الخميس، 1 يوليو 2010

نقاط مضيئة

http://www.ahram.org.eg/214/2010/07/01/10/27387.aspx

نقاط مضيئة[1]
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com

تسود مزاجنا القومي هذه الأيام غلالة قاتمة. صراع بين القضاة و المحامين، و صراع بين الكنيسة الأرثوذكسية و المحكمة الإدارية و العلمانيين الأقباط، و اهتزاز لمصداقية –ولا نقول صدق- مؤسسة الطب الشرعي. إنها صراعات تدور بين مؤسسات ألفنا أن تكون ملاذنا حين تعوزنا الحكمة و نلتمس العدل. و تذكرت قول الشاعر القديم
سيذكرني قومي إذا جد جدهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
ترى أي بدر نفتقده في ظل تلك الغلالة القاتمة؟ من الشائع في مثل هذا الموقف أن يتلفت المرء خلفه ليبحث عن بدره الذي غاب، و لكنه بحث لا يخلف إلا مزيدا من اليأس، فالماضي لا يعود. و حاولت أن ألتمس نجوما متناثرة ما زالت تلمع رغم حلكة الظلام.
أعرف أن مثل تلك المحاولة لن تجد ترحيبا لدي العديد من أصدقائي و رفاق دربي الذين أصبحوا يضيقون كل الضيق بأي بارقة ضوء تبعث علي الأمل في المستقبل، و تجدهم يهزون أكتافهم و يهمهمون: إنها مجرد حالات فردية أو أنهم مجرد قلة لا دلالة لها؛ و لكن ألا تستحق تلك الحالات الفردية أو تلك القلة أن ندعمها و نتمسك بها فلعلها تنتشر و لعلها و هو الأهم تؤكد أن بيننا من لا يزالون يصنعون الأمل.
"لقد هجر الشباب المصريون السياسة و أولوا ظهورهم لها و لم يعد يعنيهم سوي توافه الأمور" كثيرا ما سمعنا و رددنا مثل تلك العبارة حتى كادت تصبح من المسلمات. و غالبا ما نترحم نحن المسنون علي أيامنا الجميلة حيث كانت الجامعة تهدر بالتيارات السياسية. و على أي حال فإن انصراف غالبية المصريين شبابا و كهولا عن المشاركة في الانتخابات حقيقة لا يماري فيها أحد، و لكن هل يعني ذلك بالضرورة انصراف الشباب عن السياسة إذا ما اعتبرنا أن الانشغال بالهم الوطني هو جوهر الممارسة السياسية. و لقد أقدمت مؤخرا على إقحام نفسي علي عالم كان يبدو غريبا علي، هو عالم المدونات و الفيس بوك؛ و وجدتني بين أمواج من الشباب يتحدثون عن هموم الوطن. غالبيتهم غاضبون و بعض الغاضبين يعبرون عن يأسهم من المستقبل، و لكن البعض –وهم ليسوا قلة- يترجمون غضبهم إلي أفعال و ممارسات احتجاجية متفاوتة. صحيح أن البعض منا نحن المسنون قد يضيق باندفاعهم و قد تصدمه بعض تعبيراتهم، بل و قد يشفق عليهم و لكن أحدا لا يستطيع أن ينكر عليهم حبهم لمصر و إقدامهم علي القبول بدفع ثمن ذلك الحب الذي قد يكون باهظا. تري ألا يمثل هؤلاء الشباب نقطة ضوء؟
لنترك هؤلاء قليلا و لننظر إلي نقطة ضوء أخري تتمثل في "مجدي يعقوب" الذي يعد واحدا من أشهر ستة جرّاحين للقلب في العالم، ويعدّ ثاني جرّاح يجري عملية زراعة قلب ، وقد قام بحوالي ألفي عملية قلب، وذلك على مدار 25 عاماً أنقذ فيها حياة آلاف المرضى. و قامت ملكة بريطانيا بمنحه لقب "سير" عام 1991، و إذا به بعد أن تقاعد و تقدم به العمر يسخر خبرته و علاقاته و ماله لخدمة الفقراء في وطنه فيقيم في عام 2008 مؤسسة لأمراض و أبحاث و جراحات القلب في أسوان، و هي مؤسسة تمولها التبرعات.
و لم يكن غريبا أن تلتحم نقطة الضوء هذه بنقطة ضوء أخري متمثلة في مؤسسة "مصر الخير" التي قدمت لمؤسسة مجدي يعقوب مؤخرا أحدث جهاز قسطرة قلبية بتكلفة 4.9 مليون جنيه، وذلك فى إطار اتفاقية التمويل والبروتوكول الموقع بين المؤسستين وقام بتوقيع الاتفاقية فضيلة المفتى الدكتور على جمعة رئيس مجلس أمناء مؤسسة مصر الخير، والسفير الدكتور محمد شاكر رئيس مجلس أمناء مؤسسة مجدي يعقوب، والأستاذ الدكتور مجدى يعقوب باعتباره نائبا لرئيس مؤسسة مجدي يعقوب. أليست تلك نقطة ضوء لامعة.
ثمة نقطة مضيئة أخري تتمثل في مركز غنيم لأمراض و جراحات الكلي والمسالك البولية بالمنصورة و الذي بدأ في عام 1976 حيث التقت مجموعة من الأطباء الشبان المجهولين و معهم الدكتور محمد غنيم و قاموا بإجراء أول عملية نقل كلي في مصر بأيد مصرية في مستشفي المنصورة الجامعي القديم، ورغم الإمكانيات المتواضعة نجحت العملية، مما شجعهم علي التفكير في إنشاء مركز متخصص لجراحة الكلي والمسالك البولية في مدينة المنصورة التي تتوسط الدلتا حيث تنتشر البلهارسيا، و في عام 1978، جاء الرئيس السادات لزيارة المنصورة، و زار المستشفي الجامعي و قابل مجموعة الأطباء الذين أجروا أول عملية نقل كلي، و أصدر قرارا بتعيين الدكتور غنيم مستشارا طبيا في رياسة الجمهورية ليتمكن من تذليل العقبات البيروقراطية المتوقعة، و انتهي العمل في المركز عام 1983و مر عليه الآن 24 عاماً كاملة استقبل خلالها آلاف المرضي الذين تتلقي غالبيهم العظمي العلاج بالمجان، و اكتسب المركز سمعة دولية هائلة. أليست تلك نقطة ضوء ما زالت تسطع رغم كل شيء؟
أستأذن في نقطة ضوء أخيرة تتمثل في مستشفي الحوض المرصود للأمراض الجلدية التي لم أكن أعرف عنها شيئا إلي أن عرفتها من خلال أحد معارفي من العمال الفنيين. أصيب طفله الصغير بمرض جلدي و تردد صاحبي بالطفل علي عيادات الأطباء دون جدوى إلي أن نصحه البعض بالتوجه إلي مستشفي الحوض المرصود، و تردد صاحبي و لكنه قرر المحاولة. فوجئ بالزحام و لكن علي حد تعبيره كان زحاما منظما. وقف في الطابور و قطع تذكرة كشف بجنيه واحد فقط و اتجه للكشف علي طفله. ثلاثة أطباء يتشاورون بالنسبة لكل حالة و كتبوا له العلاج. اتجه للصيدلية و دفع جنيه واحد ثمن العلاج. غادر المكان متشككا و لكن أحوال الطفل تحسنت.
أعرف المزيد من نقاط الضوء، و أعرف أنها جهود فردية و متناثرة، و أنها لا تعني بحال أن الصورة وردية، و لكنها تعني يقينا أن الأمل ما زال قائما، و علينا أن نرعاه.
[1] الأهرام أول يوليو 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق