الخميس، 8 يوليو 2010

http://www.al-ahaly.com/index.php?option=com_content&view=article&id=2197:2010-07-08-14-16-09&catid=39:2010-02-27-09-21-49&Itemid=664

ثقافة الموت .. ثقافة الحياة
الخميس, 08 يوليو 2010 14:15 د. قدري حفني

تمجيد العنف لترويج السلاحتؤكد دراسات علم النفس الإعلامي أن رواج سلعة معينة لا يتوقف علي مجرد الإعلان عن وجودها و عرض مزاياها بل إن الرواج الأمثل إنما يتحقق بقيام ثقافة مساندة للسلعة تضمن لها دوام و تصاعد الطلب عليها. و يتطلب خلق مثل تلك الثقافة تشكيلا لخريطة الوعي بما تتضمنه من معايير و قيم و اتجاهات بحيث يصبح الطلب علي تلك السلعة جزءا لا يتجزأ من نسيج تلك الثقافة. يصدق ذلك علي صناعة السياحة بقدر صدقه علي صناعة السينما و جراحات التجميل و كذلك الأسلحة حيث جري ترويج ثقافة العنف.ازدهرت تلك الثقافة و ضربت بجذورها في جميع نواحي الحياة بحيث لم يعد أمام الدول و الجماعات مهرب من غواية الحصول علي الأسلحة حتي لو لم تكن تخطط لقتال، فعليها دوما تكديس الأسلحة لكي لا تغري أحدا بالاعتداء عليها، و بحيث تستمر تجارة السلاح في الازدهار تحت كل الظروف. و ما أن تشتعل الحرب حتي يبلغ ذلك الازدهار أوجه و لا يقتصر تدفق الأرباح آنذاك علي منتجي السلاح فحسب بل يشمل العديد من المهربين و تجار السوق السوداء و غيرهم، و مما يدعم ذلك أن مناخ الحرب بما يفرضه من سرية -خاصة فيما يتعلق بصفقات الأسلحة و عمولاتها- يشجع استشراء الفساد دون رقابة أو خوف من افتضاح، بعكس ما ينبغي أن يفرضه مناخ السلام من شفافية تتيح علي الأقل فضح الفاسدين و المرتشين، و لعلنا ما زلنا نذكر تعبيرا شاع بيننا خلال فترة الحرب العالمية الثانية عن "أغنياء الحرب" أي أولئك الذين ظهرت عليهم مظاهر الثراء فجأة بفضل مناخ الحرب و السوق السوداء، غير أن "أغنياء الحرب" هؤلاء لا يحتلون سوي ذيل قائمة أغنياء الحرب الحقيقية.لقد أصدر الصحفي البريطاني جدوين باروز عام 2002 كتابا بعنوان "صناعة السلاح" استخدم فيه تعبير "المجموعة القذرة" مشيرا إلي قائمة الدول التي تتصدر صناعة السلاح و تتربع الولايات المتحدة علي رأسها، تليها روسيا، ثم فرنسا، ثم بريطانيا، وألمانيا ، ثم هولندا، حيث تستأثر تلك الدول الست بتصدير 85% من السلاح في العالم و تحتل إسرائيل المرتبة الثانية عشرة في تلك القائمة، ومن المثير للانتباه أن الدول الأربع التي تتصدر تلك القائمة أعضاء دائمون في مجلس الأمن المسئول عن "السلام العالمي".نستطيع في ضوء ما تقدم أن نفهم مصدر تلك المقاومة الشرسة التي تثيرها الدعوة لثقافة السلام، فهي في النهاية مجرد ثقافة لا تستند إلي صناعة تدعمها و ترعاها، شأنها في ذلك شأن ثقافة الطب الوقائي في مقابل صناعة الأدوية، و ثقافة حماية البيئة في مقابل الصناعات الملوثة للبيئة.صحيح أن مجموع أعداد الناشطين في مجال ثقافة السلام في العالم لا يمكن أن يقارن بأعداد العاملين في أجهزة القتال و الأمن في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها مثلا ، و صحيح كذلك أن تمويل أنشطة السلام وحتي أنشطة التعليم و الرعاية الصحية لا يمكن أن يقارن بتلك المليارات التي تنفق علي صناعة و تجارة السلاح، و صحيح كذلك أن الدعوة لثقافة السلام تتعرض دوما لمحاولات التزييف و التهجم و وصمها بأنها ليست سوي دعوة لاستسلام المظلوم للظالم، وأنها نقيض لثقافة المقاومة؛ و رغم كل ذلك فإن ثقافة السلام ما زالت رغم كل شيء تحاول الاستمرار في الحياة.مسئوليتنا جميعاإن أولئك الذين يمارسون العنف الآن، كانوا في غالبيتهم أطفالاً منذ زمن قريب، بل لعل بعضهم مازال كذلك بمعني ما. وإذا ما استمرت أساليب تنشئتنا لأطفالنا علي ما هي عليه، فان الاجيال القادمة لن تختلف كثيراً عن جيل ممارس العنف الراهن، إذا لم تكن أسوا. لقد كان هذا الجيل نتاجاً لعمليات التنشئة الاجتماعية لاطفالنا والتي مارسناها كأمهات وأباء، كمربين وتربويين، كإعلاميين ومسئولين، مارسناها في بيوتنا، ومدارسنا، ومساجدنا وكنائسنا ونوادينا ومكاتبنا. مارستها صحافتنا واذاعتنا وتليفزيوننا. مارستها السلطة والمعارضة. مارسناها جميعاً دون استثناء. مارسناها بالفعل ومن لم يستطع مارسها بالقول، ومن لم يستطع مارسها بالصمت ولعلة الأشد خطراً. لقد تكاتفنا جميعاً لدفع أطفالنا إلي ما يتنافي مع فطرتهم التلقائية الطبيعية. الطفل بفطرته محاور، دفعناه إلي الصمت، الطفل بفطرته متسائل، دفعناه إلي تقبل التلقين. الطفل بفطرته مفاوض فعال، دفعناه إلي الجمود العدواني. الطفل بفطرته تلقائي، دفعناه إلي التصنع والمداهنة.. الطفل بفطرته ميال للمشاركة، دفعناه إلي الجمود العدواني.. الطفل بفطرته ميال للمشاركة، دفعناه إلي الانطواء والتوجس من الآخرين. ولاننا كنا في ذلك كله نسبح ضد التيار، تيار الفطرة السليمة، فقد كان علينا أن نبذل جهداً شاقاً مستمراً، وقد بذلنا بالفعل. وحققنا نجاحاً كبيراً، ولكنه ـ لحسن الحظ ـ لم يكن كاملاً تماماً. فمازال لدي أطفالنا بقية من تلقائية وإيجابية وانفتاح، ولكن جهودنا أيضاً مازالت مستمرة. وللحقيقة فان نوايانا كانت ومازالت طيبة، وحبنا لأطفالنا حقيقة لا يماري فيها أحد. ولكن ذلك وحده لا يكفي ، لقد أدت تنشئتنا لأطفالنا إلي حيث لا يجد الطفل أمامه لمواجهة مواقف الحياة إلا واحداً من سبيلين لا ثالث لهما: إما التصدي بالعنف لإزالة ما يحول بينه وبين ما يريد، ذلك إذا ما استطاع، فإذا لم يستطع وكانت العقبة أقوي من امكاناته، لم يعد أمامه إلا السبيل الآخر وهو الاستسلام دون شروط هجرة أو مرض نفسي أو انطفاء سلبي. لقد أردنا لأطفالنا القوة في عالم يسوده الأقوياء، وأردنا لهم السلامة في عالم يسوده العنف. أردنا أن نجنبهم مغبة التمرد والمخالفة في عالم يدفع فيه المتمردون ثمناً باهظاً من مستقبلهم ومن حريتهم ومن حياتهم أحياناً. أردنا أن نصونهم من مخاطر التلقائية والصراحة في عالم يشجع التصنع والمداهنة. أردنا أن نحميهم من المضي بتساؤلاتهم إلي غايتها في عالم يضع حدوداً صارمة لما يجوز وما لا يجوز التساؤل عنه. أردنا أن ندربهم علي الطاعة في عالم يسوده الانصياع والمجاراة. لقد أردنا لأطفالنا الخير ... كل الخير ... فما الذي حدث ؟ ما حدث هو أننا أغفلنا عدداً من الحقائق الاساسية لعل أهمها: -أولاً: أن محاولة إزالة العقبات بالقوة، أو مواجهة المعتدي بالعنف، قد تكون الوسيلة الأكثر فعالية وسرعة، ولكنها تفترض أن يكون طفلي هو الأقوي والأقدر، وإلا هزم، وازدادت العقبة رسوخاً، وازداد المعتدي إمعاناً في ممارسة اعتداءاته، ولا يصبح أمام طفلنا إلا الاستسلام للعنف إذا ما تكرر، والعجز أمام العقبات إذا ما واجهها. فالفشل في هذه الأحوال يؤدي إلي مزيد من الفشل. ثانياً: أن أنواع العقبات والاعتداءات عديدة متنوعة، قد تكون العقبة زميلاً أو أخاً منافساً، أو مدرساً يبدو متشدداً، أو قد تكون حتي أباً يراه الطفل قاسياً، أو أما يراها الطفل منحازة، وقد يكون الاعتداء الذي يواجهه الطفل بدنيا أو لفظياً، مباشراً أو ضمنياً. وقد يكون موجهاً إلي الممتلكات أو الإخوة أو الأصدقاء، بل حتي قد يكون موجهاً صوب المشاعر والأفكار، ومواجهة كافة أنواع العقبات والاعتداءات بأسلوب واحد هو القوة أو العنف أمر قد لا يعني سوي تكريس العنف كأسلوب أوحد للتعامل في كل مواقف الحياة دون تمييز.ثالثاً: أن المواجهة الفعالة لمواقف الحياة ينبغي أن تشمل إلي جانب إمكانية العنف أو القوة عدداً لا نهاية له من البدائل مما يمكن أن نطلق عليها تعبير بدائل السلام الهجومي وهي تتضمن مهارات القدرة علي الحوار والمناقشة، وتفنيد الآراء وطرح البدائل، وجمع وتحليل المعلومات، والتفاعل مع الآخرين، وتأجيل الأشباع، والتفاوض .... إلي أخره.الخطر داهمإننا في حاجة ماسة لتعديل أساليب التنشئة الاجتماعية التي نمارسها حيال أطفالنا. الخطر داهم. والأحداث تتسارع، ولم يعد مجدياً الاكتفاء بتوجية النداء إلي المسئولين أو من يعنيهم الأمر، الأمر يعنينا جميعاً والأطفال أطفال الجميع والكل في نفس الخندق. قد يصعب علينا نحن الكبار تعديل ما اعتدناه من أساليب في التنشئة، وقد نستسهل القاء المسئولية علي فريق منا دون فريق. وقد يزيد من صعوبة مهمتنا أن الأمر قد يتطلب احداث تغيير أساسي في نمط العلاقات المتبادلة بيننا نحن الكبار. وقد يزيد من صعوبة مهمتنا أيضاً ذلك الميل الطبيعي لدي البشر جميعاً لمقاومة الاعتراف العلني بالخطأ . وقد يزيد من صعوبة تلك المهمة كذلك أننا قد نواجه بنية اقتصادية سياسية اجتماعية راسخة يستفيد أصحابها علي المدي القصير من الوضع الراهن. . المهمة صعبة ما في ذلك شك، ولكنها تهون بالتأكيد أمام حبنا الصادق لأغلي ما في ذلك شك، ولكنها تهون بالتأكيد أمام حبنا الصادق لأغلي ما في حياتنا: أطفالنا، وتهون المهمة أيضاً إذا ما تذكرنا دائماً أن الأطفال أنفسهم سيكونون سندنا الرئيسي. فالأطفال منذ طفولتهم المبكرة يقاومون عمليات التطويع قدر استطاعتهم. ويحاولون الاحتفاظ بذاتهم قدر طاقتهم، ويقاتلون في سبيل ذلك ما وسعهم الجهد، مستخدمين أساليبهم المتميزة في السلام الهجومي من احتجاج بالصراخ إلي اضراب عن الطعام إلي رفض صامت أشبه ما يكون بالعصيان المدني حيال ما يصدر اليهم من أوامر، بل أنهم كثيراً ما يلجأون إلي العديد من الوان المفاوضة والمداورة ومحاولة النفاذ من خلال الثغرات واستغلال التناقصات. فلنسع إلي تدعيم تلك المهرات الفطرية لدي أطفالنا، ولكن تلك الدعوة بداية حوار جاد حول ماذا نريد من أطفالنا للغد؟ وماذا نريد من الغد لأطفالنا؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق