السبت، 14 أغسطس 2010

الاختطاف الفكري

http://www.ahram.org.eg/256/2010/08/12/10/33675.aspx

الاختطاف الفكري
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
لقد عرفت البشرية ظاهرة التحول العقائدي أي انتقال الأفراد بل و الجماعات من عقيدة لأخرى منذ بداية تاريخ العقائد، لا تستثني من ذلك عقيدة واحدة سواء كانت سماوية أو دنيوية. و من هذه التحولات ما جري اختيارا باعتبار أن العقيدة الجديدة أكثر ملائمة لاحتياجات المرء العقلية و الانفعالية، و أنها -من وجهة نظر المتحول إليها- أكثر صوابا و استقامة، و قد يتبين له و لو بعد حين، أنه اتخذ قرارا خاطئا فيتراجع عنه عائدا إلي عقيدته القديمة أو إلي عقيدة أخري غير الاثنتين أو موليا ظهره للعقائد جميعا. و إلى جانب تلك التحولات الاختيارية؛ فثمة تحولات عقائدية جرت إجبارا أو إغواء أو غواية.
مثل تلك التحولات تجري علي قدم و ساق في بلدان العالم جميعا، و منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا، دون أن تثير لدي الجماهير العادية للجماعة "المهجورة" غضبا يصل إلي حد العنف المدمر و إن لم تكن بطبيعة الحال تلقي ترحيبا صاخبا من قبل الجماعة الجديدة.
تري لماذا يرفض أبناء العقائد الدينية خاصة في بلادنا التسليم بإمكانية أن يقدم فرد علي التحول من عقيدة لأخرى،رغم تقلص ظاهرة إعدام المرتدين عن الإسلام إلي حد كبير من الناحية العملية، و رغم اندثار ظاهرة تعذيب و حرق المهرطقين التي عرفتها أوروبا في العصور الوسطي؟ و لماذا ما زلنا في بلادنا نر الجماعات الدينية علي اختلافها تحس بالإهانة و الجرح إذا ما تركها أحد أبنائها متوجها إلي جماعة دينية أخري أو أولي ظهره للعقائد الدينية جميعا؟
لقد ترددت علي أسماعنا كثيرا في السنوات الأخيرة عبارة أن شخصا قد تم اختطافه حيث أجبر علي تغيير عقيدته. لقد كنا في زماننا حين نسمع أن فلانا قد اختطف نفهم أن المختطفين قد رصدوا تحركاته و حين واتتهم الفرصة قيدوه و دفعوه إلي سيارة و انطلقوا به إلي حيث يجبروه علي توقيع أوراق أو اعترافات أو ما إلي ذلك. و لا يستقيم هذا التصور فيما يتعلق بتغيير العقائد، و لعل التعبير الصحيح هو أن صاحبنا قد جري إغراءه أو غوايته لتغيير عقيدته. و الغواية إنما تعني تزيين الهدف المقصود بحيث يصبح أكثر إقناعا حتى لو كان الاتجاه صوبه يحمل الكثير من المخاطر؛ كما أن الإغراء يعني تقديم بديل أكثر جاذبية بحيث يقدم المرء علي أن يولي ظهره لما كان عليه متجها نحو ما يغريه، و لعل أشهر وسائل الإغراء تتمثل في الجنس و المال.
و رب من يتساءل: إن من يستخدمون تعبير "الاختطاف" من الناطقين بالعربية بل و العارفين بمرامي الألفاظ و معانيها، و هم يعرفون يقينا أن اختطافا بهذا المعني لم يحدث قط حتى وفقا لسردهم لتفاصيل ما جري، تري لماذا إذن نحجم عن استخدام التعبير الصحيح؟
إن السبب ببساطة هو أن الغواية أو الإغواء عبث بالعقل أو العواطف أو بهما معا، و من ثم فإن المرء الذي تمت غوايته أو إغراءه إنما أقدم في النهاية علي اتخاذ القرار "الخاطئ" بمحض إرادته. و بالتالي فإن القول بأن شخصا قد أمكن غوايته أو إغراءه بحيث أقدم علي تغيير عقيدته إنما يعني أحد احتمالين: الاحتمال الأول أن تلك العقيدة قابلة للتفنيد بشكل أو بآخر؛ و الاحتمال الثاني هو أن من أتباع هذه العقيدة من يقدم علي التخلي عنها تحت إغراء ملذات حسية دنيوية، مما يشكك في قدرة تلك العقيدة علي إشباع الاحتياجات الانفعالية و العقلية لأتباعها. و كلا الاحتمالين يحمل شبهة تعريض بالعقيدة يرفضه أتباعها؛ و الأفضل إذن أن يقال أن فلانا قد اختطف فأصبح مجبرا علي فعل و قول ما يمليه عليه خاطفوه؛ و من ثم فبمجرد تحرره و استعادته إرادته فسوف يعود فورا إلي عقيدته الصحيحة. و رغم ما يبدو للوهلة الأولي من أن تعبير"الاختطاف" قد يكون أقل وطأة من تعبير "الإغواء" أو "الغواية" من حيث شبهة التعريض بالعقيدة، إلا أنه لا ينفي ذلك التعريض تماما؛ فالصورة النموذجية للمؤمن الحق في كافة العقائد هو ذلك الذي لا يثنيه ألم أو تهديد عن التمسك بعقيدته حتى لو قدم حياته فداء لها، و لذلك فإنه لا يخلو تاريخ عقيدة من العقائد من قائمة من الشهداء تقدم تأكيدا عمليا علي ذلك.
خلاصة القول إذن أن من يقدم علي التخلي عن عقيدته إجبارا أو إغواء أو إغراءا هو في النهاية ليس بالمؤمن المثالي الذي يستحق فخر أبناء عقيدته الأولي التي أولاها ظهره بثمن مهما كان فهو ثمن بخس؛ و هو كذلك لا يستحق ترحيبا من أبناء عقيدته الجديدة التي توجه إليها طالما أن اختياره لها لم يكن نابعا من اقتناع حقيقي.
لقد جري تعميم تعبير "الاختطاف" بحيث أصبح يشمل أي واقعة "اختفاء" خاصة إذا ما كان المختفي أو المختفية من المنتمين للجماعة المسيحية، و يزداد الإلحاح علي تصوير ما قد يكن مجرد اختفاء طوعي باعتباره اختطافا، إذا ما كانت "المختفية" زوجة لكاهن. و لعله مما يستوقف النظر أن "المختطفة" تظل محتجبة عنا حتى بعد "تحريرها" كما لو كان قد تم اختطافها من جديد. إن واحدة من هؤلاء "المختطفات" لم تظهر إعلاميا بعد فك وثاقها لتعلن عن أسماء من اختطفوها، أو حتى لتعلن عمن أغووها أو هددوها أو من "لعبوا بعقلها"، أو علي الأقل أن تعلن أنه قد استبان لها الطريق الصحيح موضحة الأسباب التي دفعتها لفعل ما فعلته، و فضلا عن ذلك فإن أحدا لا يقدم اعتذارا لأحد عما حدث.
تري هل يرجع الأمر إلي طبيعة التنشئة الاجتماعية في بلادنا؟ أم إلي طبيعة المناخ الدولي و الإقليمي المحاط بنا؟ و هل الأمر قاصر في بلادنا علي أبناء عقيدة دون أخري؟ و هل تخرج دعاوي التكفير و اتهامات التنصير عن ذلك السياق؟ و هل الأمر قاصر علي الجماعات الدينية أم يشمل غيرها الجماعات الفكرية و السياسية أيضا؟ لعلنا نستطيع محاولة الاقتراب من فهم ذلك في مقال قادم.

الاتصال حاجة إنسانية 1

http://www.al-ahaly.com/index.php?option=com_content&view=article&id=2729:lr-1-4&catid=39:2010-02-27-09-21-49&Itemid=664

الاتصال ... حاجة إنسانية[1]
يتحول الفرد بدونه إلى مريض نفسي
(1-4)
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
يحاول الدكتور قدري حفني في دراسته الضافية "الاتصال و العولمة" تقصي جذور و حاجات الاتصال بين أفراد المجتمع و علاقة ذلك بالعولمة و ما تفرضه من أشكال اتصال جديدة. و في هذا الجزء من الدراسة يتتبع طرق الاتصال البدائية و أنواعها و كيف نشأت الحاجة لها، كما يفسر أسباب و ضرورات ظهور طرق الاتصال الحديثة، و يشير قدري قبل هذا و ذاك إلى أهمية الاتصال بين المجتمعات و أفرادها و ضرورات ذلك النفسية
الاتصال حاجة إنسانية قبل أن يكون ضرورة اجتماعيه · وتؤكد تجارب علم النفس، فضلا عن الخبرة الإنسانية العامة ، أن إغلاق منافذ الاتصال يؤدى بالفرد إلى معاناة نفسية - بل وبدنية - قاسية · وتؤدى تلك الحالة إذا ما استمرت إلى انهيار نفسي كامل يتحول معه الإنسان إلى كائن رخو فاقد تماما لجهاز مناعته النفسية إذا ما صح ذلك التعبير. ولو تركنا علماء النفس وتجاربهم جانبا ، ونظرنا في أنفسنا ، وإلى البشر من حولنا ، لوجدنا الصورة أكثر وضوحا· فالمرء مهما كانت انطوائيته ، ومهما كان عزوفه عن البشر، لابد وأن يضيق بوحدته بعد فترة تطول أو تقصر· ولابد وأن يبحث لنفسه عن”آخر” يأتنس به ، ويتفاعل معه · ولا بأس بعد ذلك من عودته إلى قوقعته من جديد·
وحتى في بعض حالات المرض العقلي المتطرفة ، وحين يتعذر على “المريض “ ممارسة الاتصال المتبادل بالآخرين ، فإنه يصطنع – أو يتوهم- لنفسه آخرين يقيم معهم من العلاقات الاتصالية ما يبدو لنا غريبا وشاذا · خلاصة القول إذن أن الحاجة إلى الاتصال حاجة إنسانية ، شأنها شأن حاجة الإنسان للطعام والشراب والنوم وما إلى ذلك من حاجات أساسية ·
ولعلنا لا نجاوز الحقيقة إذن إذا ما سلمنا بأن الإنسان يمارس الاتصال منذ بداية الوجود البشرى· ولعلنا لا نجاوز الحقيقة كذلك إذا ما سلمنا أيضا بأن ممارسة الاتصال باعتباره حاجة إنسانية كان سابقا على توصل الإنسان لأبجديات اللغة كما نعرفها اليوم، ولكن ترى كيف كان ذلك؟·
لقد كانت أولى أشكال الاتصال البدائي تتمثل في استخدام الإنسان للتعبيرات الجسمية كوسيلة لنقل انفعالاته وأحاسيسه إلى الآخر · وقد شملت تلك التعبيرات الجسيمة أجزاء الجسد جميعا :العيون ، الأنف ، الشفتين ، الذراعين ، اليدين ، الأصابع، الكتفين ، حركة الجسد ككل ··· إلى آخره · ومازالت لغتنا اليومية المنطوقة بل والمكتوبة أيضا تحمل آثارا من تلك اللغة القديمة ، لغة التعبيرات الجسمية · ويكفى أن نتأمل تعبيرات مثل : “ أوليته ظهري”· “فتح له ذراعيه”· “شمخ بأنفه”· “ربت عليه”· “قلب شفتيه”· “تمايل طربا”· “هز كتفيه” ··· إلى آخره ·
ولو تركنا جانبا لغتنا المنطوقة والمكتوبة لوجدنا دليلا آخر على عمق جذور تلك اللغة القديمة إذا ما تأملنا أساليب الاتصال لدى الطفل قبل اكتسابه اللغة · إن الأطفال يشبعون حاجاتهم الاتصالية منذ البداية بذلك الاستخدام الماهر التلقائي لتعبيرات الجسد · والطريف أن الكبار - وخاصة الأمهات - يستعيدون فورا قدرتهم المرهفة القديمة على “ قراءة” تلك التعبيرات الجسمية الصادرة عن أطفالهم ، وترجمتها ، والرد عليها · الأم “ تقرأ” نظرات طفلها ، وهمهماته ، وحركات رأسه · بل إنها كثيرا ما تستطيع أن تميز بدقة بالغة بين بكاء العتاب ، وبكاء الخوف ، وبكاء الجوع ، وبكاء الرغبة في النوم ، أو الحاجة إلي تغيير الملابس ، أو الرغبة في أن تحمله على ذراعيها ··· إلي آخره · ولكن ما أن يبدأ الطفل في النمو واكتساب اللغة ، حتى يعزف شيئا فشيئا عن الاعتماد على تلك اللغة القديمة · وعادة ما يشجعه الكبار على ذلك سواء بالتعبير له عن فرحتهم به وهو ينطق كلماته الأولى ، أو بتوجيهه مباشرة إلى ضرورة استخدام اللغة المنطوقة وإلا كفوا عن استقبال رسائله : “قل ما تريد··· تكلم ··· عبر بالكلمات ··· كف عن استخدام الإشارات “·
ولو حاولنا أن نصنف تلك اللغة القديمة وفقا للتصنيفات التي تعرفها علوم الاتصال الحديثة، لوجدنا أنها نوع من أنواع الاتصال الشخصي ، أو بعبارة أخرى أكثر أصالة “الاتصال وجها لوجه “ · ولا يفوتنا في هذا المقام أن نشير إلى تعبيرنا العامي الدارج “عيني في عينك “ بمعنى واجهني مباشرة لأعرف مدى صدق ما تنطق به ·
خلاصة القول إذن أن الاتصال الشخصي ، أو الاتصال وجها لوجه ، هو أقدم أنواع الاتصال من حيث السياق التاريخي سواء على مستوى المجتمع، أو على مستوى الفرد · ولكن ، ترى ما الذي حتم ظهور نمط آخر من أنماط الاتصال هو “ الاتصال الجماهيري “، بل وسيادته شيئا فشيئا ؟ هل يرجع ذلك إلى مجرد حداثته أو كفاءته؟ قد يكون كل ذلك صحيحا، ولكنه غير كاف وحده للتفسير · لابد من حتم اجتماعي جعل من انتشار الاتصال الجماهيري ضرورة اجتماعية ·
لماذا نشأ الاتصال الجماهيري؟
إن الضرورة الاجتماعية التي حتمت ظهور وانتشار الاتصال الجماهيري تتمثل - فيما نرى - في ثلاثة عوامل متكاملة: زيادة أعداد البشر، واتساع المعمورة، وتبلور ظاهرة السلطة المركزية ·
1 - زيادة أعداد البشر
إن فعالية الاتصال الشخصي - بحكم طبيعته - ترتبط بصغر حجم الجماعة التي يتم في إطارها الاتصال ، وإذا ما تجاوز حجم جماعة الاتصال حدا معينا تحول نمط الاتصال إلى الشكل الأقرب للجماهيري، أو تفتتت الجماعة إلى جماعات اتصالية أصغر تمارس الاتصال الشخصي ، ولسنا بحاجة للإشارة التفصيلية إلى تجارب علم النفس الاجتماعي في هذا الصدد ، بل يكفى أن نشير إلى ما نشاهده في حياتنا اليومية مما يؤكد ذلك·
لو تصورنا مجموعة من الأفراد يتوافدون على مكان ما لحضور حفل أو اجتماع معين، أو لأية مناسبة اجتماعية أخرى · سوف نلاحظ أن أوائل الحاضرين عادة ما يتحادثون “معا” في موضوع أو آخر · ومع تزايد عدد المتوافدين يتسع نطاق “الحديث معا” · بعبارة أخرى يتسع نطاق ممارسة الاتصال الشخصي · فإذا تجاوز حجم الجماعة حداً معينا لاحظنا أحد أمرين: قد تنقسم الجماعة إلى مجموعات أصغر أو “ شلل” يتحادث أفراد كل شلة مع بعضهم البعض في موضوع أو آخر. أما إذا كان ثمة موضوع هام يجذب اهتمام أفراد الجماعة جميعا -وقد يكون هذا الموضوع هو السبب المعلن لاجتماعهم- فإنهم عند بلوغ حجم الجماعة حدا معينا يكفون عن “الحديث معا”، ويبدءون في الانتظام وفقا لقواعد اتصالية معينة: يستمعون لمحاضرة مثلا، أو لموسيقى، أو لغير ذلك.
وتشير نتائج بحوث علم النفس الاجتماعي إلي أنه يصعب جداً إقامة تفاعل شخصي مباشر بين أفراد جماعة يزيد عدد أفرادها عن خمسة عشر فردا ، وكلما قل العدد عن ذلك كلما كان التفاعل أفضل· وإذا ما صدق ذلك على جماعة لا يتجاوز عدد أفرادها العشرين ، فكيف بنا إذا ما كنا بصدد الآلاف بل والملايين من البشر؟ كان لابد إذن لكي يتحقق اتصال فعال بين هذه الجماهير الغفيرة ، دون أن تتفتت إلى جماعات صغرى معزولة عن بعضها البعض ، كان لابد من ظهور نمط جديد من أنماط الاتصال إلى جانب النمط الأصيل للاتصال الشخصي ·
2 - أتساع المعمورة
إن أعداد البشر لم تتزايد فحسب، ولكن المساحة المعمورة المأهولة بهم قد ترامت أطرافها وتباعدت. ولم يعد ممكنا والأمر كذلك أن تفي الأنماط التقليدية الأصيلة للاتصال وعلى رأسها الاتصال الشخصي بإشباع الحاجة الاتصالية للتفاعل بين قاطني هذه المساحات المترامية الأطراف ·
إن الاتصال الشخصي بحكم طبيعته يقتضى أن يتواجد أفراد جماعة الاتصال معا بحيث يتبادلون التأثير الاتصالي ، ومع التقدم التكنولوجي لوسائل الاتصال (البريد - الهاتف - الراديو - التليفزيون - الفاكس - التلكس ·· إلى آخره) أصبح الاتصال غير المباشر أكثر إغراءا حتى لو توافر القرب المكاني نسبيا. فالأيسر مثلا أن أتصل بجاري تليفونيا بدلا من زيارته وما قد تتكلفه تلك الزيارة من جهد ووقت لكلينا · والأيسر بطبيعة الحال أن أبعث بخطاب إلى صديق أو قريب يقيم في الطرف الآخر من نفس المدينة بدلا من أن أتكلف مشقة الانتقال إليه.
خلاصة القول أن التباعد المكاني، بالإضافة إلى التقدم التكنولوجي قد ساهما - فضلا عن التزايد السكاني - في تشكيل الضرورة الاجتماعية التي حتمت ظهور وانتشار الاتصال الجماهيري ·
[1] الأهالي 11 أغسطس 2010

الثلاثاء، 10 أغسطس 2010

جمال مبارك و سندوتش المكرونة و علم النفس السياسي

جمال مبارك و سندوتش المكرونة و علم النفس السياسي[1]
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
عزيزي الأستاذ إبراهيم عيسي
أود بداية أن أهنئكم بصدور الدستور اليومي. إن صدور جريدة جديدة أمر مبهج, فإذا كانت هذه الجريدة مصرية معارضة للنظام القائم فإنه أمر مثير للفخر و الاعتزاز و التفاؤل باعتباره إضافة إلي إنجازات المصريين الديمقراطية, فإذا كانت تلك الجريدة هي الدستور صاحبة النبرة الحادة العالية الصادمة فإن الأمر يصبح شهادة للمصريين شعبا و سلطة و معارضة علي قدرتهم علي تقديم نموذج ديمقراطي ما زال يداعب أحلام العديد من الشعوب المحيطة بنا و التي لا تكف أجهزتها الإعلامية عن الصراخ احتجاجا علي استسلام المصريين لتلك السلطة القاهرة التي تكتم الأنفاس.
لا أعني بذلك علي الإطلاق أن نموذجنا الديمقراطي قد بلغ غاية المني, فما زلنا نتململ من ذلك الاختراع العجيب المسمي بلجنة الأحزاب, و ما زلنا نتطلع إلي تصفية المعتقلات و تقديم المتهمين إلي محاكمات عادلة, و ما زلنا نرقب بقلق إحالة بعض الصحفيين إلي المحاكمة, و لكنا نرصد في نفس الوقت استمرار الدستور و أخواتها من صحف المعارضة في الصدور حاملة ما تحمله من تعريض برموز السلطة مما لا نجد له نظيرا و لا شبيها في بلد عربي آخر إذا ما استثنينا حصرا لبنان و فلسطين.
من هذا المنطلق أرجو أن يتسع صدركم لتعليق علي مقالكم المعنون "سندوتش مكرونة" المنشور في العدد 109 الصادر في 2 إبريل 2007. لقد خصصتم مقالكم للحديث عن السيد جمال مبارك و ليس من شك في أن أحدا ليس فوق مستوي النقد, كما أنه ليس لأحد أن يحدد لغيره الأسلوب الذي ينبغي أن يتبعه للتعبير عن وجهة نظره؛ و دافعي للتعليق هو تطرقكم لعدد من القضايا التي تحظي بأهمية منهجية في علم النفس السياسي خاصة في مجال دراسة خصائص و سمات القائد و بالتحديد طبيعة العلاقة بين القائد و الجماعة.
و أود بداية أن أقرر أن أحدا لا يمكن أن يختلف معكم فيما ذكرتم من توصيف, فرغم أنني لا أعرف السيد جمال مبارك شخصيا و لم أشهد له لقاءا جماهيريا أو حوارا اللهم إلا علي شاشات التلفزيون, فإن أحدا لا يمكن أن يدعي أنه خطيب مفوه تلهب كلماته مشاعر الجماهير, كما أن أحدا لا يمكن أن يزعم أنه قد عاني من شظف العيش, و لذلك فإن حديثي ليس بحال عن شخص جمال مبارك الذي لا أعرف عنه إلا القليل, و لكنه حديث في علم النفس السياسي الذي أزعم أنني ربما أعرف عنه قدرا يسمح لي بالحديث.
لقد أشرتم في مقالكم و بحق إلي أن السيد جمال مبارك "لا توجد عنده هذه الهالة الزعامية" و أنه لم يكن يوما "خطيبا و لا زعيما" و أنه "لا يعرف عربيات الفول و الطعمية ... و لم يأكل سندوتش مكرونة في وسط البلد"؛ و لكنكم انتهيتم من تلك المقدمات إلي أن "هذا الرجل لا يعرف مصر فكيف نسمح له أن يحكمها", باعتبار أن "الهالة الزعامية" و "العصامية" تعد شروطا ضرورية لتولي القيادة, فضلا عن أن المعايشة المباشرة هي السبيل الوحيد لمعرفة معاناة الجماهير
و أرجو أن تسمح لي بتوضيح أن قضية الكاريزما أو الحضور أو "الطلة" أو القبول أو الذكاء الانفعالي و كلها مفاهيم متداخلة تصب في القدرة علي التأثير المباشر في الجماهير؛ و قد أصبحت تلك القدرة و تنميتها تشكل مجالا علميا متخصصا من مجالات علم النفس السياسي يتخذ اسما علميا وقورا هو "إعداد و تدريب القادة أو الدعاة" و يطلق عليه بعض الإعلاميين تعبيرا خشنا مباشرا هو "صناعة الزعماء", و لعل نظرة إلي بعض الكتابات الأمريكية المتعلقة بمنطقتنا تحديدا تكشف عن آليات يقال أنها اتبعت بالفعل في هذا الصدد لخلق زعماء جماهيريين و "تلميع" صورهم, و تفرق نتائج البحوث العلمية في مجال علم النفس السياسي تفرقة واضحة بين "القائد السياسي" و "الزعيم الجماهيري" بل قد تمضي التفرقة إلي حد إبراز التناقض بين الدورين حيث يفترض أن يعتمد القائد السياسي علي التحليل المنطقي القابل للنقد و التفنيد في حين يقوم خطاب الزعيم الجماهيري أو الداعية الكاريزمي علي تعطيل تلك القدرة علي النقد و التركيز علي الإثارة الانفعالية الساخنة. و رغم أن كلا الدورين مطلوب, و أنه في ظروف نادرة قد يقوم فرد واحد بالدورين معا, فإن "كاريزما" القائد السياسي قد تلعب دورا سلبيا في قيادته للجماعة إذ قد تدفعه إلي اتخاذ قرارات متسرعة هوجاء حرصا علي صورته الكاريزمية لدي الجماهير, فضلا عن أنها قد تغريه بالتأله و العياذ بالله .
القضية الثانية التي لمسها مقالكم أن المعايشة اليومية المباشرة هي السبيل الوحيد لمعرفة معاناة الآخرين, و قد يكون ذلك صحيحا فيما يتعلق بالعواطف المتبادلة بين شخصين و التي عبر عنها الشاعر بقوله: لا يعرف الشوق إلا من يكابده و لا الصبابة إلا من يعانيها, أما تعميم ذلك بحيث تصبح المعاناة المباشرة المعاشة شرطا لمعرفة معاناة الآخرين بل و تبني ما يصلح لهم من سياسات؛ فأظن أنه يجافي الوقائع التاريخية فضلا عن مجافاته للحقائق العلمية التي تجاوزت منذ زمن بعيد حصر المعرفة في الأحاسيس و الخبرات المباشرة؛ فالفرد مهما اتسعت خبراته المباشرة لا يستطيع بحال أن يدعي أنه قد عايش خبرات فئات مجتمعه كلها, و من ناحية أخري فليس صحيحا أنه كلما ابتعدت نشأة الفرد أو تنشئته عن فقراء مجتمعه كان أكثر تباعدا عن فهم مصالحهم و التعبير عنها, و لست بحاجة لسرد ما يجل عن الحصر من أمثلة في هذا الصدد, و يظل المحك دائما هو طبيعة الأفكار التي يتبناها ذلك الفرد و يدافع عنها, أو بعبارة أخري مفردات برنامجه السياسي
تري هل يعني ذلك دفاعا عن جمال مبارك أو حكما لصالحه؟ لا أظن ذلك مطلقا؛ فجمال مبارك باعتباره من قيادات الحزب الوطني مسئول مع أعضاء حزبه عن صياغة البرنامج السياسي للحزب, و أيضا عن السياسات العملية للحزب, و ليس في ذلك ما يستعصى علي النقد, بل لعل نقدا من هذا النوع يلعب دورا تنويريا تثقيفيا أظنه المهمة الأولي للمعارضة السياسية.
[1] الدستور, الخميس 5 ابريل 2007

التوريث 2

التوريث (2-2)[1]
بدلا من نائب الرئيس علينا التمسك ببديهيات الديموقراطية
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
توقفنا في مقالنا السابق عند ملاحظة تجاهل وقائع انتقال السلطة في سوريا الشقيقة باعتابره يجسد ما يمكن أن ينجم عن التوريث من كوارث وطنية و ديموقراطية حيث تم تعديل الدستور ليتيسر تولي السيد الرئيس بشار الأسد منصب رئاسة الجمهورية خلفا لوالده السيد الرئيس حافظ الأسد في ظل وجود شكلي للأحزاب و قبضة فولاذية علي الشارع.
أمامنا إذن نموذج "ثوري" تم فيه انتقال السلطة بأسلوب يجسد ما تحذر منه المعارضة المصرية، و لكن السلطة الجديدة سارت علي نهج السلطة القديمة في الالتزام بثوابتها المعروفة من حيث إحكام السيطرة علي الشارع تحسبا لمحاولات الاختراق المشبوهة، و تحاشي المواجهة المسلحة مع العدو الإسرائيلي المحتل و إرجاء ذلك إلي الوقت المناسب الذي نحدده "نحن" و ليس الإسرائيليون.
تري ماذا لو شطح بنا الخيال و تصورنا مثلا –مجرد تصور- أن يعلن السيد جمال مبارك تبنيه للخط السياسي السوري بتفاصيله: إدانة تصرفات إسرائيل الوحشية، و ضرورة التصدي لها و لكن في الوقت المناسب، و الالتزام بالحد الأدني الذي تفرضه معاهدة السلام، مع ضرورة ضبط الشارع المصري تحسبا لمحاولات الاختراق الإسرائيلية المتوقعة.
أتراه سوف يجد آنذاك ترحيبا من قوي المعارضين للتوريث؟ علما بأن السيد جمال مبارك ما زال حتي اليوم متحفظا في الخوض في شأن العلاقات المصرية الإسرائيلية .
تري ألا ينبغي أن نتوقف قليلا لنناقش بداية ماذا نعني بمصطلح توريث الحكم؟ إنه يعني بالتحديد أن يكون شخص الحاكم القادم محدد سلفا، و يجري ذلك التحديد المسبق عادة وفقا لواحد من أسلوبين:
الأسلوب الأول: الأسلوب التقليدي السائد في النظم الملكية، حيث يكون الحكم حكرا علي أسرة بعينها و بالتالي تنتقل السلطة إلي ولي عهد معروف وفقا لتسلسل أسري محدد.
الأسلوب الثاني: أن يقوم الحاكم الراهن بتحديد و إعلان خليفته أو ولي عهده دون أن يكون بالضرورة من أفراد عائلته، و هو الأسلوب الأكثر حداثة في نظم التوريث.
و إيا كان الأسلوب المتبع فإن الجوهر يظل واحدا: أن يتم انتقال السلطة بعيدا عن التصويت العام بالمعني المعروف، و يتمثل الفارق بين التوريث و التداول الديموقراطي للسلطة في سمات ثلاث: السمة الأولي هي حرية المواطنين في تشكيل أحزابهم السياسية. و السمة الثانية الاحتكام في تداول السلطة إلي صندوق الانتخابات حيث يدلي المواطنون بأصواتهم، و السمة الثالثة مترتبة علي السمتين السابقتين و هي أن شخص الحاكم لا يمكن القطع به مسبقا قبل فرز الأصوات. و لا يعني ذلك بطبيعة الحال استبعاد إمكانية التنبؤ، بل واقتراب بعض التنبؤات العلمية من استباق نتيجة التصويت، و لكن يبقي كل ذلك في حدود التنبؤ إلي أن يتم فرز الأصوات.
لقد كان النظام الملكي السابق علي يوليو 52 في مصر نظاما يجمع بين الملكية الوراثية، و الوزارات المنتخبة، و رغم أن هذا النظام شبيه من حيث الشكل بالنظام البريطاني مثلا، إلا أنه اختلف عنه في أن الملك لم يكن "يملك ولا يحكم" بل كان يمارس سلطة الحاكم الفعلي في وجود رئيس الوزراء المنتخب، و لكي يمارس الملك تلك السلطة لم يكن أمامه إلا تعطيل الدستور و تزوير الانتخابات. و كان ذلك الوضع في مجمله هو الوضع الأنسب للسلطة الحقيقية في البلاد آنذاك أي سلطة الاحتلال الريطاني.
و لم يقف نظام يوليو عند الإطاحة بالملكية بل أطاح بالأحزاب أيضا، و استبدل بنظام الانتخاب نظاما مبتكرا هو "الاستفتاء"، و كرس عمليا فكرة "نائب الرئيس" الذي يعينه الرئيس. و كان انتقال السلطة في ظل نظام يوليو يتم عمليا بتولية "النائب" الذي سبق أن اختاره الرئيس. و لعله من الطبيعي ألا تسمح تلك الآلية بتبين أية ملامح لاختلاف بين توجهات النائب و توجهات الرئيس، بل عادة ما يعلن النائب بعد توليه أنه سائر علي درب سلفه، و رغم ذلك فإن ما يحدث فعلا أن التاريخ لا يعرف التكرار، و من ثم فإنه لا يوجد حتى في النظم الوراثية التقليدية تطابق كامل بين توجهات الحكام المتتالين و الأمثلة غنية عن البيان.
و قد حرص الرئيس مبارك إثر توليه السلطة بعد رئيسين من العمالقة حين سئل لأيهما تعتبر نفسه الأقرب، أجاب إجابة بالغة الدلالة "اسمي حسني مبارك" مؤكدا الحقيقة التاريخية الثابتة، التاريخ لا يعرف التكرار.
و لقد حرص الرئيس مبارك حتى الآن علي الأقل ألا يعين له نائبا، أي أن يختار لنا وليا للعهد، و هو موقف أقرب إلي الديموقراطية دون شك. غير أن ما يستوقف النظر حقا أن العديد من المثقفين الليبراليين ظلوا و ما زالوا يطالبون الرئيس بتعيين النائب أي ولي العهد أو الحاكم القادم، رغم حرصهم في نفس الوقت علي تأكيد إدانتهم لمبدأ توريث السلطة، متجاهلين أن ما يطالبون به و يرفضه الرئيس مبارك هو جوهر فكرة توريث السلطة.
و لو تمعنا في الموقف قليلا لبدا لنا أن المطالبين بتعيين ولي العهد إنما يتحفظون تحديدا علي أن يكون السيد جمال مبارك هو الرئيس القادم رغم أنهم يعلنون أنه لا اعتراض عليه شخصيا، و لكنه اعتراض علي المبدأ، و السؤال علي أي مبدأ يعترضون حقا؟ أهو حقا مبدأ التوريث؟
إن الموقف الأقرب لديموقراطية انتقال السلطة يقتضي المطالبة بالتمسك بأسسها: كفالة حرية تشكيل الأحزاب و النقابات و الجمعيات. كفالة حرية الصحافة. كفالة الحريات العامة. التأكيد علي شفافية الانتخابات و الاحتكام إلي صناديق الانتخاب. و قبل هذا كله الثقة في نضج الشعب المصري و قدرته علي التمييز و الاختيار، و في هذا الإطار مرحبا بجمال مبارك أو مهدي عاكف أو أيمن نور أو غير هؤلاء إذا ما اختارهم الشعب حقا و صدقا
[1] البديل، 3 مارس 2008

التوريث1

التوريث (1-2)[1]
مازال الرئيس ممتنعا عن تعيين السيد النائب المرتقب
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
لم تعرف البشرية عبر تاريخها الطويل سوي أساليب محدودة لانتقال السلطة: إما بالعنف، أو بالوراثة، أو بالانتخاب. و ما زالت تلك الأساليب الثلاثة قائمة حتى اليوم و إن تعددت صورها، و يعد نظام الانتخاب العام بالشكل الذي نعرفه اليوم أحدث تلك الأساليب حيث لم تعرفه البشرية إلا مؤخرا بعد أن ظلت طويلا لا تعرف سوي نظام انتقال السلطة إما بالعنف أو بالوراثة. لقد تطورت النظم الانتخابية رغم حداثتها النسبية و اتخذت الانتخابات صورا شتي لسنا في مجال استعراضها كما تدخلت منجزات العلوم الاجتماعية و خاصة في مجال تكنولوجيا الإحصاء و قياس الاتجاهات في تطوير تلك النظم سواء في الدعاية الانتخابية أو في حساب الأصوات أو في التنبؤ بالنتائج.
و لم يقتصر التطوير علي النظم الانتخابية وحدها. فرغم أن أسلوب توريث السلطة التقليدي ما زال قائما في عديد من الدول التي تأخذ بالنظام الملكي، فحتى إذا ما أطيح بالأسرة المالكة فيما يعرف بالانقلابات "داخل القصر"، فإن أصحاب السلطة الجديدة لا يجدون حرجا في إعلان تمسكهم بنظام التوريث التقليدي كما حدث مثلا في دولة قطر، و هو ما يحسب لهم في ميزان الوضوح و المكاشفة.
إلا أنه مع قيام الثورات و الانقلابات العسكرية التي أطاحت ببعض النظم الملكية التقليدية، واجه من أمسكوا بزمام السلطة الجديدة في تلك المجتمعات موقفا حرجا: هل يأخذون فورا بالنظام الانتخابي الذي يحتمل أن يزيحهم عن مقاعد السلطة قبل أن يستقروا عليها تماما؟ أم يعلنوا تمسكهم بأسلوب توريث السلطة و هو الأسلوب الذي أعلنوا إدانتهم له و ثورتهم عليه؟ و لم يكن بد و الأمر كذلك من ابتكار أو تطوير نظام التوريث ليلائم النظم "الثورية" الوليدة. و كانت أبرز آليات التوريث الجديدة أليتان متكاملتان: إختيار الرئيس عن طريق الاستفتاء دون منافس، و اختيار "نائب الرئيس" الذي يعادل "ولي العهد" في النظم الملكية الوراثية التقليدية؛ و من ثم نصبح حيال ما يمكن أن نطلق عليه نظام "التوريث الاستفتائي".
لقد عرفنا عبر تاريخنا القديم من عصور الفراعنة عبورا بالفتح العربي فالفتح العثماني حتي نهاية الخلافة العثمانية أنواعا عديدة من تداول السلطة: عرفنا التوريث، و عرفنا انتقال السلطة للأقدر علي الاستيلاء عليها بالقوة، و عرفنا أيضا بيعة النخبة أو ذوي الحل و العقد، و عرفنا تفويض الحاكم لمجموعة يراها الأصلح لاختيارالقائد القادم من بينهم؛ و لكنا لم نعرف حاكما تم اختياره لمدة محدودة من خلال تصويت المواطنين جميعا دون تمييز إلا بعد زمن من غروب شمس الخلافة العثمانية. و انحصر ذلك التصويت العام في اختيار أعضاء البرلمان و رئيس مجلس الوزراء في حين ظل انتقال قمة الحكم الملكي وراثيا حتي إعلان النظام الجمهوري و تبني أسلوب الاستفتاء حيث يقوم الحزب الثوري الحاكم بتسمية المرشح لرياسة الجمهورية و يصدق علي ذلك الترشيح ممثلو الشعب في البرلمان ثم يطرح الاسم للاستفتاء، و يقوم الرئيس بعد توليه بتعيين نائبه الذي يرشحه الحزب بعد ذلك للاستفتاء لتولي رئاسة الجمهورية و هكذا دواليك.
و انكسرت تلك الحلقة بعد تولي الرئيس مبارك و عزوفه حتي الآن عن تحديد نائب الرئيس، أو الرئيس القادم وفقا لما كانت تجري عليه الأمور قبل ذلك.و بدأ القلق يعتور البعض مطالبين الرئيس بضرورة تسمية النائب/الرئيس القادم، و لما طال الانتظار و لم يستجب الرئيس، تحول قلق البعض إلي خوف و تساؤل: ماذا بعد مبارك؟ كيف يمكن أن نترك للمجهول دون أن يحدد لنا السيد الرئيس خلفه. و تجاهل الجميع أو تناسوا أن أحدا في الدول الديموقراطية الراسخة يمكن أن يطرح مثل ذلك التساؤل، و أن منصب نائب الرئيس الذي يكون منتخبا عادة في تلك الدول لا علاقة له البتة بتولي السلطة خلفا للرئيس الحالي، و أن مهمته الأساسية مهمة مؤقتة تماما تنتهي بانتخاب رئيس جديد، و أن هذا الرئيس الجديد لا يمكن معرفته يقينا إلا بعد انتهاء الانتخابات تماما.
و استمر الرئيس مبارك ممتنعا عن تعيين السيد النائب المرتقب، و بدا للبعض أنه لا بد و أن يكون للأمر خبيئ غير معلن و هو تهيئة المسرح لتولي السيد جمال مبارك السلطة بشكل يبدو ديموقراطيا و ذلك بترشيحه من الحزب الوطني الحاكم في مواجهة أحزاب معارضة ضعيفة. و الذي يستوقف النظر حقا أن جميع الأطراف بلا استثناء سواء كانوا في قمة السلطة أو من الحكومة أو الحزب الحاكم أو أحزاب المعارضة، أو جماعات المجتمع الأهلي، أو المثقفين و المفكرين علي اختلاف مشاربهم، الجميع يتفقون علي رفض و استهجان فكرة التوريث.
غير أنه مما يستوقف النظر أن الجميع في غمار إدانتهم للتوريث و لما يمكن أن ينجم عنه من كوارث قومية و ديموقراطية، تجاهلوا تدعيم حججهم بالإشارة إلي نموذج يجسد ما يخشونه و يحذرون منه، و هو وقائع انتقال السلطة في سوريا الشقيقة.
و لعل مكمن الحرج في الإشارة إلي هذا النموذج بشكل واضح مباشر هو ما تحظي به الشقيقة سوريا من تقدير و حب لدي المعارضين المصريين للتوريث نظرا لموقفها المعارض لاتفاقيات كامب دافيد، و تصدرها قوي "الصمود و التصدي" ثم قوي "الممانعة" و كونها ملاذ للقوي الثورية العربية الفلسطينية و اللبنانية المناهضة للاستسلام. رغم ما يتسم به موقفها حيال إسرائيل من انضباط و صبر و حكمة لم ينل منه التعرض لقصف الطيران الإسرائيلي لموقع داخل الحدود السورية، و كفل هدوءا تاما علي الحدود السورية الإسرائيلية التي لم تشهد حتي ما شهدته الحدود المصرية و الأردنية من حوادث تهور فردي "مجنون" لجندي سوري يطلق النار عبر الحدود، ثم ينتحر أو ينحر بعد ذلك

[1] البديل، 24 فبراير 2008

الخميس، 29 يوليو 2010

http://massai.ahram.org.eg/231/2010/07/28/36/14968/219.aspx

العقيدة و الدولة[1]
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
ظل تجميع البشر تحت قيادة مركزية تستند إلي مرجعية فكرية واحدة وهما يداعب الفكر الإنساني منذ بداية التاريخ و لم يكف البشر عن محاولة تجسيد هذا الوهم حتى يومنا هذا سعيا لخلق عالم مثالي نموذجي ينعم البشر في ظله إذا ما تحقق بأقصى قدر من الرفاهية و السعادة.
و يفيض التاريخ البشري بما لا حصر له من بحور الدماء التي سالت لتجسيد مثل ذلك الحلم علي الأرض في صورة الدولة العقائدية أي تلك الدولة التي تقوم علي تصور نظري مسبق اكتملت صياغته من قبل، وتظل الدولة ملتزمة بها أو محاولة ذلك خلال ممارستها العملية لدورها.
و رغم أن الحلم بعالم أفضل هو القوة المحركة لأي تقدم إنساني أو تغيير اجتماعي, فإن الأمر يصبح مأساة حقيقية حين تتحول الدعوة إلي تحقيق ذلك العالم المثالي المنشود من الكلمة و الإقناع إلي القهر و الإجبار و محاولة دفع البشر قسرا و سوقهم بالسلاسل إلي تلك الجنة الموعودة.
يشهد عالمنا المعاصر تزايدا ملحوظا لأفكار و ممارسات ترفع رايات ذلك الحلم القديم بتوحيد العالم: الولايات المتحدة تسعي لتوحيد العالم أو عولمته ولو اقتضي الأمر خوض حروب دامية, كما نشهد تصاعدا لجماعات إسلامية هدفها البعيد المعلن منذ انهيار دولة الخلافة العثمانية يتمثل في السعي إلي إقامة "الدولة الإسلامية" التي قد تختلف الرؤى و تتباين حول تفاصيل ملامحها؛ و لكنها تتفق علي كونها دولة عقائدية عالمية ذات قيادة مركزية.
و لعله من المناسب و الأمر كذلك أن نعرض في عجالة لأهم نموذجين تاريخيين في هذا المجال, كان كلاهما تجسيد لمفهوم الدولة العقائدية, رغم أنهما يقفان علي طرفي النقيض من حيث المنطلقات الفكرية: دولة الخلافة الإسلامية, و دولة الاتحاد السوفييتي الماركسية. و أوجه تناقضهما الفكري غنية عن البيان, أما أهم أوجه التشابه فتتمثل فيما يلي:
أولا: العالمية
شهد تاريخنا الإسلامي منذ حقبة مبكرة جدلا فكريا شديدا حول تحديد معالم هوية المسلم الحق التي تميز بينه و بين غيره: تري هل يكفي الاقتناع و التسليم أم انه لا بد من بيعة و جهاد و دولة و خليفة؟ هل يمكن الاكتفاء بإقامة دولة إسلامية في حدود قطر واحد فحسب؟ أم أنه ينبغي السعي لتشمل مظلة الخلافة البشر جميعا؟ و هل الانتماء الإسلامي ينبغي أن يتخطى حدود الانتماء القومي؟ و استند المتجادلون جميعا إلي فهمهم أو تأويلهم لنصوص الكتاب الكريم و السنة النبوية الشريفة.
و كان الأمر شبيها بذلك فيما يتعلق بالماركسية السوفييتية التي انطلقت من أرضية مناقضة للديانات السماوية, إذ واجهت أسئلة شبيهة: تري هل يكفي الاقتناع بالفكر الماركسي أم انه لا بد من التنظيم الشيوعي و السعي إلي السلطة؟ هل يمكن إقامة هذه السلطة في حدود دولة واحدة أم المطلوب استمرار الثورة إلي أن ينجح عمال العالم في إقامة دولتهم العالمية؟ هل الالتزام الماركسي ينبغي أن يتخطى حدود الالتزام القومي؟ و استند الجميع إلي فهمهم و تأويلهم لما قال به المؤسسون الكبار للنظرية.
ثانيا: وحدة مركز القيادة
أقام الماركسيون تنظيما أمميا عالميا اتخذ من موسكو مركزا لقيادة عملية التوحيد, و كان منطقيا أن تكون للكريملين الكلمة العليا في ذلك التنظيم الأممي, و في اختيار قادته و ممثليه في العالم؛ و لم يكن ذلك بالأمر المستغرب باعتبار أن الانتماء للماركسية يعلو غيره من الانتماءات القومية "الشوفينية".
و بالمقابل فقد تمثل السعي الإسلامي في إقامة دولة الخلافة إسلامية التي تنقلت مراكز قيادتها بين مكة و دمشق و بغداد و القاهرة إلي آخره, و لم يكن حكام أقاليم الخلافة الإسلامية من مسلمي الأقاليم المفتوحة طوعا أو غصبا بل من أصحاب الفتح عربا كانوا أو أتراكا, و كان ذلك أمرا ملفتا فلو سلمنا بأن الانتماء للعقيدة الإسلامية يعلو علي غيره من الانتماءات القومية "الشعوبية"، لما كان هناك ما يمنع شرعا من أن يتولي ولاية مصر مثلا مصريا مسلما أو علي الأصح مسلما مصريا.
ثالثا: الاتهامات بالزندقة و المراجعة
في ظل الحرص علي وحدة الدولة العالمية فكرا و ممارسة لم يكن بد من التصدي بمنتهي الشدة التي تصل إلي حد القتل لمن يهدد تلك الوحدة, و من ثم فقد انهالت الإدانات بالمراجعة و الردة و الخيانة بل و العمالة علي كل من يخرج علي التأويل الرسمي السوفييتي المعتمد للنظرية الماركسية محاولا تفتيت وحدة الصف الشيوعي, كما انهالت إدانات مماثلة بالزندقة و الردة و التحريف علي كل من يخرج علي التأويل المعتمد من مقر الخلافة للقرآن الكريم و السنة المطهرة. و طالت تلك الاتهامات من كانوا يحتلون مراكز الصدارة في المشهد الماركسي من كاوتسكي و تروتسكي إلي ماوتسي تونج إلي تيتو و جارودي, و لم تختلف تلك الاتهامات في جوهرها كثيرا عن تلك التي وجهت إلي العديد من رموز الفكر و قادة العمل الإسلامي.
رابعا: النص و التأوبل
الكتب السماوية كتب خالدة لا يطرأ على نصوصها تعديل مهما تغير الواقع الاجتماعي السياسي, و من ثم فإن تفسيرات البشر لم تنقطع لتلك الكتب التي يؤمنون بها فضلا عن تلك التي يؤمن بها غيرهم, و نستطيع أن نقرر دون خوض في التفاصيل أن لا توجد جماعة لم تلتمس في كتابها المقدس ما يبرر العنف و القتل و الإبادة , و أيضا ما يبرر المسالمة و الموعظة الحسنة, دون أن ينتقص ذلك التباين بطبيعة الحال من قدسية الكتب السماوية. إنه اختلاف بين اجتهادات البشر, و يعلم الله بمن اجتهد فجانبه الصواب و من اجتهد فأصاب, و من أول فتعسف في التأويل إفراطا أو تفريطا لغرض في نفسه: نفاقا أو خوفا أو طمعا. الأمر المؤكد أن الجميع قد وصفوا تأويلاتهم بأنها التأويلات الصحيحة المعتدلة المعبرة عن جوهر الدين.
لعل أحدا لم يعد يجادل فيما أكدته دراسات علم النفس السياسي من تأثير الدين علي السلوك, و لذلك لم يكن مستغربا أن يلجأ البشر علي اختلاف نوازعهم لالتماس السند الديني لتصرفاتهم أيا كانت, فوجدنا يهودا يلتمسون في آيات العهد القديم ما يبرر لهم القتل و سفك الدماء دون تمييز, و يغضون الطرف عن آيات تحرم القتل و السرقة و النهب و تنهي عن مجرد التفكير في الشر و تحذر من إيذاء الغرباء, و وجدنا مسيحيين يلتمسون في آيات العهد الجديد ما يبرر التعذيب و القتل رغم كثرة الآيات التي تدعو إلي التسامح و الحب, و لم يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لنا كمسلمين فقد وجدنا من يعتبر أن كافة آيات التسامح و المسالمة قد نسخت و لم يعد أمام المسلمين سوي قتل من يخالفونهم العقيدة.
إن جرائم المتطرفين من اليهود الذين يرفعون راية التوراة غنية عن البيان, و لعلنا لسنا في حاجة إلي إعادة التذكير بها, و في المقابل نجد من اليهود من وقفوا بصلابة ضد كافة مظاهر التمييز العنصري, و ضد إبادة الفلسطينيين و تدمير منازلهم. كذلك فقد أقدم المتطرفون من المسيحيون في العصور الوسطي على تعذيب المهرطقين, و قتال أتباع نفس الكتاب ممن يختلفون مع تأويلهم له, فضلا عن شن حروب الفرنجة تحت راية الصليب, و هاهو بوش يستخدم دون مواربة تعبيرات مثل "الحروب الصليبية" و "محور الشر", و في المقابل نجد من المسيحيين من يناضلون بحق ضد كافة ممارسات القتل و التمييز. و لا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة للمسلمين
و السؤال الآن: تري هل علي المرء أن يدافع عن كافة تصرفات من ينتمون لجماعته الدينية مهما كانت دموية تلك التصرفات؟ هل ثمة بشر لا يخطئون؟ تري هل علي المسلم أو المسيحي أو اليهودي أن يحمل علي عاتقه وقائع مخضبة بالدم لأنها لصيقة بمن ينتسبون إلي دينه؟ هل تفرض الأخوة الدينية علي المرء أن يضع في سلة واحدة أبناء جماعته الذين يدافعون عن التسامح و الحرية مع من غامروا بحياتهم في سبيل القتل و الترويع؟ هل من المقبول أن يدين المرء تعصب الآخرين و جرائمهم دون أن يدين و بنفس القوة تلك الجرائم المنسوبة إلي أتباع دينه؟
و من الملفت للنظر أن ما يصدق علي أتباع الكتب الدينية المقدسة، يصدق و بنفس الدرجة علي أتباع أي كتاب عقائدي آخر حتي لو كان علمانيا، فرغم علمانية الماركسية، و رغم إقرارها بمبدأ النقد الذاتي، فقد عرفنا في النظام الماركسي "فيلسوف الحزب" بل و عرفنا تقديس مؤسس النظرية ثم تقديس خلفائه أيضا و إن لم يكن ذلك التقديس دينيا فإنه لا يقل عن التقديس الديني من حيث التنزيه عن الخطأ
و من ناحية أخري، فرغم أنه لا كهنوت في الإسلام، بمعني أن الإسلام لا يعرف "رجل الدين" الذي يلعب دور الواسطة بين النص المقدس و البشر؛ ، فقد عرفنا في الجماعات الإسلامية "مفتي الجماعة" و كلاهما يعتبر بمثابة المفسر الرئيسي المعتمد للنص الأصلي.
خلاصة القول
إن الدعوة لإحياء حلم الدولة الدينية – و هو التجسيد العملي لدمج الدين بالسياسة- تكاد تشمل العالم جميعا، غير أن ثمة خيط رفيع ينبغي أن يفصل بين رسائل السماء الإلهية و ممارسات البشر الدنيوية, أي بين الدين و السياسة، و إذا ما اختفي ذلك الخيط, أصبح في مقدور فرد أو جماعة أن يعلن أنه وحده صاحب القول الفصل في مقاصد السماء, و أنه ظل الله علي الأرض و الناطق الأوحد باسمه تعالي. ألا يوقعنا ذلك فيما يشبه التأله و العياذ بالله؟

[1] الأهرام المسائي، 28-7-2010

الاحترام

http://www.ahram.org.eg/242/2010/07/29/10/31564.aspx

مخاطر الإحساس بالإهانة[1]
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
شهدنا مؤخرا ما أطلق عليها "جريمة أوتوبيس المقاولون العرب" حيث راح ضحيتها عدد من موظفي الشركة بعد أن أطلق عليهم سائق الأوتوبيس النار، ثم شهدنا واقعة إقدام أحد الإعلاميين علي قتل زوجته، و كان الدافع الذي عبر عنه القاتل في الحالتين هو أنه أحس أن كرامته قد جرحت.
ما معني كلمة "الكرامة" ما معني أن يكون الإنسان محترما؟ و هل مظاهر الاحترام واحدة بصرف النظر عن المرحلة العمرية أو الظروف التاريخية الاجتماعية السياسية؟ هل يمكن أن يمضي الاحترام في اتجاه واحد بمعني أن يحترم الأصغر الأكبر, و أن تحترم الزوجة زوجها، و أن يحترم المرؤوس الرئيس, و أن يحترم الأضعف من هو أقوي منه؛ أم أنه ينبغي أن يتبادل الجميع الاحترام؟ و ما العلاقة بين الاحترام و الطاعة و الخوف و الخضوع؟
يشير تراث علم النفس إلي أن الحصول علي الاحترام يعد ضمن الدوافع و الحاجات الإنسانية الأساسية, و يقصد بالاحترام الاعتراف المتبادل بالوجود المستقل لكل ما هو خارج الذات, و يشمل ذلك كافة البشر الآخرين فضلا عن الكائنات الحية و الجوامد أيضا
و الحاجة للاحترام تعد ضمن الدوافع النفسية المكتسبة أي أن المرء يتعلمها خلال الخبرة والواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه، فالخبرات التي نعيشها هي التي تصنع لنا رغباتنا ونحن نعرف أن رغبات الإنسان تتنوع مع نموه؛ فرغبات الطفل في العاشرة تختلف عن رغباته عندما يصل إلى عنفوان مرحلة المراهقة، ورغباته في مرحلة المراهقة تختلف عن رغباته عندما يصل إلى الثلاثين وهكذا.
و يصدق ذلك علي الحاجة للاحترام إذ يقوم المجتمع بغرس تلك الحاجة في أبنائه. يدربهم علي مجموعة من أنماط السلوك و الاستجابات تشكل ما يعرف بالسلوك المحترم, و يزودهم بعدد من الآليات تمكنهم من تصنيف مجموعة من تصرفات الآخرين باعتبارها تصرفات تهين الفرد و تهدد توافر الاحترام, كما يزود المجتمع أبناءه أيضا بعدة أنواع من السلوك لمواجهة المواقف و التصرفات المهددة للاحترام, و فضلا عن ذلك يدرب المجتمع أبناءه أيضا علي أنواع العقاب التي ينبغي إيقاعها علي من يقبلون الإهانة و يستسلمون لها و أنواع الثواب التي ينبغي أن يحصل عليها الأبناء "المحترمين".
قد يسعي الفرد ليشغل موقعا قياديا في المجتمع باعتبار أن ذلك يكفل حصوله علي الاحترام, بينما يري آخر أن إظهار الكرم هو السبيل الرئيسي للحصول علي الاحترام, و قد يري آخرون أن السبيل الأنسب لكي يكون المرء محترما يتمثل في التدين أو الطاعة أو القوة أو الثقافة أو العنف أو التضحية إلي آخره.
إن أقسي ما يمكن أن يتعرض له الفرد هو أن يوضع في موقف يراه مهينا لكرامته و لا يستطيع رد الإهانة علي الفور, و لا يملك سوي تأجيل المواجهة. في هذه الحالة قد يستغرق المرء في أحلام يقظة يري فيها نفسه و قد انتصر و استعاد كرامته, و قد تلعب تلك الأحلام دورا إيجابيا في تذكيره بضرورة استعادته لكرامته و بالسعادة التي سوف يحسها آنذاك, و من ثم يشحذ همته لتحقيق هذا الهدف.
الاحترام علاقة بين طرفين, أشبه باتفاقية بين هذين الطرفين يتوليان صياغة بنودها بحيث يصبح لدي كل طرف تعريفا واضحا لأنماط السلوك المعبرة عن الاحترام و تلك التي تعبر عن العكس, و بقدر وضوح تلك البنود يكون ثبات و دوام تلك العلاقة المتبادلة؛ و تتباين أنماط السلوك المعبرة عن الاحترام بتباين شخصية الفرد, و طبيعة الجماعة التي ينتمي لها, و طبيعة المرحلة التاريخية التي تمر بها تلك الجماعة.
لقد كان تقبيل أيدي الكبار مقاما أو سنا هو التعبير الشائع في بلادنا لفترة طويلة, و لعلنا ما زلنا نشهده من حين لآخر حتى الآن؛ و لكنه تعبير آخذ في الانحسار شيئا فشيئا, في حين يكاد يقتصر هذا السلوك في مجتمعات أخري علي تقبيل الرجل ليد المرأة تعبيرا عن التوقير و الاحترام، كذلك فإن الوقوف احتراما للكبار ما زال تعبيرا منتشرا عن الاحترام خاصة في اللقاءات و الاحتفالات الرسمية, و لعله ما زال يمارس في بعض المدارس حين يطلب المدرس من التلاميذ "القيام وقوفا" احتراما لضيف ذو مقام، و يعد الجلوس أمام الكبار مع وضع ساق علي ساق تعبيرا عن عدم الاحترام في ثقافتنا, و لكنه لا يعد كذلك إطلاقا في ثقافات أخري.
و تكاد الثقافات جميعا أن تتفق علي أن السخرية من الآخر تعد تعبيرا عن عدم الاحترام, و لكن هذا الاتفاق ليس مطلقا؛ ففي عديد من الأحوال يكون ثمة اتفاق شخصين يتيح لهما تبادل السخرية دون أن يعتبر أي منهما أن تلك السخرية تقلل من الاحترام المتبادل بل يصنفانها باعتبارها مزاحا يعبر عن المودة و الحب.
خلاصة القول إن التعبير عن الاحترام لا يتخذ شكلا ثابتا جامدا يشمل الجميع في كل الأوقات و العصور و الأمكنة. إن جوهر الاحترام هو احترام الإنسان بما هو إنسان, و لكن تبقي مشكلة؛ فالبشر ليسوا سواء: منهم العدو و الصديق و منهم المخطئ و المصيب و منهم من هو في حاجة إلي أن نعلمه, فهل يمكن رغم ذلك أن نحترم الجميع؟ هل يمكن احترام الصديق و العدو و المخطئ و المصيب.
[1] الأهرام،29 يوليو 2010

الأربعاء، 14 يوليو 2010

http://www.ahram.org.eg/228/2010/07/15/10/29476.aspx

ثقافة الامتحانات[1]
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
حين تلقيت دروسي الأولي في القياس النفسي، و عندما مارست حرفتي بمصلحة الكفاية الإنتاجية كمتخصص في تصميم اختبارات و مقاييس القدرات و الاستعدادات المهنية، كنا نستخدم عبارة "لقد انكسر الاختبار" للإشارة إلي أن واحدا أو أكثر من التلاميذ قد حصل فيه علي الدرجة النهائية، و يصبح علينا تعديل ذلك الاختبار المكسور برفع سقفه -أي بزيادة صعوبته- بحيث يصبح أكثر قدرة علي التمييز باعتبار أن من حصلوا علي الدرجة النهائية لا يمكن التمييز بينهم، فضلا عن أن "الدرجة النهائية" تجعلنا من الناحية الفنية غير قادرين علي تحديد "الدرجة الحقيقية" التي يستحقها التلميذ.
استعدت تلك الذكري القديمة حين التقيت منذ سنوات في اسطنبول بأحد خبراء التربية الأتراك يسألني عن أمر بدا له مستعصيا علي الفهم "لقد قرأت في احدي الإحصائيات التربوية المصرية أن بعض الطلاب يحصلون علي ما يتجاوز 100% من درجات الامتحان، و تأكدت أن الرقم صحيح و ليس خطأ مطبعيا. تري هل ابتكرتم قاعدة رياضية جديدة تسمح بأن تكون قيمة البسط أكبر من قيمة المقام" و بطبيعة الحال عجزت عن التفسير المنطقي.
استعدت كل ذلك و أنا أتابع تلك المشاهد التي تكاد تنفرد به مصر خلال فترة الامتحانات: أمهات يتزاحمن علي أبواب المدارس في انتظار انتهاء بناتهن و أبنائهن من أداء الامتحانات و خاصة امتحانات الثانوية العامة. و عناوين الصحف تحمل صور أبنائنا و بناتنا يصرخون من صعوبة الامتحانات و يطالبون بالرحمة في التصحيح. و غالبا ما تصدر تأكيدات المسئولين سنويا بأن "الامتحان في مستوي الطالب المتوسط" بما يعني أن الطالب فوق المتوسط يستطيع أن "يكسر الامتحان". و إذا كان من ملمح إيجابي في تلك الصورة فهو أن الأسرة المصرية و خاصة محدودة الدخل تقاتل من أجل حصول أبنائهن علي أعلي الشهادات. و الشهادة تعني لغويا أن الموقع عليها يشهد بأن صاحبها قد توافر لديه القدر المطلوب من الخبرة في مجال معين، أو بعبارة أخري أنه مؤهل لإتقان عمل معين.
و لعل ذلك الموقف يعود بذاكرة أبناء جيلي إلي سنوات بعيدة حين كانت الأسرة محدودة الدخل تدفع بابنها إلي "أوسطي" يتعلم علي يديه حرفة معينة، و كثيرا ما كانت الأسرة تلوم الأوسطي إذا لاحظت أن عمل ابنها يقتصر مثلا علي تنظيف الدكان و إحضار الطعام للعمال؛ فإذا ما احتج الأوسطي بأنه يجاملهم و لا يريد إرهاق ابنهم، تكون توصية الأسرة حفز الأوسطي علي تدريبه حتى لو اقتضي الأمر عقابه. و من هنا انتشرت ظاهرة "الولد بلية" أو مشروع الأوسطي الصغير الذي سرعان ما يصبح أوسطي و يستقل بورشته الصغيرة. الأسرة في هذه الحالة لم تسع لحصول ابنها علي مجرد شهادة من الأوسطي، بل كان الهدف أن يتقن الصنعة بالفعل.
ترى لماذا أصبحت تلك الأسرة حين أتيح لها أن تدفع بابنها إلي التعليم تطالب بامتحان سهل و تصحيح أسهل؟ أظن أن ما تغير هو المناخ الاجتماعي السياسي المحيط بسوق العمل.
لقد كانت الدولة في حقبة الستينات تتولي مسئوليتي التعليم و التوظيف: من يحصل علي شهادة يتم تعيينه في وظيفة يستحيل بعدها أن يفصل إلا إذا انخرط في نشاط سياسي معاد للنظام، و يظل يترقى في وظيفته بصرف النظر عن مدي إتقانه لعمله، و كان من المنطقي آنذاك أن يكون الهدف النهائي هو الحصول علي شهادة. و رغم ذلك فقد كانت الشهادة آنذاك أكثر مصداقية حيث كانت قاعات الدراسة أقل كثافة و كان التعليم أكثر انضباطا و جدية.
و لكن دوام الحال من المحال. لقد توقفت الدولة عن توظيف الخريجين، و تقلص القطاع العام، و أصبح القطاع الخاص هو المسيطر علي غالبية فرص العمل. و للقطاع الخاص فلسفته الخاصة في اختيار العاملين بحيث يحقق أعلي ربحية ممكنة، و لذلك فإنه يهتم أول ما يهتم بدرجة إتقان العامل لعمله، و ليس بالمستوي الذي تقرره الشهادة التي يحملها. و مع تزايد ازدحام الفصول، و ما طرأ علي العملية التعليمية من قصور لسنا بصدد تفصيل القول فيه، و مع الإلحاح الجماهيري و الاستجابة الحكومية لتيسير الامتحانات؛ اتسعت الفجوة بين الحصول علي الشهادة و إتقان العمل. لقد أصبح حصول الطالب علي الشهادة لا يعني بالضرورة إتقانه للتخصص الذي تدل عليه تلك الشهادة.
و بدأنا في مواجهة عدة ظواهر مترابطة:
· زيادة أعداد خريجي الجامعات الذين لا يجدون عملا حيث تضاءلت فرص التعيين في وظائف الحكومة و القطاع العام، و في نفس الوقت فإنهم غير مؤهلين للعمل في القطاع الخاص.
· تدهور "قيم العمل" التي تتمثل في الحرص الذاتي علي الإتقان، و الالتزام الدقيق بالوقت، و تكريس كامل وقت العمل للعمل فحسب، و الاتجاه الإيجابي نحو العمل، و التوافق مع تعديل أوقات و ظروف العمل، فضلا عن القابلية لتعلم الجديد، و الثقة في الذات، و الحرفية المهنية، و الولاء للمؤسسة.
· السعي الحثيث لاستيراد العمالة الأجنبية التي تقبل بشروط العمل في القطاع الخاص، و تتوافر فيها "قيم العمل" و علي رأسها الحرص علي الإتقان.
تري هل يمكن أن تكون لدينا شجاعة مصارحة أبناءنا بأن تيسير الامتحانات و التصحيح رغم ما ينجم عنه من سعادة فإنها سعادة وقتية زائفة، و أن الشهادات التي نمنحها لهم وفقا لذلك النظام لا تزيد كثيرا عن رخصة قيادة مزيفة يحصل عليها بطريقة أو بأخرى من لا يعرف القيادة، و من ثم لا يكون أمامه إذا ما صدق الشهادة التي يحملها إلا أن يقدم علي كارثة قد تدمره شخصيا.
[1] الأهرام، 15 يوليو 2010

الخميس، 8 يوليو 2010

http://www.al-ahaly.com/index.php?option=com_content&view=article&id=2197:2010-07-08-14-16-09&catid=39:2010-02-27-09-21-49&Itemid=664

ثقافة الموت .. ثقافة الحياة
الخميس, 08 يوليو 2010 14:15 د. قدري حفني

تمجيد العنف لترويج السلاحتؤكد دراسات علم النفس الإعلامي أن رواج سلعة معينة لا يتوقف علي مجرد الإعلان عن وجودها و عرض مزاياها بل إن الرواج الأمثل إنما يتحقق بقيام ثقافة مساندة للسلعة تضمن لها دوام و تصاعد الطلب عليها. و يتطلب خلق مثل تلك الثقافة تشكيلا لخريطة الوعي بما تتضمنه من معايير و قيم و اتجاهات بحيث يصبح الطلب علي تلك السلعة جزءا لا يتجزأ من نسيج تلك الثقافة. يصدق ذلك علي صناعة السياحة بقدر صدقه علي صناعة السينما و جراحات التجميل و كذلك الأسلحة حيث جري ترويج ثقافة العنف.ازدهرت تلك الثقافة و ضربت بجذورها في جميع نواحي الحياة بحيث لم يعد أمام الدول و الجماعات مهرب من غواية الحصول علي الأسلحة حتي لو لم تكن تخطط لقتال، فعليها دوما تكديس الأسلحة لكي لا تغري أحدا بالاعتداء عليها، و بحيث تستمر تجارة السلاح في الازدهار تحت كل الظروف. و ما أن تشتعل الحرب حتي يبلغ ذلك الازدهار أوجه و لا يقتصر تدفق الأرباح آنذاك علي منتجي السلاح فحسب بل يشمل العديد من المهربين و تجار السوق السوداء و غيرهم، و مما يدعم ذلك أن مناخ الحرب بما يفرضه من سرية -خاصة فيما يتعلق بصفقات الأسلحة و عمولاتها- يشجع استشراء الفساد دون رقابة أو خوف من افتضاح، بعكس ما ينبغي أن يفرضه مناخ السلام من شفافية تتيح علي الأقل فضح الفاسدين و المرتشين، و لعلنا ما زلنا نذكر تعبيرا شاع بيننا خلال فترة الحرب العالمية الثانية عن "أغنياء الحرب" أي أولئك الذين ظهرت عليهم مظاهر الثراء فجأة بفضل مناخ الحرب و السوق السوداء، غير أن "أغنياء الحرب" هؤلاء لا يحتلون سوي ذيل قائمة أغنياء الحرب الحقيقية.لقد أصدر الصحفي البريطاني جدوين باروز عام 2002 كتابا بعنوان "صناعة السلاح" استخدم فيه تعبير "المجموعة القذرة" مشيرا إلي قائمة الدول التي تتصدر صناعة السلاح و تتربع الولايات المتحدة علي رأسها، تليها روسيا، ثم فرنسا، ثم بريطانيا، وألمانيا ، ثم هولندا، حيث تستأثر تلك الدول الست بتصدير 85% من السلاح في العالم و تحتل إسرائيل المرتبة الثانية عشرة في تلك القائمة، ومن المثير للانتباه أن الدول الأربع التي تتصدر تلك القائمة أعضاء دائمون في مجلس الأمن المسئول عن "السلام العالمي".نستطيع في ضوء ما تقدم أن نفهم مصدر تلك المقاومة الشرسة التي تثيرها الدعوة لثقافة السلام، فهي في النهاية مجرد ثقافة لا تستند إلي صناعة تدعمها و ترعاها، شأنها في ذلك شأن ثقافة الطب الوقائي في مقابل صناعة الأدوية، و ثقافة حماية البيئة في مقابل الصناعات الملوثة للبيئة.صحيح أن مجموع أعداد الناشطين في مجال ثقافة السلام في العالم لا يمكن أن يقارن بأعداد العاملين في أجهزة القتال و الأمن في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها مثلا ، و صحيح كذلك أن تمويل أنشطة السلام وحتي أنشطة التعليم و الرعاية الصحية لا يمكن أن يقارن بتلك المليارات التي تنفق علي صناعة و تجارة السلاح، و صحيح كذلك أن الدعوة لثقافة السلام تتعرض دوما لمحاولات التزييف و التهجم و وصمها بأنها ليست سوي دعوة لاستسلام المظلوم للظالم، وأنها نقيض لثقافة المقاومة؛ و رغم كل ذلك فإن ثقافة السلام ما زالت رغم كل شيء تحاول الاستمرار في الحياة.مسئوليتنا جميعاإن أولئك الذين يمارسون العنف الآن، كانوا في غالبيتهم أطفالاً منذ زمن قريب، بل لعل بعضهم مازال كذلك بمعني ما. وإذا ما استمرت أساليب تنشئتنا لأطفالنا علي ما هي عليه، فان الاجيال القادمة لن تختلف كثيراً عن جيل ممارس العنف الراهن، إذا لم تكن أسوا. لقد كان هذا الجيل نتاجاً لعمليات التنشئة الاجتماعية لاطفالنا والتي مارسناها كأمهات وأباء، كمربين وتربويين، كإعلاميين ومسئولين، مارسناها في بيوتنا، ومدارسنا، ومساجدنا وكنائسنا ونوادينا ومكاتبنا. مارستها صحافتنا واذاعتنا وتليفزيوننا. مارستها السلطة والمعارضة. مارسناها جميعاً دون استثناء. مارسناها بالفعل ومن لم يستطع مارسها بالقول، ومن لم يستطع مارسها بالصمت ولعلة الأشد خطراً. لقد تكاتفنا جميعاً لدفع أطفالنا إلي ما يتنافي مع فطرتهم التلقائية الطبيعية. الطفل بفطرته محاور، دفعناه إلي الصمت، الطفل بفطرته متسائل، دفعناه إلي تقبل التلقين. الطفل بفطرته مفاوض فعال، دفعناه إلي الجمود العدواني. الطفل بفطرته تلقائي، دفعناه إلي التصنع والمداهنة.. الطفل بفطرته ميال للمشاركة، دفعناه إلي الجمود العدواني.. الطفل بفطرته ميال للمشاركة، دفعناه إلي الانطواء والتوجس من الآخرين. ولاننا كنا في ذلك كله نسبح ضد التيار، تيار الفطرة السليمة، فقد كان علينا أن نبذل جهداً شاقاً مستمراً، وقد بذلنا بالفعل. وحققنا نجاحاً كبيراً، ولكنه ـ لحسن الحظ ـ لم يكن كاملاً تماماً. فمازال لدي أطفالنا بقية من تلقائية وإيجابية وانفتاح، ولكن جهودنا أيضاً مازالت مستمرة. وللحقيقة فان نوايانا كانت ومازالت طيبة، وحبنا لأطفالنا حقيقة لا يماري فيها أحد. ولكن ذلك وحده لا يكفي ، لقد أدت تنشئتنا لأطفالنا إلي حيث لا يجد الطفل أمامه لمواجهة مواقف الحياة إلا واحداً من سبيلين لا ثالث لهما: إما التصدي بالعنف لإزالة ما يحول بينه وبين ما يريد، ذلك إذا ما استطاع، فإذا لم يستطع وكانت العقبة أقوي من امكاناته، لم يعد أمامه إلا السبيل الآخر وهو الاستسلام دون شروط هجرة أو مرض نفسي أو انطفاء سلبي. لقد أردنا لأطفالنا القوة في عالم يسوده الأقوياء، وأردنا لهم السلامة في عالم يسوده العنف. أردنا أن نجنبهم مغبة التمرد والمخالفة في عالم يدفع فيه المتمردون ثمناً باهظاً من مستقبلهم ومن حريتهم ومن حياتهم أحياناً. أردنا أن نصونهم من مخاطر التلقائية والصراحة في عالم يشجع التصنع والمداهنة. أردنا أن نحميهم من المضي بتساؤلاتهم إلي غايتها في عالم يضع حدوداً صارمة لما يجوز وما لا يجوز التساؤل عنه. أردنا أن ندربهم علي الطاعة في عالم يسوده الانصياع والمجاراة. لقد أردنا لأطفالنا الخير ... كل الخير ... فما الذي حدث ؟ ما حدث هو أننا أغفلنا عدداً من الحقائق الاساسية لعل أهمها: -أولاً: أن محاولة إزالة العقبات بالقوة، أو مواجهة المعتدي بالعنف، قد تكون الوسيلة الأكثر فعالية وسرعة، ولكنها تفترض أن يكون طفلي هو الأقوي والأقدر، وإلا هزم، وازدادت العقبة رسوخاً، وازداد المعتدي إمعاناً في ممارسة اعتداءاته، ولا يصبح أمام طفلنا إلا الاستسلام للعنف إذا ما تكرر، والعجز أمام العقبات إذا ما واجهها. فالفشل في هذه الأحوال يؤدي إلي مزيد من الفشل. ثانياً: أن أنواع العقبات والاعتداءات عديدة متنوعة، قد تكون العقبة زميلاً أو أخاً منافساً، أو مدرساً يبدو متشدداً، أو قد تكون حتي أباً يراه الطفل قاسياً، أو أما يراها الطفل منحازة، وقد يكون الاعتداء الذي يواجهه الطفل بدنيا أو لفظياً، مباشراً أو ضمنياً. وقد يكون موجهاً إلي الممتلكات أو الإخوة أو الأصدقاء، بل حتي قد يكون موجهاً صوب المشاعر والأفكار، ومواجهة كافة أنواع العقبات والاعتداءات بأسلوب واحد هو القوة أو العنف أمر قد لا يعني سوي تكريس العنف كأسلوب أوحد للتعامل في كل مواقف الحياة دون تمييز.ثالثاً: أن المواجهة الفعالة لمواقف الحياة ينبغي أن تشمل إلي جانب إمكانية العنف أو القوة عدداً لا نهاية له من البدائل مما يمكن أن نطلق عليها تعبير بدائل السلام الهجومي وهي تتضمن مهارات القدرة علي الحوار والمناقشة، وتفنيد الآراء وطرح البدائل، وجمع وتحليل المعلومات، والتفاعل مع الآخرين، وتأجيل الأشباع، والتفاوض .... إلي أخره.الخطر داهمإننا في حاجة ماسة لتعديل أساليب التنشئة الاجتماعية التي نمارسها حيال أطفالنا. الخطر داهم. والأحداث تتسارع، ولم يعد مجدياً الاكتفاء بتوجية النداء إلي المسئولين أو من يعنيهم الأمر، الأمر يعنينا جميعاً والأطفال أطفال الجميع والكل في نفس الخندق. قد يصعب علينا نحن الكبار تعديل ما اعتدناه من أساليب في التنشئة، وقد نستسهل القاء المسئولية علي فريق منا دون فريق. وقد يزيد من صعوبة مهمتنا أن الأمر قد يتطلب احداث تغيير أساسي في نمط العلاقات المتبادلة بيننا نحن الكبار. وقد يزيد من صعوبة مهمتنا أيضاً ذلك الميل الطبيعي لدي البشر جميعاً لمقاومة الاعتراف العلني بالخطأ . وقد يزيد من صعوبة تلك المهمة كذلك أننا قد نواجه بنية اقتصادية سياسية اجتماعية راسخة يستفيد أصحابها علي المدي القصير من الوضع الراهن. . المهمة صعبة ما في ذلك شك، ولكنها تهون بالتأكيد أمام حبنا الصادق لأغلي ما في ذلك شك، ولكنها تهون بالتأكيد أمام حبنا الصادق لأغلي ما في حياتنا: أطفالنا، وتهون المهمة أيضاً إذا ما تذكرنا دائماً أن الأطفال أنفسهم سيكونون سندنا الرئيسي. فالأطفال منذ طفولتهم المبكرة يقاومون عمليات التطويع قدر استطاعتهم. ويحاولون الاحتفاظ بذاتهم قدر طاقتهم، ويقاتلون في سبيل ذلك ما وسعهم الجهد، مستخدمين أساليبهم المتميزة في السلام الهجومي من احتجاج بالصراخ إلي اضراب عن الطعام إلي رفض صامت أشبه ما يكون بالعصيان المدني حيال ما يصدر اليهم من أوامر، بل أنهم كثيراً ما يلجأون إلي العديد من الوان المفاوضة والمداورة ومحاولة النفاذ من خلال الثغرات واستغلال التناقصات. فلنسع إلي تدعيم تلك المهرات الفطرية لدي أطفالنا، ولكن تلك الدعوة بداية حوار جاد حول ماذا نريد من أطفالنا للغد؟ وماذا نريد من الغد لأطفالنا؟

الثلاثاء، 6 يوليو 2010

http://www.al-ahaly.com/index.php?option=com_content&view=article&id=2104:2010-07-01-18-51-47&catid=39:2010-02-27-09-21-49&Itemid=664

ثقافة الموت – ثقافة الحياة
غلبة الروحانية التدميرية على روحانية الاحتفال بالحياة (1-2)[1]
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com
لعل الحديث عن روحانية تدميرية قد يبدو للوهلة الأولي متناقضا؛ حيث ارتبطت الروحانية في تراثنا الشعبي بالرقة و الحب و الشفافية و الترفع علي الشهوات الدنيوية و ذلك فضلا عن أن الروحانية بحكم اشتقاقها اللغوي من "الروح" ترتبط بكل ما هو غير جسدي غير دنيوي. و في مقابل ذلك فإن "التدمير" يرتبط بما هو مادي جسدي دنيوي.
و رغم ذلك التناقض الظاهر بين الروحانية و التدميرية في تراثنا الشعبي، فإن معطيات الواقع تشير إلي أن ثمة من يدمرون الحياة من حولهم بل و يدمرون أنفسهم جسديا بدوافع "روحانية" أي ترفعا عن كل ما هو دنيوي شهواني. و قد يبدو للوهلة الأولي أن ثمة جديد قد طرأ علي الإنسان جعله يجمع بين ما يبدو متناقضا؛ و لكن الأمر فيما نري ليس كذلك؛ فمثل تلك الازدواجية كانت قائمة عبر التاريخ البشري بحيث يستحيل العثور علي "روحانية" تستعصي علي الاستغلال التدميري، و يكفي أن نستعرض تاريخ ممارسة البشر لما تلقوه من رسائل السماء التي تعتبر قمة الروحانيات.
الرسائل الإلهية و سلوك البشر
الكتب السماوية كتب خالدة لا يطرأ على نصوصها تعديل مهما تغير الواقع الاجتماعي السياسي، و من ثم فإن تفسيرات البشر لم تنقطع لتلك الكتب التي يؤمنون بها فضلا عن تلك التي يؤمن بها غيرهم، و نستطيع أن نقرر دون خوض في التفاصيل أن لا توجد جماعة لم تلتمس في كتابها المقدس ما يبرر لها العنف و القتل و الإبادة، و أيضا ما يبرر لها المسالمة و الموعظة الحسنة، دون أن ينتقص ذلك التباين بطبيعة الحال من قدسية الكتب السماوية.
إنه اختلاف بين اجتهادات البشر، و يعلم الله وحده بمن اجتهد فجانبه الصواب و من اجتهد فأصاب، و من أول فتعسف في التأويل إفراطا أو تفريطا لغرض في نفسه: نفاقا أو خوفا أو طمعا. الأمر المؤكد أن الجميع قد وصفوا تأويلاتهم بأنها التأويلات الصحيحة المعتدلة المعبرة عن جوهر الدين.
لقد أكدت دراسات علم النفس السياسي تأثير الدين علي السلوك، و لذلك لم يكن مستغربا أن يلجأ البشر علي اختلاف نوازعهم لالتماس السند الديني لتصرفاتهم أيا كانت، فوجدنا يهودا يلتمسون في آيات العهد القديم ما يبرر لهم القتل و سفك الدماء دون تمييز، رغم الآيات التي تحرم القتل و السرقة و النهب، بل و تنهي عن مجرد التفكير في الشر و تحذر من إيذاء الغرباء، و وجدنا مسيحيين يلتمسون في آيات العهد الجديد ما يبرر التعذيب و القتل رغم الآيات التي تدعو إلي التسامح و الحب، و لم يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لنا كمسلمين فقد وجدنا من يعتبر أن كافة آيات التسامح و المسالمة قد نسخت و لم يعد أمام المسلمين سوي قتل من يخالفونهم العقيدة.
إن جرائم المتطرفين من اليهود الذين يرفعون راية التوراة غنية عن البيان، و لعلنا لسنا في حاجة إلي إعادة التذكير بها، و في المقابل نجد من اليهود من وقفوا بصلابة ضد كافة مظاهر التمييز العنصري، و ضد إبادة الفلسطينيين و تدمير منازلهم. كذلك فقد أقدم المتطرفون من المسيحيون في العصور الوسطي على تعذيب المهرطقين، و قتال أتباع نفس الكتاب ممن يختلفون مع تأويلهم له، فضلا عن شن حروب الفرنجة تحت راية الصليب، و هاهو بوش يستخدم دون مواربة تعبيرات مثل "الحروب الصليبية" و "محور الشر"، و في المقابل نجد من المسيحيين من يناضلون بحق ضد كافة ممارسات القتل و التمييز.
و لا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لنا نحن المسلمون، و لعلنا لسنا في حاجة للخوض في تاريخ قديم نسمع عنه و قد نختلف حوله. يكفي أن ننظر حولنا الآن لنري من يمارسون بالفعل أعمال القتل و التدمير معلنين أنها تمثل روح الإسلام و جوهره، و في المقابل نجد منا من يعلنون بشجاعة و وضوح أن جوهر الدعوة الإسلامية كان و ما زال هو التسامح و الحرية.
ثمة خيط رفيع ينبغي أن يفصل بين رسائل السماء الإلهية و ممارسات البشر الدنيوية، و إذا ما اختفي ذلك الخيط، أصبح في مقدور فرد أو جماعة أن يعلن أنه وحده صاحب القول الفصل في مقاصد السماء، و أنه ظل الله علي الأرض و الناطق الأوحد باسمه تعالي.
الطريق الآمن الفعال
الصراعات الفكرية تحتدم بيننا و بين فصائلنا، و بيننا و بين الآخرين: من مواقف فصائل المعارضة و السلطة، إلي اختلافات في الرؤى داخل أسرنا و مدارسنا و جامعاتنا و مساجدنا و كنائسنا، و إذا كان الاختلاف سنة من سنن الحياة، و أنه لا يوجد فردين متفقان تماما في كل شيئ، فثمة حقيقة أخري يؤكدها تراث علم النفس، فضلا عن وقائع الحياة و هي أنه لا يوجد بالمقابل فردان يختلفان في كل شيء.
لقد عرفت البشرية عبر تاريخها الطويل سبلا عديدة لحل الصراعات، لعل أقدمها "حل الصراع بالقوة"؛ و تطورت صور القوة التي يعتمد عليها البشر من قوة البدن إلي قوة العدد إلي قوة الاقتصاد إلي قوة السلاح إلي غير ذلك من أدوات القوة، و ما زالت تلك الإستراتيجية تمثل الخيار المفضل لدي العديد منا، رغم ما تشير إليه وقائع التاريخ من أن حل الخلافات بالقوة أيا كان نوع تلك القوة لا يعني عمليا سوي تأجيل الصراع إلي أن تتغير موازين القوي و تدور الدائرة فيقوي الطرف الذي كان مهزوما فيفرض طاعته علي الجميع و هكذا دواليك.
لقد قاوم الكثيرون طويلا و ما زالوا يقاومون التسليم بحقيقة أن ثمة ثمة طريق أمن فعال لإدارة الخلاف، تتمثل بدايته في الحوار، فإذا ما أخفق الحوار، فليكن خضوع الأقلية لقرار الأغلبية، فإذا ما أعاقت سلطة الغالبية تعبير الأقلية عن رأيها، أو إذا ما تمردت الأقلية علي الخضوع لقرار الأغلبية، فليكن الاحتكام للقانون، فإذا ما عز الاحتكام للقانون المحلي، فليكن الاحتكام إلي الرأي العام بآلياته المتدرجة من التظاهر إلي العصيان المدني، فإذا ما تعذر ذلك، فليكن اللجوء للقانون الدولي، فإذا ما تعذر ذلك فليكن اللجوء لمؤسسات الرأي العام العالمي؛ بحيث يصبح اللجوء إلي القوة هو آخر الاختيارات.
صحيح أن اللجوء إلي تلك السلسلة المتدرجة الطويلة قد يتطلب صبرا مؤقتا علي الظلم و لكنه صبر إيجابي لا يعني التسليم للظالم بظلمه، و قد يكون صحيحا كذلك أن الحل الناجم عن الحوار قد لا يعني التوصل إلي سلام مكتمل يحقق المطالب النهائية للأطراف جميعا، و صحيح كذلك أن تلك السلسلة المتدرجة الطويلة تتطلب شبكة واسعة من التحالفات بين أطراف قد لا تتطابق مصالحها النهائية بقدر ما تتعارض، و لكنها حقيقة الحياة التي أكدتها بحوث و دراسات علم النفس السياسي فضلا عن خبرات الحياة: حتمية الاتفاق و التعاون بين البشر شرط لكي تستمر الحياة علي هذا الكوكب؛ فلو نظر المرء إلي ما يدور حوله لاتضح له علي الفور أنه لا يوجد فرد يستطيع تحقيق احتياجاته جميعًا بمعزلٍ عن الآخرين. لو حاول أي منا أن يكتب قائمة تتضمن ما يريده من الآخرين، لوجد أن هذه القائمة تمتد إلي ما لانهاية، وأنها تضم قائمة بالغة التنوع والاختلافات، و أنها لا تقتصر الأمور المادية المحسوسة فحسب؛ بل تشمل العديد من الأمور المعنوية التي قد تفوق قيمتها في كثير من الأحيان الأمور المادية؛ كالعدل، والحرية، والحب، والأمن، و الاحترام.
الجميع مضطرون إذن للاعتماد بصورة أو بأخرى علي الآخرين. يصدق ذلك علي الأفراد كما يصدق علي الجماعات. لقد تزايدت حاجة الناس لبعضهم البعض مع تقدم الحضارة البشرية بحيث أصبحنا لا نستطيع أن نجد في عالم اليوم جماعة تستطيع العيش في عزلة عن العالم معتمدة في إدارة حياتها علي قدراتها الذاتية فحسب. لقد أصبح الحصول علي تدعيم الآخرين يكاد يكون شرطا من شروط استمرار الحياة.
و رغم رسوخ تلك الحقائق فإنه لمما يلفت النظر أن المجتمعات البشرية لم تخل قط عبر التاريخ من إفراز من تتلبسهم تلك الروحانية التدميرية، و إن كان العصر الحاضر يشهد لهم تزايدا غير مسبوق.
ملامح الشخصية الروحانية التدميرية
لعل أهم ما تتميز به تلك الشخصية سمة تبدو مشتركة مع أصحاب الشخصية الروحانية المسالمة الداعية إلي الحياة؛ و هي سمة "الإيثار" بمعني أن صاحب تلك الشخصية التدميرية يسلك سلوكا يشي بأنه لا يبالي بما يصيبه في سبيل ما يعتقده، و هي نفس السمة التي يفترض أن تميز الروحانيون محبو الحياة المدافعون عنها؛ غير أن الفارق الأساسي يتمثل في ملامح الصورة الذهنيّة لدي صاحب الشخصية التدميرية عن الطرف الآخر:
1- إنّ الآخر إمّا عميلٌ مأجور، أو ساذج جاهل. فليس من المنطقيّ ، أن يوجد شخصٌ عاقلٌ نزيه، يمكن أن يقبل بتلك الترّهات التي يقول بها الجانب الآخر.
2 - لم يعد الحوار مع الآخر مجديًا0 لقد استنزفنا معه كافة إمكانيات الحوار0 إنه لا يفهم إلّا لغة القوّة0 إنه البادئُ بالعدوان. إن التفاهم معه لا يعني سوي الضعف و التخاذل 0
3 - الآخر هو الخارج علي الأصول الصحيحة: الشرعيّة القانونيّة، الإسلام الصحيح، الاشتراكيّة الصحيحة، المسيحية الأرثوذكسية ••••الخ 0 المهم، أنه هو الخارج دومًا عن الأصول، ونحن الملتزمون دومًا بتلك الأصول.
4 - الآخر لا يمثّل إلّا أقليّة، أمّا الغالبيّة، فإنها تتعاطف معنا بكل تأكيد. وأيّة مؤشّرات تشير إلي غير ذلك فإنها -أيا كانت - مجرّد زيف.
5 - مهما قال الآخر، أو حتى فعل، لكي يوهمنا بأنّه قد تغير، فإنه يظل في جوهره كما هو.
6 - الآخر يريد لنا الاغتراب عن الواقع، اندفاعًا إلي مستقبلٍ غريبٍ عنّا، أو انسحابًا إلي ماضٍ سحيقٍ لم تعُد لنا علاقةٌ به.
7 - لا ينبغي أن نفرّق في مواجهتنا لهم بين "المفكّرين" و "المنفّذين"، أو بين "الموافقين" و "المعارضين" في صفوفهم، فكلهم أعداء. بل ولعلّ ما يبدونه من تنوّع في المواقف ليس سوي نوع من الخديعة.
8 - ينبغي أن ننقّي صفوفنا من أولئك المتخاذلين الذين يدعون إلي حوارٍ مع أعدائنا. إنّهم إمّا سُذّجٌ مضلّلون، أو عملاءٌ مندسّون، أو ضعافٌ ترعبهم المواجهة الشاملة 0
تري كيف يمكن لمجتمع بشري أن يقدم رغم كل وقائع التاريخ علي إفراز مثل تلك الشخصيات التدميرية؟ كيف يتم تدعيمها؟ كيف يتم الترويج لها؟
هذا ما سوف نجيب عنه في العدد القادم

[1] الأهالي، 30 يونيو 2010

السبت، 3 يوليو 2010

http://www.dostor.org/weekly/reportage/10/june/30/20876
د. قدري حفني : قتل خالد سعيد ليس رسالة من أحد والتعذيب في مصر «ثقافة جماهيرية»
الجمعة, 2-07-2010 - 11:58الأربعاء, 2010-06-30 17:10 رحاب الشاذلي
· تحقيقات
Top of Form
Bottom of Form

«منذ مقتل المناضل الشيوعي شهدي عطية الشافعي في معتقلات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في يونيو 1960 وحتي مقتل خالد سعيد شهيد الإسكندرية في يونيو 2010 كل شيء تغير إلا شيئا واحدا بقي كما هو: طريقة تعامل السلطة السياسية مع المواطن الذي بقي بلا حقوق، لكن ما اختلف في زمن خالد سعيد هو أن التعذيب والقتل لم يعد داخل السجون والمعتقلات لكنه أصبح سلوكا عاما يمارس في الشوارع أمام أعين المارة، ولم يعد ضد معارضي النظام، لكنه أصبح عنفا سلطويا موجهاً بشكل عام إلي المواطن العادي، وفي زمن شهدي عطية عرف العالم خبر الوفاة من خلال سطور نعيه في جريدة الأهرام والصدفة وحدها هي التي لعبت دورا في وصول الخبر إلي العالم لكن في زمن خالد سعيد عرف العالم أجمع خبر موته من خلال مواقع الإنترنت والمدونات والفيس بوك.
هذه الكلمات وغيرها حدثنا بها أستاذ علم النفس السياسي دكتور «قدري حفني»، كاشفا عن جوهر حادثة مقتل ضحية التعذيب خالد سعيد، ومبينا في حواره مع «الدستور» أن هذه الحادثة التي جذبت اهتمامه بشدة تعكس دلالات تكاد تختصر ما وصل إليه حال المشهد السياسي والاجتماعي المصري الذي وصل إلي أقصي درجات عنفه، نتيجة استمرار منهج السلطة في التعامل غير القانوني وغير الإنساني مع مواطنيها، وإن خرجت الانتهاكات من نطاق المشتغلين بالسياسة إلي نطاق المواطن العادي.
> بين كل الأحداث السياسية الساخنة المطروحة علي الساحة من اعتصامات وتظاهرات وحتي الأزمة بين المحامين والقضاة... لماذا كان أشد ما لفت نظرك هو خبر مقتل خالد سعيد؟
-عندما قرأت هذا الخبر عدت بالذاكرة خمسين عاما وتذكرت ما حدث للمناضل الشيوعي شهدي عطية الشافعي الذي قتل بسبب التعذيب علي يد رجال السلطة... وما بين المشهدين «الشافعي وسعيد» هناك بعض الفروق البسيطة لكن هناك الكثير من التشابهات أهمها هو أن كل شيء يتغير ماعدا السلطة وطريقة تعاملها مع مثل تلك القضايا ، فعندما قتل شهدي عطية كيف عرفت الناس خبر الوفاة؟ من خلال نعي كتبته زوجته في صفحة الوفيات بجريده «الأهرام»، تحت عنوان «فقيد العلم والوطنية» كتبت: ننعي إلي الأمة العربية فقيدها الغالي شهدي عطية الشافعي مفتش اللغة الإنجليزية بوزارة التعليم، وكتبت بيت الشعر الذي يقول «فتي ما بين الطعن والضرب ميتة تقوم مقام النصر أن فات النصر» هذا البيت الشعري الذي اختارته زوجه شهدي عطية هو الذي عرف الجميع أنه قتل، ومصادفة وصلت الجريدة إلي يوغسلافيا حيث كان الرئيس جمال عبد الناصر يشهد احتفال الشبيبة الشيوعية اليوغسلافية، فوقف أحد الشباب الشيوعيين هناك وناشد الحضور الوقوف دقيقه حداداً علي روح المناضل الشيوعي شهدي عطية الذي قتل في معسكرات التعذيب في بلد عبد الناصر، وقتها قام عبد الناصر بإرسال برقية إلي زوجة شهدي قال فيها «إني وراء القتلة» وأوقف التعذيب.
هذا ما حدث في زمن شهدي عطية... أما في قضية خالد سعيد الأمر اختلف، العالم كله عرف عبر الفيس بوك والإنترنت والمدونات وخرجت مظاهرات في دول العالم، ذلك لأن العالم تغير بسبب ثورة التكنولوجيا، لكن مع ذلك هناك شيء واحد لم يتغير بعد وهو رد فعل السلطة عندما قتل شهدي عطية أجري تحقيق في المعتقل وكتب فيه « أنه كان طالع علي السلم فوقع مات» لكن عندما أخذ ناصر القرار وأعيد فتح التحقيق تم الكشف عن تعذيبه.
وهذا يشير إلي أن كل شيء يتغير عدا السلطة، في واقعة خالد سعيد قالوا إنه مات بالخنق بعد ابتلاعه لفافة مخدرات، من الممكن أن تكون تلك الواقعة الجزئية صحيحة لكن الموضوع في التعذيب، وليس سبب الوفاة.
> لكن تهمة شهدي عطية - حسب توصيف نظام ناصر لها - أنه «شيوعي» لكن ما تهمة خالد سعيد، فهل كونه -لو صدق ادعاء الداخلية- متعاطي مخدرات يعد اتهاما يستحق عليه القتل؟
-هذا هو مكمن الخطر لأن السلطة من قبل كانت تحدد أعداءها مثل الإخوان الشيوعيين..الخ، لكن خالد سعيد عدو من؟ هنا أصبح المواطن العادي في حد ذاته عدوا للسلطة.
هنا يبرز ما يسمي بثقافة التعذيب التي أصبحت ثقافة جماهيرية و«كلنا» بنحب التعذيب والعنف أصبح سلوكا عاما يمارس بين كل فئات الشعب حتي بين رجال القانون أنفسهم والدليل هو ما يحدث بين المحامين والقضاة الآن، إذا بحثنا في سبب الأزمة نجد أن جوهر الموضوع هو استرداد الحق باليد والقوة وليس بالقانون جوهر ما حدث بين المحامي ووكيل النيابة والذي فجر الأزمة بين الطرفين هو أن الثاني اعتدي بالضرب علي المحامي - حسب الرواية المعروفة- وعندما تدخل المحامي العام لحل الأزمة والصلح لم يرتض المحامي بهذا الحل والاحتكام إلي القانون وقرر استرداد حقه بيده وقام بضرب وكيل النيابة.
وعما حدث بين القضاة والمحامين كتبت مقالا بعنوان «تحية واجبة لشباب المحامين وشباب القضاة... علمناكم فاستوعبتم الدرس وتفوقتم» فنحن الجيل الأكبر علمنا هذا الجيل أن استرداد الحق «باليد وليس عبر سلطة القانون» وتلك هي مسئوليتنا التي علينا تحمل عواقبها.
> هل تجد إذن في العنف رابطا بين قضية خالد سعيد، وأزمة المحامين والقضاة؟
-الواقعتان شيء واحد من وجهة نظري، والاثنتان نتيجة طبيعية لما عززناه من أفكار تؤكد أن «المحترم والأقوي هو الذي يأخذ حقه بيده» ومن ثم إذا كنت شرطيا ومن الممكن أن تحتكم إلي القانون أثناء القبض علي مجرم، إلا أنه من الأفضل أن تضربه وتعذبه، حتي المحامي ووكيل النيابة والقاضي الكل يسترد حقه بيده.
قديما عندما طرح شعار «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة» كان المقصود هنا إسرائيل عدونا الخارجي، لكننا حذرنا من وقتها أن القوة لا تتجزأ وإذا ربينا أطفالنا علي أن استرداد الحقوق بشكل عام لن يأتي إلا من خلال القوة هنا اختصرنا الحق وطرق استرداده في ممارسة العنف.
> لماذا اهتم الناس بحادث خالد سعيد -رغم أنهم لا يعرفونه - ولم يهتموا بما يحدث بين القضاة والمحامين؟
- لأن المحامين والقضاة فئات متميزة ومعروفة، لكن «خالد سعيد» لا يعرفه أحد لأنه مجرد شاب عادي، وهذا ما أفزع الشباب العادي الذي خرج محتجا علي ما حدث معه، لكن خلاف المحامين مع القضاة أمر لا يخصهم، وحتي عندما أضرب المحامون لم يضرب معهم أي مواطن لأنه لا يري ضررا مباشراً عليه.
> لكن حادثة خالد سعيد طرحت بشكل مختلف، فهو أولا شاب عادي حتي انحرافاته عادية أنه كان شابا مشاغبا أدي الخدمة العسكرية وخرج بتقدير ضعيف، لكنه ليس قاتلا، في النهاية مواصفاته هي مواصفات الشاب المصري العادي غير المهتم بالقانون وأصدق أنه يتعاطي المخدرات، لكنني لا أصدق أن يقتل بهذا الشكل، حتي وإن كان فعلا هاربا من الخدمة العسكرية - حسب رواية الداخلية - هل هذا يستدعي قتله، ولماذا هو؟ رغم أنه كان هناك مطرب هارب من الخدمة العسكرية والناس رفعت له اللافتات وقالت له « بنحبك» رغم أنه مزور ومتهرب من الخدمة.
جوهر القضية هو أن ما حدث لخالد سعيد ليس حادثة فردية وما حدث بين القضاة والمحامين أيضا ليس حادثة فردية وإذا اعتبرناهما كذلك فمن المؤكد أنها ستتكرر.
> كل يوم هناك حوادث قتل وتعذيب داخل أقسام الشرطة..لكن لم تخرج مظاهرات احتجاجية كما حدث مع شهيد الإسكندرية.. لماذا؟
- لأن حادثة التعذيب وقعت في الشارع أمام الناس، و الصحف ووسائل الإعلام نشرت صوره بعد الضرب والتعذيب، وأسرته نشرت في المقابل صورة جميلة جداً للشاب قبل التعذيب تثير التعاطف، هذا كله عمل إعلامي واستفز مشاعر المصريين.
أيضا وزارة الداخلية أخذت موقفا دفاعيا و أصدرت بيانا تقليديا أدانت فيه خالد سعيد ووصفته بـ«الحشاش والخارج عن القانون» هذا أمر استفز مشاعر المواطنين.
> هل قتل خالد سعيد بهذا الشكل كان يحمل رسالة من النظام إلي الشعب؟
- كنت أتمني أن يكون الهدف مما حدث هو توصيل رسالة لكن هذا لم يحدث فالرسالة تعني أن هناك جهازا مركزيا يرسل رسالة، لكني متأكد أن ما حدث لا يحمل أي رسالة، أنما تعبير صريح علي أن العنف أصبح سلوكاً عاماً، يمارس حتي دون توجيه أوامر مباشرة، هذا بعكس ما حدث في مقتل شهدي عطية الذي كان فعلا يحمل رسالة أن الشيوعيين مستهدفون، لكن في قضية خالد سعيد لا توجد أي رسالة لأن الرسالة المطلوب توجيهها أصبحت بداخلنا تشبعنا بها وتربينا عليها وأصبح التعذيب سلوكا عاديا.
> بدا في الفترة الأخيرة وكأن هناك صداما مابين القضاة والمجتمع، في البداية كانت هناك أزمة تولي المرأة منصب قاضية بمجلس الدولة، ثم أزمة القضاة والمحامين، ثم الكنيسة والقضاء بعد الحكم بحق المطلقين الأقباط من الزواج.. هل أصبحت هناك أزمة ثقة بين القضاة والمجتمع؟
- في رأيي الأزمة بدأت عندما شاهدت الناس القضاة وهم في مظاهرات، بمعني أنني حينما أشاهد القاضي في مظاهرة وأتضامن معه ثم أتقدم أمامه في المحكمة أليس من الممكن أن يتحيز لي، و العكس لو كنت ضده سيتحيز ضدي، لذلك فمنذ قديم نعرف أن القاضي لا ينبغي أن يري و لا يحتك بالناس لأنه رمز للعدالة والحيادية والانتصار إلي القانون.
> هل تري إذن أن تظاهر القضاة هو الذي هز صورتهم... و ماذا عن القضاة الذين اتهموا بتزوير الانتخابات ألم يكن هذا سببا أدعي لوجود أزمة ثقة بين المواطن والقاضي؟
-هذا بالطبع ترك أثرا، لكن جوهر القضية في أنه حينما يشتبك كقاض في الممارسات اليومية سواء كانت تزويراً أو إدانة تزوير أو رأيه في السياسة أصبح هنا شخصا عاديا مثله مثل أي شخص، هذا هو جذر اهتزاز صورة القضاة.
> وهل هناك أسباب إضافية في أزمة القضاة والمجتمع غير تظاهرات القضاة؟
-ليس تلك هي الأسباب الوحيدة، لكن هناك أسبابا أخري كشفت عنها الأزمة الأخيرة بين المحامين والقضاة فإذا بحثنا في جوهر القضية نجد أن وكيل النيابة حاصل علي «مقبول» والمحامي دفعته حاصل علي تقدير «جيد» ، فالأول أصبح وكيل نيابة والثاني محامياً، هنا جذر الإحساس بالعنف الذي يفجره هو الإحساس بالظلم وغياب الشفافية، حسب ما يعلن رسميا أن هناك دفعة تكميلية من القضاء لأبناء المستشارين ، إذن لو أنا رفعت قضية أمام قاض أتظلم فيها من تعيين شخص علي حسابي بالاستثناء، والقاضي نفسه الذي يحكم معين أصلا بالاستثناء فكيف يكون حكمه؟!
-قديما كان هناك استثناء لأبناء أساتذة الجامعة في التعيينات ونجحنا في إلغائها لكن ماذا عن أبناء المستشارين والقضاة، هناك تساؤلات مهمة إذا لم نجد أجابه عنها سيزداد الإحساس بالظلم في ظل مناخ عام يؤكد علي أن استرداد الحق بالقوة يؤدي إلي أن العنف سيزداد.
لذا فلا أتصور أن المخبرين الذين ضربوا خالد سعيد كانت لديهم تعليمات صارمة من قبل وزارة الداخلية بضربه وقتله، هذا أمر أخطر حيث يؤكد أن العنف أصبح ثقافة الجميع ومنهجاً عاماً بل وسلوكا عاديا في التعامل علي جميع المستويات.
> هل غياب تلك الثقة كانت سببا - من وجهة نظرك - في تشكيك أسرة خالد سعيد ومنظمات المجتمع المدني بل أغلبية الشارع المصري في تقارير الطب الشرعي وبيان الداخلية، بل ولديهم إحساس مسبق أن حق خالد سيهدر؟
-لم ير أحد منا ما حدث مع خالد سعيد وكانت أمامنا روايتان ونفرض أن كلتيهما مقنعتان الرواية الأولي لأسرة خالد سعيد والثانية للداخلية، أنا أقرب إلي تصديق رواية الأسرة، وليس رواية الداخلية لماذا؟ لأن الداخلية هي الطرف الأقوي والأقدر علي التزييف، خصوصاً أن الضحية هذه المرة ليس عليه خلاف فهو لا ينتمي لأي فصيل سياسي، ولا هوية سياسية له فهو واحد من صفوف الجماهير العادية.
> هل التركيبة النفسية لرجل الشرطة اختلفت عما كانت من قبل، بمعني أن من عذب شهدي عطية كان يري أنه عدو للوطن لأنه شيوعي ومن ثم خلق لنفسه مبررا لتصرفه، لكن خالد سعيد لم يكن عدوا فهو شاب عادي ورغم ذلك ضربه المخبر حتي الموت؟
- الناس تعلمت أن الذي يمارس العنف هو الأقوي، ومن ثم لم نعد بحاجة لمبرر أن الذي يعتدي عليه هو فقط عدو الدولة.
إذا أردنا علاج هذه الظاهرة فلابد من ترسيخ ثقافة السلام التي يخشي الجميع الحديث عنها خوفا من اتهامه بالتطبيع، ذلك لأن السلام أصبح ذهنيا مرتبطا بعملية التطبيع، إذا نجحت الصهيونية في شيء فهي نجحت في أن تصدر لنا فكرة التطبيع وإدانة السلام، ذلك لأنها تعرف جيدا أن السلام ضدها ونحن التقطنا تلك الفكرة وتشبعنا بها، حتي وصل الأمر إلي أن من يدعي السلام فهو شخص خائن.
والدليل هل هناك وحشية أكثر من وحشية الإسرائيليين الذين قتلوا النشطاء المدنيين علي أسطول الحرية؟ لا طبعا.. إلا إن إسرائيل تعلن دائما أنها مع السلام ، ونحن نعلن أنه علينا سحب مبادرة السلام، وإسرائيل التي تقتل هي التي تقول إنها مع السلام، ومن ثم الذي نتج عن غياب ثقافة السلام هو انتشار وتعزيز ثقافة العنف التي لم تعد موجهة ضد إسرائيل لكنها أصبحت سلوكا عاما في المجتمع.
> وهل تسمح ثقافة العنف تلك لرجل الشرطة بقوة إضافية؟
-من بين آلاف طلاب الثانوية العامة يتخرج كل من ضابط الشرطة و الحرامي ووكيل النيابة وأستاذ الجامعة والقاضي، بمعني أن ضباط الشرطة ليسوا نسيجا غريبا عن المجتمع، لكنهم إفراز طبيعي لثقافة وتعليم هذا المجتمع، والمناهج التعليمية نفسها التي تم تدريسها بالمدارس، فالجميع أبناء هذه الثقافة، إذن لا يمكن لنا أن نسيد الفكرة ونقول إن رجال الشرطة لديهم عنف، علينا أن نجيب أولا عن هذا التساؤل هل هم أبناء مجتمع وثقافة أخري أم أنهم أبناء البيئة الثقافية والاجتماعية نفسها التي تربينا بها.
> لكن هناك آراء تقول إن التربية الشرطية والمناهج التي يدرسونها داخل كليات الشرطة هي المكون الرئيسي لثقافة العنف لدي الضباط؟
- غير صحيح.. لأن من يدخل كلية الشرطة يلتحق بها وهو بالغ من العمر 18 عاما يعني تشبع بكل القيم والأفكار التي تربي عليها داخل أسرته والمدرسة وتم تشكيل ثقافته ووعيه، الشخصيه تكون أثناء الطفولة والمراهقة، ما بعد ذلك مجرد تفاصيل.
كما إنني قمت بمراجعة مقررات كلية الشرطة، ووجدت أنهم يدرسون مادة حقوق الإنسان، و الحقوق لكنه في النهاية هذا الشرطي ابن مجتمعه، يعود إلي خلفيته الثقافية والقيم التي تربي عليها منذ طفولته.
> هل المناهج التعليمية طرف أساسي في ذلك؟
- هناك ما هو أخطر من المناهج وهو المناخ الثقافي العام الذي يعزز ثقافة القوة وأن الضعيف لا مكان له، والقوة للأغلبية ومن ثم تقمع الأقلية.
> لكن طالما بقيت السلطة للأقوي إذن هذا يعني سقوط دولة القانون؟
-هناك دولة قانون، لكن رجال القانون أنفسهم أبناء ثقافة هذا المجتمع وهي ثقافة العنف، لذا علينا أن نشغل أنفسنا بالسؤال الأهم وهو وماذا بعد؟
> و ماذا بعد وكيف نواجه ذلك من وجهة نظرك؟
-أعيد صياغة الثقافة العامة والتأكيد أن السلام هو الثقافة البديلة للعنف وهو الحل بدون خجل وإذا كانت الناس تروج أننا استعدنا سيناء بالقوة فهذا غير صحيح بالقوة استعدنا 15 كيلو وبالمفاوضات استعدنا باقي أراضي سيناء وبالتحكيم الدولي أخدنا طابا، من لديه كلام خلاف ذلك يرد به.
بالقوة لم ندخل تل أبيب ولم نصل رفح، أحدثنا خسائر كبيرة في الجيش الإسرائيلي أحدثت له صدمة علي أساسها تفاوضنا فتم الرجوع من قبل العدو لحدودنا الدولية ثم لجأنا إلي المحكمة الدولية لاسترداد طابا... تلك هي حقيقة ما حدث وهذا ما لا يقال لأن هذا يكسر فكرة العنف ويؤكد أن المفاوضات والتحكيم الدولي من الممكن أن تأتي بنتائج.
> لكن المفاوضات أحيانا كثيرة لاتصل إلي نتائج والدليل اعتصامات واحتجاجات العمال أمام مجلس الشعب؟
-كان هناك إضراب في كفر الدوار اشترك فيه 20 ألف عامل، كان إضرابا منظما نقابيا ليس له أي طابع سياسي حل بالمفاوضات، كلا الطرفين العمال وصاحب العمل وصلا إلي حل وسط يرضي الطرفين، لم يركز أحد علي دراسة ما حدث، وحتي إضراب الضرائب العقارية نجح، لأنهم خاضوا مفاوضات طويلة حققوا من خلالها مكاسب جيدة.
أما عمال «أمونسيتو» فاعتصم منهم عدد محدود أمام مجلس الشعب، من ثم أصبح الأقلية هم الغاضبين أما الأغلبية هي التي ارتضت إلي ما انتهت إليه المفاوضات الأولي، لذا لم يهتم بهم أحد، لو تصورنا إضراب الضرائب العقارية كان بعدد محدود هل سيكون لها النتائج نفسها التي حققوها من المؤكد لا، ذلك لأن قوتهم من عددهم وأن الجماعة علي قلب رجل واحد وتلك هي قوانين الإضراب.
> كيف كانت قراءتك لمشهد الاعتصامات المتتالية أمام مجلس الشعب وهتاف البعض ضد أعضاء المجلس؟
-لفت انتباهي ما هو أخطر من وجهة نظري، وهو أنني شاهدت هؤلاء مضربين ويهتفون والمرور يسير والناس تمر من أمامهم دون أن يتضامن معهم أي شخص عادي، لماذا لم يتعاطف الناس معهم؟ لأن الاعتصام عندما يكون محدود العدد لا يجد تعاطفا.
كما أن مشهد الاحتجاجات والاعتصامات بشكل عام في مصر أمر مهم وجيد،وتلك ظاهرة لم تعرفها البلدان العربية باستثناء لبنان وفلسطين، وباقي الدول العربية ما زال أمامهم نصف قرن حتي يعرفوا المظاهرات، وهذا ليس معناه أنهم سعداء بما هم فيه الآن، لكن مصر رغم كل المشكلات التي تمر بها لكنها أكثر الدول العربية تحضرا«شعبا وسلطة»، رغم أن السلطة تقاوم المظاهرات لكن مقاومتها لها ليس كما يحدث بدول أخري تقاوم مجرد التفكير في تنظيم المظاهرات، في مصر مدونات في حين أنها محظورة في كثير من البلدان العربية، هذه ظاهرة إيجابية تحسب لنا ولو كانت المدونات تحت المراقبة وهي ممكن أن تكون كذلك، من الممكن أن تكون السلطة تستفاد من هذا الوضع وتتباهي به لكن في النهاية يحسب لها.
> هل ضعف عدد المتظاهرين فقط هو الذي لا يثير تعاطف الناس معهم أم لأنهم يطالبون بمطالب خاصة جدا تخصهم و حدهم ولا تعبر عن مشكلات الأغلبية؟
- البعض يوصف هذا بأنه احتجاجات مطلبية، وأن المظاهرة الحقيقية هي التي تكون علي أساس مطالب سياسية، أما المظاهرات في كل دول العالم فأغلبها مظاهرات مطلبية، وليست سياسية بمعني أنه لا ينبغي أن نحتقر المظاهرات القائمة علي مطالب فئوية لأنها أمر مهم.
> السؤال التقليدي الذي لا نمل من طرحه وهو لماذا لا يثور المصريون؟
-الثورة لها قوانين وهي أن يعي الشخص بظلمه، ثانيا لا يوجد أي أمل في بقاء الوضع عما هو عليه، وأن يكون هناك أمل في أن الثورة ستحقق الهدف المطلوب تلك هي الشروط الرئيسية التي تدفع إلي الثورة وبدونها لن تحدث.. وتلك القوانين لم تتوافر بعد لدي المصريين.
> ألا تعتبر احتجاج المصريين علي ما حدث لخالد سعيد شكلا من أشكال الثورة أو خطوة نحوها؟
-من خرجوا احتجاجا علي ما حدث لخالد سعيد اتخذوا موقفا جيدا لكن علينا أن نسأل أنفسنا في البداية هل هم خرجوا احتجاجا علي العنف والظلم بشكل عام أم احتجاجا علي هذا الشكل تحديدا من فقط أم ضد العنف بشكل عام

الخميس، 1 يوليو 2010

نقاط مضيئة

http://www.ahram.org.eg/214/2010/07/01/10/27387.aspx

نقاط مضيئة[1]
د. قدري حفني
kadrymh@yahoo.com

تسود مزاجنا القومي هذه الأيام غلالة قاتمة. صراع بين القضاة و المحامين، و صراع بين الكنيسة الأرثوذكسية و المحكمة الإدارية و العلمانيين الأقباط، و اهتزاز لمصداقية –ولا نقول صدق- مؤسسة الطب الشرعي. إنها صراعات تدور بين مؤسسات ألفنا أن تكون ملاذنا حين تعوزنا الحكمة و نلتمس العدل. و تذكرت قول الشاعر القديم
سيذكرني قومي إذا جد جدهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
ترى أي بدر نفتقده في ظل تلك الغلالة القاتمة؟ من الشائع في مثل هذا الموقف أن يتلفت المرء خلفه ليبحث عن بدره الذي غاب، و لكنه بحث لا يخلف إلا مزيدا من اليأس، فالماضي لا يعود. و حاولت أن ألتمس نجوما متناثرة ما زالت تلمع رغم حلكة الظلام.
أعرف أن مثل تلك المحاولة لن تجد ترحيبا لدي العديد من أصدقائي و رفاق دربي الذين أصبحوا يضيقون كل الضيق بأي بارقة ضوء تبعث علي الأمل في المستقبل، و تجدهم يهزون أكتافهم و يهمهمون: إنها مجرد حالات فردية أو أنهم مجرد قلة لا دلالة لها؛ و لكن ألا تستحق تلك الحالات الفردية أو تلك القلة أن ندعمها و نتمسك بها فلعلها تنتشر و لعلها و هو الأهم تؤكد أن بيننا من لا يزالون يصنعون الأمل.
"لقد هجر الشباب المصريون السياسة و أولوا ظهورهم لها و لم يعد يعنيهم سوي توافه الأمور" كثيرا ما سمعنا و رددنا مثل تلك العبارة حتى كادت تصبح من المسلمات. و غالبا ما نترحم نحن المسنون علي أيامنا الجميلة حيث كانت الجامعة تهدر بالتيارات السياسية. و على أي حال فإن انصراف غالبية المصريين شبابا و كهولا عن المشاركة في الانتخابات حقيقة لا يماري فيها أحد، و لكن هل يعني ذلك بالضرورة انصراف الشباب عن السياسة إذا ما اعتبرنا أن الانشغال بالهم الوطني هو جوهر الممارسة السياسية. و لقد أقدمت مؤخرا على إقحام نفسي علي عالم كان يبدو غريبا علي، هو عالم المدونات و الفيس بوك؛ و وجدتني بين أمواج من الشباب يتحدثون عن هموم الوطن. غالبيتهم غاضبون و بعض الغاضبين يعبرون عن يأسهم من المستقبل، و لكن البعض –وهم ليسوا قلة- يترجمون غضبهم إلي أفعال و ممارسات احتجاجية متفاوتة. صحيح أن البعض منا نحن المسنون قد يضيق باندفاعهم و قد تصدمه بعض تعبيراتهم، بل و قد يشفق عليهم و لكن أحدا لا يستطيع أن ينكر عليهم حبهم لمصر و إقدامهم علي القبول بدفع ثمن ذلك الحب الذي قد يكون باهظا. تري ألا يمثل هؤلاء الشباب نقطة ضوء؟
لنترك هؤلاء قليلا و لننظر إلي نقطة ضوء أخري تتمثل في "مجدي يعقوب" الذي يعد واحدا من أشهر ستة جرّاحين للقلب في العالم، ويعدّ ثاني جرّاح يجري عملية زراعة قلب ، وقد قام بحوالي ألفي عملية قلب، وذلك على مدار 25 عاماً أنقذ فيها حياة آلاف المرضى. و قامت ملكة بريطانيا بمنحه لقب "سير" عام 1991، و إذا به بعد أن تقاعد و تقدم به العمر يسخر خبرته و علاقاته و ماله لخدمة الفقراء في وطنه فيقيم في عام 2008 مؤسسة لأمراض و أبحاث و جراحات القلب في أسوان، و هي مؤسسة تمولها التبرعات.
و لم يكن غريبا أن تلتحم نقطة الضوء هذه بنقطة ضوء أخري متمثلة في مؤسسة "مصر الخير" التي قدمت لمؤسسة مجدي يعقوب مؤخرا أحدث جهاز قسطرة قلبية بتكلفة 4.9 مليون جنيه، وذلك فى إطار اتفاقية التمويل والبروتوكول الموقع بين المؤسستين وقام بتوقيع الاتفاقية فضيلة المفتى الدكتور على جمعة رئيس مجلس أمناء مؤسسة مصر الخير، والسفير الدكتور محمد شاكر رئيس مجلس أمناء مؤسسة مجدي يعقوب، والأستاذ الدكتور مجدى يعقوب باعتباره نائبا لرئيس مؤسسة مجدي يعقوب. أليست تلك نقطة ضوء لامعة.
ثمة نقطة مضيئة أخري تتمثل في مركز غنيم لأمراض و جراحات الكلي والمسالك البولية بالمنصورة و الذي بدأ في عام 1976 حيث التقت مجموعة من الأطباء الشبان المجهولين و معهم الدكتور محمد غنيم و قاموا بإجراء أول عملية نقل كلي في مصر بأيد مصرية في مستشفي المنصورة الجامعي القديم، ورغم الإمكانيات المتواضعة نجحت العملية، مما شجعهم علي التفكير في إنشاء مركز متخصص لجراحة الكلي والمسالك البولية في مدينة المنصورة التي تتوسط الدلتا حيث تنتشر البلهارسيا، و في عام 1978، جاء الرئيس السادات لزيارة المنصورة، و زار المستشفي الجامعي و قابل مجموعة الأطباء الذين أجروا أول عملية نقل كلي، و أصدر قرارا بتعيين الدكتور غنيم مستشارا طبيا في رياسة الجمهورية ليتمكن من تذليل العقبات البيروقراطية المتوقعة، و انتهي العمل في المركز عام 1983و مر عليه الآن 24 عاماً كاملة استقبل خلالها آلاف المرضي الذين تتلقي غالبيهم العظمي العلاج بالمجان، و اكتسب المركز سمعة دولية هائلة. أليست تلك نقطة ضوء ما زالت تسطع رغم كل شيء؟
أستأذن في نقطة ضوء أخيرة تتمثل في مستشفي الحوض المرصود للأمراض الجلدية التي لم أكن أعرف عنها شيئا إلي أن عرفتها من خلال أحد معارفي من العمال الفنيين. أصيب طفله الصغير بمرض جلدي و تردد صاحبي بالطفل علي عيادات الأطباء دون جدوى إلي أن نصحه البعض بالتوجه إلي مستشفي الحوض المرصود، و تردد صاحبي و لكنه قرر المحاولة. فوجئ بالزحام و لكن علي حد تعبيره كان زحاما منظما. وقف في الطابور و قطع تذكرة كشف بجنيه واحد فقط و اتجه للكشف علي طفله. ثلاثة أطباء يتشاورون بالنسبة لكل حالة و كتبوا له العلاج. اتجه للصيدلية و دفع جنيه واحد ثمن العلاج. غادر المكان متشككا و لكن أحوال الطفل تحسنت.
أعرف المزيد من نقاط الضوء، و أعرف أنها جهود فردية و متناثرة، و أنها لا تعني بحال أن الصورة وردية، و لكنها تعني يقينا أن الأمل ما زال قائما، و علينا أن نرعاه.
[1] الأهرام أول يوليو 2010

الجمعة، 25 يونيو 2010

فلسطين بين جهود الإغاثة و جهاد التحرير

فلسطين بين جهود الإغاثة و جهاد التحرير[1]

توالت قوافل إغاثة الفلسطينيين المحاصرين في غزة. و شهدنا و شهد العالم بطولة من يخترقون الحصار الإسرائيلي، و شهدنا و شهد العالم مدي وحشية جنود إسرائيل و هم يطلقون النار و يقتلون أولئك المدنيين العزل الذين لا ينقلون سلاحا و لا ذخيرة بل طعاما و أدوية و مواد بناء و تجهيزات طبية. لقد احتشد علي ظهر تلك السفن أقوام من جنسيات شتي لا يجمع بينهم سوي إحساسهم الرفيع بالإنسانية و التزامهم بنجدة المظلوم. منهم المسلم و المسيحي و اليهودي و من لا دين له بل و الملحد أيضا. و ليس من شك في أنه من الطبيعي أن ننبهر بتلك المشاهد الإنسانية، و أن نشيد بأصحابها.
و لكن ذلك كله لا ينبغي أن يصرفنا عن حقيقة أن جوهر ما يعاني منه الشعب الفلسطيني هو الاحتلال الإسرائيلي. يستوي في ذلك أبناء غزة و أبناء القطاع و عرب 48 و اللاجئون الفلسطينيون، و فلسطينيو الشتات. و من ثم فينبغي أن نميز تمييزا قاطعا بين إنهاء الحصار و إنهاء الاحتلال؛ فليس كل محاصر محتل، و ليس كل محتل محاصر. لقد ظلت مصر و الجزائر مثلا تحت الاحتلال العسكري لسنوات طويلة مع بقاء موانيها و مطاراتها و حدودها مفتوحة. كذلك فقد حوصرت ليبيا و نري القرارات تتوالي بحصار إيران و أي من الدولتين لا يعاني احتلالا.
و لو تصورنا أن الضغوط الدولية و الجماهيرية المتصاعدة أجبرت إسرائيل يوما علي فتح كافة المعابر مع فلسطين المحتلة بما فيها مطار غزة و ميناءها، فإن ذلك كله رغم قيمته بالنسبة لحياة الفلسطينيين اليومية، لا علاقة له بتحرير فلسطين و عودة اللاجئين.
إن إغاثة الفلسطينيين مسئولية العالم كله أو ينبغي أن تكون كذلك، أما تحرير فلسطين فهي مسئولية الشعب الفلسطيني أولا، فهكذا كانت حركات التحرر عبر العالم و علي امتداد التاريخ، و لا يعني ذلك بحال أي إقلال من أهمية مساندة حركات التحرر. و لكن لا يتصور بحال أن المساند يمكن أن يحل محل ذلك الشعب.
إن تأكيد تلك الحقيقة بات ضروريا مع تصاعد نغمة تتساءل "هل باع العرب قضية فلسطين". و هنا ينبغي أن نؤكد أن فلسطين ليست قطعة أرض معروضة للبيع، بل إنها شعب له تاريخ نضالي طويل، و أنه لم يكف لحظة منذ قامت دولة إسرائيل عن ممارسة كافة أشكال النضال للتحرر من الاحتلال و إقامة دولته المستقلة. و ليس من إهانة للشعب الفلسطيني –فيما أري- أشد و لا أقسي من تصور أن شعوبا أو نظما أخري تتحمل المسئولية الأولي عن تحريره.
ليس مفهوما مثلا مطالبة تركيا أو غيرها بأكثر مما تراه هي مناسبا، فإسرائيل لا تحتل أرضا تركية و لا إيرانية و لا حتى مصرية؛ و الحديث هنا عن الاحتلال العسكري و ليس عن النفوذ أو الاتفاقات العسكرية و المعاهدات الدبلوماسية؛ و لذلك فالجهد التركي و الإيراني و المصري و العربي و الإسلامي لا تعدو أن تكون جهودا مساندة للشعب الفلسطيني صاحب القضية. صحيح أنه علي جميع القوي الوطنية في العالم أن تتضامن لمساعدة الشعب المحتل علي تحقيق ما يريد، و أن تضغط الشعوب علي حكوماتها لمزيد من تلك المساندة، و لكن ليس مقبولا من أحد إهانة الفلسطينيين بزعم أن تحرير بلدهم مسئولية أحد غيرهم.
و ما دام تحرير فلسطين مسئولية الفلسطينيين في المقام الأول، فإن لهم وحدهم اختيار أسلوب المقاومة و نوعها و توقيتاتها، و علينا مساعدتهم قدر ما نستطيع دون أن نفرض عليهم اختياراتنا نحن حتى لو بدت لنا تلك الاختيارات صحيحة. ليس لأحد منا كائنا من كان أن يفرض علي الفلسطينيين التفاوض، أو يفرض عليهم القتال، و ليس لأحد غير فلسطيني أن يخون المتفاوض أو يتهم المقاتل بالتهور.
و يواجهنا هنا زعم ظاهره الرحمة و باطنه العذاب، فالبعض يردد أن الفلسطينيين لا يقدرون علي مواجهة إسرائيل بآلتها العسكرية الجبارة بمفردهم، و أن مصر هي القوة العسكرية الوحيد القادرة علي تلك المواجهة، و طالما أنها قيدت نفسها باتفاقية السلام؛ فعلي فلسطين السلام.
و رغم أن تضخيم أهمية مصر أمر قد يداعب غروري كمصري، و لكنه يجافي الحقيقة: لمصر في الجامعة العربية صوت واحد من 22 صوت، و صحيح إن مصر أكثر الدول العربية سكانا و لكننا لا نمثل سوى ربع تعداد العرب أو أقل قليلا، و ثروة مصر لا تمثل سوى جانب محدود من الثروة العربية، و ينعكس ذلك بطبيعة الحال علي قدرتها علي شراء و تصنيع الأسلحة، و من ثم فليس مؤكدا أن لديها من السلاح أكثر مما لدي بقية العرب الذين لا ينبغي التهوين من مجمل قدراتهم.
و فضلا عن ذلك، فإن التاريخ يعلمنا أن القوي الإستراتيجية للشعب المحتل تفوق تلك القوي الإستراتيجية لدي المحتلين، و من هنا كان صدق مقولة أن النصر للشعوب دائما، و تزيد تلك المقولة صدقا في حالة الاحتلال الاستيطاني حيث لا إمكانية لتلافي الاشتباك اليومي اقتصاديا و سكانيا، و ليست فلسطين باستثناء في هذا الصدد: الفلسطينيين يزيدون عن عشرة ملايين تقريبا، منهم مليون أو أكثر قليلا في قلب أحشاء إسرائيل فعلا، و حوالي ثلاثة ملايين في الضفة و القطاع مشتبكون اقتصاديا و سكانيا بإسرائيل، و ثمة احتياطي استراتيجي فلسطيني يتمثل في حوالي ستة ملايين فلسطيني بين لاجئ و مغترب.
خلاصة القول إن الفلسطينيين هم الأقدر عمليا علي تحرير فلسطين، و القول بغير ذلك لا يعني سوي إهانة الشعب الفلسطيني و إهدار تاريخه النضالي، و تذويب حلمه بدولته المستقلة، حتى لو تخفي ذلك الهدف "الصهيوني" برداء الانتماء العربي أو الإسلامي للشعب الفلسطيني.

[1] الأهرام الخميس 17 يونيو 2010
من شهدي عطية الشافعي إلي خالد محمد سعيد
في الثالث عشر من يونيو 1960 و من وراء أبواب الزنازين المغلقة في معسكر التعذيب الشهير أوردي أبو زعبل سمعنا –نحن المعتقلون- صرخات الضباط الجلادين يصدرون أوامرهم لتنهال العصي علي جسد شهدي عطية الشافعي حتى أسلم الروح، و ورد في التحقيقات التي أجرتها النيابة العامة وسلطات السجن أن وفاته قد حدثت من جراء سقوطه من أعلي سلم السجن حال دخوله، و لكن حين تم فتح التحقيق من جديد بعد أن تسرب خبر القتل كشف التحقيق الجديد عن حقيقة مختلفة تماما: أن شهدي قد توفي بليمان أوردي أبو زعبل نتيجة اعتداء رجال الشرطة عليه بالضرب.
جرت تلك الوقائع في 15 يونيو 1960 أي منذ نصف قرن بالتمام و الكمال و بينما يستعد رفاق شهدي عطية الشافعي لإحياء ذكراه، يشاء القدر أن تحدث واقعة قتل المواطن الشاب خالد سعيد الذي لم يتجاوز الثامنة و العشرين في 7 يونيو 2010 ربما ليجسد الفارق بين الواقعتين مسيرة ثقافة التعذيب في بلادنا.
كان شهدي مناضلا سياسيا معارضا للدولة و كان اعتقاله و تعذيبه بأوامر من السلطة المركزية التي استطاعت –حين أرادت- أن تصدر قرارا بإيقاف نوع محدد من أنواع التعذيب الذي اختارت له تعبيرا رقيقا هو "الإكراه البدني، بينما كان خالد سعيد شابا مصريا "عاديا" لم يعرف عنه انتماء سياسي يثير حقد النظام و غله؛ و بالتالي فمن المستبعد أن يكون قرارا قد صدر بتعذيبه من السلطة المركزية، و ذلك هو الأخطر فيما نري.
و بينما انتشر نبأ مقتل شهدي من خلال نعي سربته أسرته في صفحة الوفيات بجريدة الأهرام، فإن مقتل خالد سعيد انتشر فورا بالصوت و الصورة عبر أركان المعمورة. لقد تغير العالم من حولنا عبر ثورة الاتصالات و شاهد الجميع تفاصيل ما حدث، غير أن الشيء الذي لم يتغير هو أسلوب تعامل السلطة المحلية و المركزية علي السواء: الضحية هو المسئول عما حاق به: "خالد محمد سعيد توفي نتيجة ابتلاعه كمية من المخدرات عندما اقتربت منه الشرطة".
و بينما وقعت جريمة قتل شهدي عطية في معسكر للتعذيب بعيدا عن الجماهير؛ فقد جرت واقعة قتل خالد سعيد أمام أعين العديد من المواطنين، و دفع صاحب مقهى الإنترنت بالمخبرين و بضحيتهم خارج مقهاه حرصا علي استمرار العمل بينما المخبرون يسحبون ضحيتهم للخارج باعتبار أن ما جري أصبح من الأمور المعتادة، كذلك فقد أورد شهود العيان أنهم استرحموا الجلادين ليكفوا عن عملية القتل فزجروهم فابتعدوا. لقد تعمقت ثقافة التعذيب إذن لتصبح ثقافة جماهيرية بحيث أصبح موقفنا من التعذيب موقفا سلبيا و ردود فعلنا المباشرة ردودا خافتة، فضلا عن أن ممارسة التعذيب لم تعد تحتاج إلي أوامر محددة من السلطة المركزية.
تري هل وقعنا جميعا في غواية العنف بوجهيها: ممارسة العنف و الاستسلام له