الأربعاء، 14 يوليو 2010

http://www.ahram.org.eg/228/2010/07/15/10/29476.aspx

ثقافة الامتحانات[1]
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
حين تلقيت دروسي الأولي في القياس النفسي، و عندما مارست حرفتي بمصلحة الكفاية الإنتاجية كمتخصص في تصميم اختبارات و مقاييس القدرات و الاستعدادات المهنية، كنا نستخدم عبارة "لقد انكسر الاختبار" للإشارة إلي أن واحدا أو أكثر من التلاميذ قد حصل فيه علي الدرجة النهائية، و يصبح علينا تعديل ذلك الاختبار المكسور برفع سقفه -أي بزيادة صعوبته- بحيث يصبح أكثر قدرة علي التمييز باعتبار أن من حصلوا علي الدرجة النهائية لا يمكن التمييز بينهم، فضلا عن أن "الدرجة النهائية" تجعلنا من الناحية الفنية غير قادرين علي تحديد "الدرجة الحقيقية" التي يستحقها التلميذ.
استعدت تلك الذكري القديمة حين التقيت منذ سنوات في اسطنبول بأحد خبراء التربية الأتراك يسألني عن أمر بدا له مستعصيا علي الفهم "لقد قرأت في احدي الإحصائيات التربوية المصرية أن بعض الطلاب يحصلون علي ما يتجاوز 100% من درجات الامتحان، و تأكدت أن الرقم صحيح و ليس خطأ مطبعيا. تري هل ابتكرتم قاعدة رياضية جديدة تسمح بأن تكون قيمة البسط أكبر من قيمة المقام" و بطبيعة الحال عجزت عن التفسير المنطقي.
استعدت كل ذلك و أنا أتابع تلك المشاهد التي تكاد تنفرد به مصر خلال فترة الامتحانات: أمهات يتزاحمن علي أبواب المدارس في انتظار انتهاء بناتهن و أبنائهن من أداء الامتحانات و خاصة امتحانات الثانوية العامة. و عناوين الصحف تحمل صور أبنائنا و بناتنا يصرخون من صعوبة الامتحانات و يطالبون بالرحمة في التصحيح. و غالبا ما تصدر تأكيدات المسئولين سنويا بأن "الامتحان في مستوي الطالب المتوسط" بما يعني أن الطالب فوق المتوسط يستطيع أن "يكسر الامتحان". و إذا كان من ملمح إيجابي في تلك الصورة فهو أن الأسرة المصرية و خاصة محدودة الدخل تقاتل من أجل حصول أبنائهن علي أعلي الشهادات. و الشهادة تعني لغويا أن الموقع عليها يشهد بأن صاحبها قد توافر لديه القدر المطلوب من الخبرة في مجال معين، أو بعبارة أخري أنه مؤهل لإتقان عمل معين.
و لعل ذلك الموقف يعود بذاكرة أبناء جيلي إلي سنوات بعيدة حين كانت الأسرة محدودة الدخل تدفع بابنها إلي "أوسطي" يتعلم علي يديه حرفة معينة، و كثيرا ما كانت الأسرة تلوم الأوسطي إذا لاحظت أن عمل ابنها يقتصر مثلا علي تنظيف الدكان و إحضار الطعام للعمال؛ فإذا ما احتج الأوسطي بأنه يجاملهم و لا يريد إرهاق ابنهم، تكون توصية الأسرة حفز الأوسطي علي تدريبه حتى لو اقتضي الأمر عقابه. و من هنا انتشرت ظاهرة "الولد بلية" أو مشروع الأوسطي الصغير الذي سرعان ما يصبح أوسطي و يستقل بورشته الصغيرة. الأسرة في هذه الحالة لم تسع لحصول ابنها علي مجرد شهادة من الأوسطي، بل كان الهدف أن يتقن الصنعة بالفعل.
ترى لماذا أصبحت تلك الأسرة حين أتيح لها أن تدفع بابنها إلي التعليم تطالب بامتحان سهل و تصحيح أسهل؟ أظن أن ما تغير هو المناخ الاجتماعي السياسي المحيط بسوق العمل.
لقد كانت الدولة في حقبة الستينات تتولي مسئوليتي التعليم و التوظيف: من يحصل علي شهادة يتم تعيينه في وظيفة يستحيل بعدها أن يفصل إلا إذا انخرط في نشاط سياسي معاد للنظام، و يظل يترقى في وظيفته بصرف النظر عن مدي إتقانه لعمله، و كان من المنطقي آنذاك أن يكون الهدف النهائي هو الحصول علي شهادة. و رغم ذلك فقد كانت الشهادة آنذاك أكثر مصداقية حيث كانت قاعات الدراسة أقل كثافة و كان التعليم أكثر انضباطا و جدية.
و لكن دوام الحال من المحال. لقد توقفت الدولة عن توظيف الخريجين، و تقلص القطاع العام، و أصبح القطاع الخاص هو المسيطر علي غالبية فرص العمل. و للقطاع الخاص فلسفته الخاصة في اختيار العاملين بحيث يحقق أعلي ربحية ممكنة، و لذلك فإنه يهتم أول ما يهتم بدرجة إتقان العامل لعمله، و ليس بالمستوي الذي تقرره الشهادة التي يحملها. و مع تزايد ازدحام الفصول، و ما طرأ علي العملية التعليمية من قصور لسنا بصدد تفصيل القول فيه، و مع الإلحاح الجماهيري و الاستجابة الحكومية لتيسير الامتحانات؛ اتسعت الفجوة بين الحصول علي الشهادة و إتقان العمل. لقد أصبح حصول الطالب علي الشهادة لا يعني بالضرورة إتقانه للتخصص الذي تدل عليه تلك الشهادة.
و بدأنا في مواجهة عدة ظواهر مترابطة:
· زيادة أعداد خريجي الجامعات الذين لا يجدون عملا حيث تضاءلت فرص التعيين في وظائف الحكومة و القطاع العام، و في نفس الوقت فإنهم غير مؤهلين للعمل في القطاع الخاص.
· تدهور "قيم العمل" التي تتمثل في الحرص الذاتي علي الإتقان، و الالتزام الدقيق بالوقت، و تكريس كامل وقت العمل للعمل فحسب، و الاتجاه الإيجابي نحو العمل، و التوافق مع تعديل أوقات و ظروف العمل، فضلا عن القابلية لتعلم الجديد، و الثقة في الذات، و الحرفية المهنية، و الولاء للمؤسسة.
· السعي الحثيث لاستيراد العمالة الأجنبية التي تقبل بشروط العمل في القطاع الخاص، و تتوافر فيها "قيم العمل" و علي رأسها الحرص علي الإتقان.
تري هل يمكن أن تكون لدينا شجاعة مصارحة أبناءنا بأن تيسير الامتحانات و التصحيح رغم ما ينجم عنه من سعادة فإنها سعادة وقتية زائفة، و أن الشهادات التي نمنحها لهم وفقا لذلك النظام لا تزيد كثيرا عن رخصة قيادة مزيفة يحصل عليها بطريقة أو بأخرى من لا يعرف القيادة، و من ثم لا يكون أمامه إذا ما صدق الشهادة التي يحملها إلا أن يقدم علي كارثة قد تدمره شخصيا.
[1] الأهرام، 15 يوليو 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق