسيحيين يلتمسون في آيات العهد الجديد ما يبرر التعذيب و القتل رغم كثرة الآيات التي تدعو إلي التسامح و الحب, و لم يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لنا كمسلمين فقد وجدنا من يعتبر أن كافة آيات التسامح و المسالمة قد نسخت و لم يعد أمام المسلمين سوي قتل من يخالفونهم العقيدة.
إن جرائم المتطرفين من اليهود الذين يرفعون راية التوراة غنية عن البيان, و لعلنا لسنا في حاجة إلي إعادة التذكير بها, و في المقابل نجد من اليهود من وقفوا بصلابة ضد كافة مظاهر التمييز العنصري, و ضد إبادة الفلسطينيين و تدمير منازلهم. كذلك فقد أقدم المتطرفون من المسيحيون في العصور الوسطي على تعذيب المهرطقين, و قتال أتباع نفس الكتاب ممن يختلفون مع تأويلهم له, فضلا عن شن حروب الفرنجة تحت راية الصليب, و هاهو بوش يستخدم دون مواربة تعبيرات مثل "الحروب الصليبية" و "محور الشر", و في المقابل نجد من المسيحيين من يناضلون بحق ضد كافة ممارسات القتل و التمييز. و لا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة للمسلمين
و السؤال الآن: تري هل علي المرء أن يدافع عن كافة تصرفات من ينتمون لجماعته الدينية مهما كانت دموية تلك التصرفات؟ هل ثمة بشر لا يخطئون؟ تري هل علي المسلم أو المسيحي أو اليهودي أن يحمل علي عاتقه وقائع مخضبة بالدم لأنها لصيقة بمن ينتسبون إلي دينه؟ هل تفرض الأخوة الدينية علي المرء أن يضع في سلة واحدة أبناء جماعته الذين يدافعون عن التسامح و الحرية مع من غامروا بحياتهم في سبيل القتل و الترويع؟ هل من المقبول أن يدين المرء تعصب الآخرين و جرائمهم دون أن يدين و بنفس القوة تلك الجرائم المنسوبة إلي أتباع دينه؟
و من الملفت للنظر أن ما يصدق علي أتباع الكتب الدينية المقدسة، يصدق و بنفس الدرجة علي أتباع أي كتاب عقائدي آخر حتي لو كان علمانيا، فرغم علمانية الماركسية، و رغم إقرارها بمبدأ النقد الذاتي، فقد عرفنا في النظام الماركسي "فيلسوف الحزب" بل و عرفنا تقديس مؤسس النظرية ثم تقديس خلفائه أيضا و إن لم يكن ذلك التقديس دينيا فإنه لا يقل عن التقديس الديني من حيث التنزيه عن الخطأ
و من ناحية أخري، فرغم أنه لا كهنوت في الإسلام، بمعني أن الإسلام لا يعرف "رجل الدين" الذي يلعب دور الواسطة بين النص المقدس و البشر؛ ، فقد عرفنا في الجماعات الإسلامية "مفتي الجماعة" و كلاهما يعتبر بمثابة المفسر الرئيسي المعتمد للنص الأصلي.
خلاصة القول
إن الدعوة لإحياء حلم الدولة الدينية – و هو التجسيد العملي لدمج الدين بالسياسة- تكاد تشمل العالم جميعا، غير أن ثمة خيط رفيع ينبغي أن يفصل بين رسائل السماء الإلهية و ممارسات البشر الدنيوية, أي بين الدين و السياسة، و إذا ما اختفي ذلك الخيط, أصبح في مقدور فرد أو جماعة أن يعلن أنه وحده صاحب القول الفصل في مقاصد السماء, و أنه ظل الله علي الأرض و الناطق الأوحد باسمه تعالي. ألا يوقعنا ذلك فيما يشبه التأله و العياذ بالله؟

[1] الأهرام المسائي، 28-7-2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق